السودان: «سيول طوكر» تكشف هشاشة الدولة أمام المناخ المتطرف

عاين- 19 سبتمبر 2025

تواجه مدينة طوكر شرق السودان كارثة متجددة مع اجتياح السيول وانهيار البنية الزراعية والحواجز، في مشهد يكرر مأساة العام الماضي. ضاع الموسم الزراعي الذي يُعد شريان حياة للسكان، وتعرضت أحياء سكنية لتدمير واسع. وبينما يُحذّر خبراء من أثر التغير المناخي وضعف البنية التحتية، يوجّه الأهالي أصابع الاتهام لسوء إدارة الموارد وفشل خطط الري، مطالبين بإصلاح جذري وهيكلة المشروع الزراعي.

طوكر، المدينة الزراعية الواقعة على دلتا خور بركة شرق السودان، تحولت خلال عامين متتاليين إلى مسرح لكوارث فيضانية متجددة. فبينما دمّر فيضان أغسطس 2024 آلاف المنازل وأودى بحياة العشرات مع انهيار سد أربعات، عادت السيول في صيف 2025 لتجرف الطرق والجسور وتغمر الأحياء، ما يعكس نمطًا خطيرًا من التكرار السنوي للكوارث دون أن تقابله خطط وقائية فعالة.

الأضرار تجاوزت حدود البنية التحتية لتطال صميم حياة السكان. ضاع الموسم الزراعي في دلتا طوكر، وانهارت عشرات القرى والمنازل، وتشردت عشرات الآلاف من الأسر، فيما بقيت آلاف العائلات في العراء بلا مأوى أو غذاء كافٍ. ومع عزل المدينة عن بورتسودان وانهيار طرق رئيسية، وجد السكان أنفسهم في مواجهة مباشرة مع الفيضانات، معتمدين على الجهود الشعبية ووسائل بسيطة لصد المياه.

استجابة متأخرة

ورغم التحذيرات المبكرة من الأرصاد، جاءت استجابة السلطات متأخرة ومجزأة، اقتصرت على زيارات رسمية وقوافل محدودة، بينما يشير الخبراء إلى أن التغيرات المناخية زادت حدة الظواهر المتطرفة، وجعلت السيول والفيضانات أكثر تواترًا. هذا التداخل بين قصور الإدارة المحلية وتبدلات المناخ العالمي يضع طوكر ودلتا بركة في صدارة مناطق الخطر المناخي في السودان، ويثير أسئلة ملحة حول جدوى التخطيط الحالي وقدرة الدولة على حماية مواطنيها.

لم تقتصر آثار السيول على طوكر وحدها، بل امتدت لتشمل أجزاء واسعة من شرق السودان مثل القنب والأوليب وجبيت وأربعات، كما طالت ولايات أخرى في البلاد خلال الموسمين الماضيين، حيث انهارت جسور وقطعت طرق رئيسية وتشردت آلاف الأسر.

هذا الاتساع في رقعة الكارثة يعكس بوضوح أثر التغير المناخي، إذ باتت أنماط الأمطار أكثر غزارة وتقلبًا، والسيول أكثر شدة وتكرارًا، ما يجعل مناطق متعددة في السودان عرضة لخطر متزايد يتجاوز قدرة المجتمعات والبنى التحتية الضعيفة على الصمود.

سيول وفيضانات في مدينة طوكر شرقي السودان

محمود صالح، ناشط مجتمعي بمدينة طوكر، قال إن المنطقة تأثرت هذا العام بصورة كبيرة بالسيول، حيث كان الأثر الأكبر هو ضياع الموسم الزراعي الذي ينتظره الأهالي بفارغ الصبر.

وأوضح أن المياه انحرفت من مسارها الطبيعي في دلتا طوكر لتدخل إلى داخل المدينة والأحياء السكنية.

وأضاف في مقابلة مع «عاين» أن الأحياء السكنية كانت قد تضررت بشكل شبه كامل في فيضان العام الماضي، ولم ينجُ منها سوى القليل، فيما تكررت الكارثة هذا العام بعدما سلكت المياه نفس المسار السابق، فاجتاحت المنازل المهدّمة مسبقًا وتسببت في تدمير منازل أخرى، لكن بأعداد أقل مقارنة بالعام الماضي.

تحذيرات من كارثة جديدة

وأشار صالح إلى أن المواطنين بالتعاون مع السلطات حاولوا تشييد حواجز لمجابهة الفيضان، غير أن هذه الاستجابة لم تصمد، حيث انهارت الحواجز في اليوم التالي بفعل موجة جديدة من المياه. ورغم أن الخور جف مؤقتًا وانخفض تهديده على المدينة، إلا أن الأهالي تلقوا تحذيرات من سكان المرتفعات بوجود مياه أخرى في طريقها إلى خور بركة، ما ينذر بكارثة جديدة خلال الأيام المقبلة.

ولفت إلى أن الأهالي يلاحظون بالفعل تغيرات مناخية واضحة، منها الارتفاع الشديد في درجات الحرارة وزيادة معدلات الأمطار. لكنه شدّد على أن السبب المباشر لاجتياح السيول يعود إلى فشل خطة الري، حيث كان من المفترض تنفيذها في يناير لإعطاء التربة فرصة للتماسك بعد رفع الجسور، غير أنها لا تُنفذ إلا في يونيو، أي قبل الفيضان بشهر واحد فقط، وهو ما يجعل التربة رخوة وسهلة الانجراف مع أول اندفاع للمياه.

وحمّل المسؤولية لوزارة المالية لعدم إجازة تكاليف الري في وقتها، إلى جانب ضعف متابعة حكومة الولاية وإدارة المشروع التي وصفها بأنها “تفتقد للكفاءة”.

وطرح صالح من وجهة نظر المواطنين حلولًا لمعالجة الأزمة، في مقدمتها تعيين مهندس زراعي مختص لإدارة المشروع، وإعادة هيكلته وتأسيس هيئة زراعية مستقلة تتبع لوزارة الزراعة الاتحادية.

كما دعا إلى فصل الإدارة الأهلية واتحاد المزارعين عن التعيينات السياسية في إدارة المشروع، مشيرًا إلى أن جميع الشخصيات التي تولت إدارة المشروع سابقًا جاءت عبر “ترضيات سياسية” وليست على أساس الكفاءة، وهو ما انعكس سلبًا على أداء المشروع ومصالح الأهالي.

قال دكتور مدثر زروق، خبير الموارد المائية والمناخ، إن فيضانات طوكر وانهيار سد أربعات تعكس واقعًا جديدًا للتطرف المناخي في السودان، موضحًا أن ما يعرف بـ”Climate Extremes” وهو “مصلح يشير إلى الظواهر المناخية المتطرفة” أصبح حاضرًا بشكل متكرر نتيجة التغيرات المناخية.

أمطار غزيرة

وأضاف أن منطقة البحر الأحمر والشمال شهدت في العام السابق كميات أمطار غير معتادة، تُصنَّف ضمن الظواهر المتطرفة، محذرًا من أن هذه الظواهر التي كانت تحدث كل مئة عامً قد تتكرر كل خمسين او ثلاثين أو بل ربما كل عشرين عامًا، مما يجعلها من الأسباب الرئيسية وراء انهيار سد أربعات والفيضانات المدمرة في طوكر. وأكد أن البنية التحتية والمباني في المنطقة لم تكن مهيأة لاستيعاب فيضانات بهذا الحجم.

وأشار د. مدثر زروق في حديثه لـ«عاين» إلى أن الموارد والميزانيات خلال العامين الماضيين وُجهت لقطاعات أخرى، مما انعكس على ضعف جاهزية المؤسسات الأخرى بصفة عامة. ومع ذلك، شدد على أن وزارة الري والموارد المائية سابقًا، ووزارة الزراعة والموارد المائية حاليًا، بذلتا جهودًا كبيرة رغم شُح الموارد وظروف العمل الصعبة، من خلال التنسيق بين الوحدات الهندسية وإعداد التقارير والتوقعات.

انهيارات مماثلة

وأضاف أن ظاهرة انهيار السدود ليست حكرًا على أفريقيا او السودان، إذ شهدت دول متقدمة مثل ألمانيا انهيارات مماثلة بفعل التغيرات المناخية، مما يجعل ما حدث في السودان غير مستغرب في ظل هذا السياق العالمي.

وفي ما يتعلق بالدروس المستفادة، قال زروق إن أبرزها يتمثل في ضرورة إعادة تصميم سد أربعات، إلى جانب إجراء الصيانات الدورية والتشغيل الأمثل، مع وضع أنظمة متابعة دقيقة على مدار اليوم لمراقبة المناسيب وإبلاغ الجهات المختصة أولًا بأول.

ولفت الخبير إلى أن التغير المناخي ينعكس بشكل مباشر على القطاع الزراعي، مشيرًا إلى أن ارتفاع درجات الحرارة يقلل إنتاجية المحاصيل التي تحتاج لدرجات حرارة مثالية للمحاصيل، مما يعني أن إنتاجية الفدان قد تنخفض عندما تزيد أو تنقص درجة الحرارة عن الدرجة المثالية للمحصول.

وأضاف أن الفيضانات العارمة تسهم كذلك في تدمير الأراضي الزراعية. وكذلك يمكن أن تتبع الفيضانات موجات جفاف او العكس، فيؤدي كلاهما إلى مضاعفة المخاطر التي تهدد الأمن الغذائي.

وأوضح د. مدثر زروق أن المجتمعات الريفية في مناطق السيول تحتاج إلى دعم يساعدها على التكيف بدلًا من ترحيلها من الأراضي التي سكنت فيها لآلاف السنين. وقال: “الأهم هو مساعدة هذه المجتمعات على معرفة المناطق الأكثر عرضة للسيول لتجنبها والفترات خلال العام التي يجب تتجنبها، إلى جانب تزويدها بنظم إنذار مبكر تضمن وصول المعلومة في الوقت المناسب”.

سيول وفيضانات في منطقة أربعات ولاية البحر الأحمر
سيول وفيضانات في منطقة أربعات ولاية البحر الأحمر

وأكد د. مدثر زروق أهمية إعادة تأهيل السدود، وتطوير الزراعة المقاومة للمناخ، وتعزيز نظم الإنذار المبكر، لكنه شدد على أن ذلك يحتاج إلى موارد مالية كبيرة لا يملكها السودان في الوقت الحالي. واعتبر أن البحث عن دعم المانحين يمثل خيارًا واقعيًا، خاصة أن للبحوث الزراعية في السودان خبرة واسعة على مستوى أفريقيا والعالم في مجال المحاصيل المقاومة للجفاف والتغير المناخي. وأكد الحاجة لتطوير أنظمة الإنذار المبكر وتوسيع نطاق نشر المعلومات المناخية بما يخدم المجتمعات المتضررة.

تحولات عالمية في المناخ

في معرض إجابته عن سؤال حول العوامل المناخية التي جعلت السودان يشهد هذا العام أمطارًا غزيرة وفيضانات في معظم الولايات، أوضح الخبير البيئي طه بدوي أن ما يحدث مرتبط بتحولات مناخية عالمية واسعة. وقال: الواضح أن العالم كله يشهد تغيرًا مناخيًا.

وأشار إلى أن التغير المناخي هو تحولات في أنماط الطقس ودرجات الحرارة، وهذا أمر طبيعي في بعض مراحله، لكن خلال القرنين الأخيرين تدخل الإنسان بشكل واسع من خلال حرق الوقود الأحفوري، والنشاط الصناعي، وأنماط الحياة الحديثة واستخدامات الطاقة. كل هذه العوامل أدت إلى تغيّر أنماط المناخ”.

ويضيف بدوي في حديثه لـ«عاين» أن تراكم انبعاثات الكربون ساهم في تغييرات كبيرة جدًا، انعكست على الفصول الأربعة المعروفة: “شهد السودان هذا العام صيفًا قاسيًا بدرجات حرارة مرتفعة جدًا في كثير من المدن، وخريفًا شديد الأمطار، وحتى الشتاء في أوروبا وأمريكا كان مختلفًا وصعبًا. هذه كلها ديون للتغير المناخي الذي يعيشه العالم”.

تحديات جيولوجية

وعن انعكاسات هذه الظواهر على الأمن المائي والزراعي في السودان، يقول بدوي إن البلاد تواجه أصلًا تحديات جيولوجية مرتبطة بمشاريع كبرى مثل سد النهضة، إضافة إلى غياب الرقابة المائية في السنوات الأخيرة نتيجة ظروف الحرب. ويضيف: “السيول إذا غطّت المناطق من دون تنظيم يمكن أن تحدث تغييرات كبيرة جدًا في المناطق العمرانية والزراعية، وهذا يؤكد أن التغير المناخي أصبح جزءًا من حياتنا اليومية. فهو لا يعني فقط الأمطار والسيول، بل أيضًا ارتفاع درجات الحرارة وتغير أنماط الطقس، وحتى السلوك البشري والغابات سيتأثران بشكل مباشر”.

ويرى بدوي أن السودان بحاجة إلى مؤسسات فاعلة لدراسة هذه الظواهر. لكنه ينتقد ضعف المؤسسات المعنية، قائلاً: “مؤسسات الدولة التي تعمل في هذا المجال غير مفعّلة. “التغير المناخي عندنا يتم التعامل معه فقط في الاتفاقيات الدولية ليستفيد منه بعض المسؤولين في السفر والمؤتمرات، بينما على أرض الواقع لا توجد مشروعات حقيقية”. “حتى الميزانيات التي تُرصد في المؤتمرات العالمية لا يستفيد منها السودان لأنه لا يقدم مشروعات واضحة”.

خبراء للقيادة

ويؤكد بدوي أن المطلوب هو أن يتولى الخبراء قيادة هذه المؤسسات، وأن تتحول قضية المناخ إلى جزء من تفكير الدولة اليومي: “نحتاج إلى تغيير كامل في مؤسسات الدولة، وأن يكون ملف التغير المناخي حاضرًا بشكل يومي.

ولفت إلى أن رئيس الوزراء كامل إدريس، طرح إنشاء وزارة للبيئة والاستدامة، لكن حتى الآن لم يتم تعيين وزير ولا اعتماد هيكل للوزارة. الموجود فقط هو مجلس البيئة بهيكل قديم وغير فعّال”.

ويرى الخبير البيئي أن البيئة يجب أن تُعامل كالتزام نحو المستقبل، مضيفًا: “إذا تحدثنا عن التنمية، فيجب أن يكون هناك منظور بيئي، وحسابات بيئية، واقتصاد أخضر وأزرق مرتبط بالموارد والبحار. الأمر يحتاج إلى رؤية ثاقبة من المسؤولين، وواضح أننا لم نتكيف بعد مع هذه المتغيرات”.

ويؤكد بدوي على أهمية نظم الإنذار المبكر وتدريب الشباب والعلماء عليها: “يجب أن ندعم هذه المؤسسات بقدرات الإنذار المبكر، حتى يصبح فهمنا للتغير المناخي جزءًا من التفكير التنموي والسياسي في البلد. الأمر صعب جدًا، لكن لا بد من مواجهته”.

ما حدث في طوكر يكشف واقعًا أشمل يعيشه السودان مع تسارع التغيرات المناخية، حيث تدخل البلاد مرحلة جديدة من السيول والفيضانات المتكررة. هذا المشهد يضع المجتمعات المحلية والبنية التحتية الهشة أمام تحديات قاسية، ويجعل من التكيف والتأهيل ونظم الإنذار المبكر ضرورة ملحّة، ليس لطوكر وحدها، بل لشرق السودان ومناطق أخرى على امتداد البلاد.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *