التعدين بـ(السيانيد) يشعل حرب من نوع آخر بجنوب كردفان

عاين – 19 أغسطس 2025

بالتوازي مع القتال المستمر لأكثر من عامين، تدور حرب من نوع آخر في محلية قدير بولاية جنوب كردفان، بين مواطنين رافضين لعمل شركات معالجة مخلفات التعدين التقليدي عن الذهب “الكرتة” باستخدام مادة السيانيد السامة، والسلطات الحكومية ونافذين يدعمون استمرار هذه الأنشطة ذات العائد المالي الكبير، ويمضي الصراع بوتيرة تهدد وحدة المجتمع المحلي نتيجة انقسام حول الموقف من الشركات وعملها.

ومع تصاعد حدة الرفض والمقاومة من قطاعات مجتمعية واسعة في المنطقة لأنشطة معالجة مخالفات التعدين التقليدي لما ينضوي عليها من آثار بيئية وصحية، طرح المدير التنفيذي لمحلية قدير، ما وصفه بالاستفتاء الشعبي، يُحدد من خلاله عمل شركات التعدين أو منعها، وجرى الاستفتاء وسط قادة الإدارة الأهلية، وجاءت نتائجه بتأييد إدارات أهلية،  10 عمد و105 مشايخ لصالح استمرار عمل شركات الكرتة، حسبما أُعْلِن.

لكن هذا الاستفتاء قُوبل بالرفض القاطع من السكان ولجنة مناهضة السيانيد في قدير، وعدم الاعتراف به، وتمسكوا بموقفهم الداعي إلى وقف أنشطة معالجة مخالفات التعدين التقليدي التي تستخدم فيها مادة السيانيد ذات الضرر على سلامتهم، واستمر الأهالي في الاحتجاج والمقاومة، بينما تصدت لهم السلطات الحكومية عبر اعتقالات تعسفية طالت الفاعلين في الحراك المناهض للتعدين وفق ما نقله مراسل (عاين).

وتشهد المنطقة نشاط معالجة مخالفات التعدين التقليدي منذ سنوات عبر شركات لديها تراخيص رسمية من السلطات الولائية والمركزية، لكن هذه الأنشطة توسعت خلال الحرب الجارية، وأصبح الوضع أشبه بالفوضى.

أضرار بيئية

وتُعَالَج مخلفات التعدين التقليدي “الكرتة” من خلال عدة أحواض على الأرض، وتُغمر بالمياه، ومن ثم تضاف لها مادة السيانيد، لاستخلاص الذهب، وأثناء هذه العملية تتسرب المياه على مساحات واسعة في التربة.

ورصد الأهالي تأثيرات واسعة على البيئة يُرجح أنها نتاج لاستخدام مادة السيانيد، بينها نفوق حيوانات وطيور، وموت للأشجار وتلوث في المياه، وظهور أمراض جلدية وغيرها وسط المواطنين، نسبة لقرب عمليات التنقيب في الكرتة إلى المجمعات السكنية في محلية قدير، مما وضع المنطقة وسكانها وسط مخاطر كبيرة.

الاستفتاء محاولة لشرعنة عمل شركات التعدين، ونحن نرفضه بشدة، فلا يمكن الاستفتاء حول صحة وأرواح المواطنين البسطاء

 قيادي بلجنة مناهضة السيانيد

وقال قيادي في لجنة مناهضة السيانيد في محلية قدير لـ(عاين): “نرفض هذا الاستفتاء فهو محاولة إلى إطفاء الشرعية على نشاط شركات التعدين، ولا يعكس أي إرادة شعبية، وقد تعرض الأهالي إلى خداع وتضليل، إذ قيل لهم إن هذه الشركات حكومية وهي أمر واقع ستعمل إذا وافقتم أو لم توافقوا، فمن الأفضل لكم الموافقة لضمان حقوقكم”.

ويضيف: “لا يمكن الاستفتاء على صحة وأرواح المواطنين البسطاء والبيئة، لما يترتب على هذه الأنشطة من أضرار واسعة، ونحن نحذر مما يجري. هذا الاستفتاء يمثل تعدياً كبيراً على البيئة والإنسان والحيوان في قدير. استمرار هذا التعدين سيجعل المحلية بأكملها غير صالحة للسكن والزراعة والرعي، فلدينا خبراء كيمياء أثبتوا وجود الضرر والمخاطر”.

ويشير إلى أن الإدارة الأهلية ولجنة التنمية، وقعتا على اتفاق في منطقة الخلايفة يقضي بموافقتها على عمل الشركات دون الرجوع إلى المجتمع المحلي أو استئذان رأيه، فهم فقط راعوا مصالحهم الخاصة في هذه العملية، فالمسألة برمتها قائمة على المصالح، حسب وصفه.

تنديد بالاعتقالات

وندد عضو لجنة المناهضة الذي فضل حجب اسمه، بالاعتقالات التي طالت عدد من الشباب ناشطين في مقاومة السيانيد، بعد تلفيق تُهم التعاون مع قوات الدعم السريع، أو الحركة الشعبية قيادة شمال (الحلو)، أو الحرية والتغيير، فالجميع بات مهدداً، بينما يتهرب المدير التنفيذي للمحلية عن مقابلة اللجنة، بل ذهب إلى مدينة أبو جبيهة لقضاء إجازته هناك في أوج الأزمة.

ويُشير، إلى أن الصراع يشتمل على مشاكل داخلية وتهديدات كثيرة، وأن ما يحدث في قدير هو صراع مُعقد يهدد بتدمير المجتمع وبيئته، في الوقت الذي يُفترض فيه أن تكون الأولوية للحفاظ على ما تبقى من السلام.

وتعتبر معالجة الكرتة، النشاط الأكثر شيوعا في قطاع التعدين بالسودان، وتعمل عدة شركات متخصصة في هذا المجال من خلال عقود امتياز وتصديق من السلطات الحكومية المعنية، فهي ذات مكاسب سريعة وكبيرة، حيث يستخلص المعدنيين التقليديون 40 بالمئة فقط من الذهب الموجود في الأحجار التي يستخرجونها من باطن الأرض؛ لأنهم يستخدمون معينات بدائية، بينما تأتي الشركات، وتستخرج الـ60 بالمئة المتبقية في “الكرتة” بعد معالجتها بمادة السيانيد.

من جهته، أوضح القيادي الأهلي، عبد الرحيم الشيخ السيد، وهو أحد الموقعين على الموافقة على عمل الشركات، أن الاستفتاء الشعبي على استخدام السيانيد تم على مرحلتين: قبل الحرب وبعدها، فالأوضاع بعد الحرب دفعت الناس إلى إدراك ضرورة معالجة مخلفات التعدين بشكل عاجل، لأن ضررها فاق نفعها، ولهذا، فوض الأهالي الإدارة الأهلية بوفد كامل لإحضار شركات قادرة على المسح ومعالجة هذه المخلفات.

يضيف: “لجنة التنمية المكلفة من القواعد الشعبية قامت بجولة شاملة في الوحدات الإدارية الخمسة، وأُجْرِي استفتاء حول عمل الشركات، والذي كان ناجحا بنسبة 90%”، حيث أجمع الناس على إحضار الشركات لمعالجة المخلفات، مع شرطين أساسيين هما السلامة وحقوق المواطنين”.

وشدد على أن الشركة السودانية للموارد المعدنية تكفلت بمسؤولية السلامة وأي خلل، في حين تكفلت لجنة التنمية بضمان حقوق المواطنين، ونتيجة لذلك، جرت الموافقة على عمل الشركات التي بدأت الآن مرحلة التحضير. وتابع: “هناك معارضون للخطوة، لكن الشركة السودانية تحدتهم بأنهم يأخذون ماء من الأحواض وإعطاءها للحيوانات حال ماتت سيتم وقف العمل”.

تهديد المجتمع

الحكومة الحالية تعمل بمنطق الربح فقط، وهي تعتمد على الذهب لتمويل الحرب، لكن لا يوجد مجال للتفاوض في مسألة السيانيد لضرره

 صحفي من قدير

يقول الصحفي من محلية قدير محمد الخليفة لـ(عاين): إن “قضية التعدين في السودان تتجاوز الجانب القانوني لتصل إلى أبعاد أخلاقية واجتماعية خطيرة، فالتشريعات البيئية في البلاد ضعيفة جدًا، وأن حركات المجتمع المدني في هذا القطاع تكاد تكون غائبة”.

يُشير الخليفة إلى أن السودان، يعتمد بشكل كبير على التعدين التقليدي الذي يستخدم مادة الزئبق، دون أي أدوات سلامة أو توعية للمعدنين. ونتيجة لذلك، لم تُعد العوائد المتحصلة من هذا التعدين بخدمات للمجتمع.

ويوضح أن التعدين لم يقتصر تأثيره في الأضرار البيئية من استخدام السيانيد، بل أدى إلى مشاكل اجتماعية عميقة، مثل النزاعات القبلية، وعمليات النهب، والتفكك الأسري، والتسرب من المدارس، فضلاً عن القطع الجائر للغابات وتأثيره السلبي على الثروة الحيوانية. ويضيف: أن “معدلات الجريمة زادت، فأصبحت سرقة المواشي منتشرة جدًا، خاصة مع وجود المناجم في الغابات”.

ويرى الخليفة، أن الحكومة الحالية تعمل بمنطق الربح فقط، خاصة في ظل ظروف الحرب التي تدفعها للبحث عن دعم اقتصادي. وبما أن الذهب هو المورد المتاح، فقد أصبح مصدرًا أساسيًا لتمويل الأسلحة ومرتبات الجنود. يُضيف أن “القضية معقدة ومتشعبة”، ويرى أنها “ليست محلًا للتفاوض”. ويحذر من استخدام الأحواض العشوائية للسيانيد التي تسبب أمراضًا جلدية، والتهابات، ونفوق الطيور، وتشوّهات الأجنة. ويؤكد أن المنطقة، التي تُحاصرها الصراعات المسلحة، لا تحتمل نزاعات داخلية تمزق نسيجها الاجتماعي.

استفتاء باطل

بدوره، يؤكد الخبير البيئي، جلال محمد ياسين أن الاستفتاء الذي أجري في منطقة قدير بالموافقة بعمل شركات مخلفات التعدين التقليدي بمادة السيانيد غير شرعي من الناحية القانونية والدستورية.

يقول لـ(عاين): “من حيث المبدأ، يجوز للسلطات المحلية الاستعانة بالاستفتاءات الشعبية، ولكن لا يمكن استخدامها لإضفاء الشرعية على عمل يترتب عليه ضرر بيئي أو صحي جسيم”.

ويشرح أن القواعد القانونية، سواء على المستوى الوطني أو الدولي، تعتبر حماية البيئة والصحة العامة من القيم التي لا يمكن المساومة عليها. لذلك، لا يجوز إخضاع حقوق الإنسان الأساسية مثل الحق في الحياة، والصحة، والبيئة السليمة للتصويت الشعبي، لأنها حقوق أصيلة وليست خيارات سياسية.

ويوضح، ياسين المخاطر الكبرى لاستخدام السيانيد في معالجة خام الذهب، والتي تشمل تلوث المياه الجوفية والسطحية، حيث يؤدي تسرب محلول السيانيد إلى تسمم آبار الشرب والمجاري المائية. كما يتسبب في أضرار على التنوع الحيوي، مما يؤدي إلى نفوق الأسماك والحيوانات والقضاء على الكائنات الدقيقة.

أمراض خطيرة

ويحذر ياسين، من الأمراض الخطيرة التي قد تصيب السكان، مثل اضطرابات الجهاز العصبي، وضيق التنفس، والسرطان على المدى الطويل، نتيجة استنشاق بخار السيانيد أو تناول المياه الملوثة. ويُضيف: أن “تراكم الملوثات في التربة يقلل من خصوبتها، ويؤدي إلى انتقال التسمم عبر السلسلة الغذائية من النبات إلى الحيوان إلى الإنسان”.

استخدام السيانيد محرم بموجب القوانين السودانية، بما في ذلك القانون الجنائي الذي يمنع تعريض حياة المواطنين للخطر

 خبير بيئي

وبناءً على هذه الأضرار، يؤكد جلال، أن القانون يحظر استخدام هذه المادة، بغض النظر عن أي موافقة شعبية. ويستشهد بعدة مراجع قانونية، منها قانون البيئة السوداني لسنة 2001، الذي يمنع أي نشاط يؤدي إلى “تلويث أو تسميم الموارد الطبيعية” ويعتبره جريمة. كما يستشهد بالقانون الجنائي السوداني الذي يجرّم تعريض حياة الناس للخطر، حتى لو برضا جزء منهم، وبالقانون الدولي الذي يفرض على الدول منع أي نشاط يسبب ضررًا جسيمًا. ويشير أيضًا إلى اتفاقيات دولية، مثل اتفاقية بازل وستوكهولم، التي تدرج السيانيد ضمن المواد المحظورة أو ذات الاستخدام المقيّد.

ويقدم المحامي والمدافع عن حقوق الإنسان سمير علي مكين، رؤية حقوقية لقضية السيانيد، مؤكدًا أن استخدام هذه المادة لا يمثل فقط خطرًا بيئيًا، بل يشكل انتهاكًا صارخًا للاتفاقيات الدولية التي وقع عليها السودان.

يقول مكين في مقابلة مع (عاين): إن “مادة السيانيد شديدة الخطورة، وتسبب أضرارًا جسيمة للبيئة، وخاصة تلويث المياه الجوفية والسطحية، مما يؤدي إلى نفوق الأسماك والكائنات الدقيقة. ويضيف أن هذه المشاكل تمنع السكان الذين يعتمدون على الأنهار من التمتع بمصادر رزقهم”.

ويضيف:”استخدام هذه المادة ينتهك الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب لعام 1981، الذي صادقت عليه السودان. فبحسب الميثاق، يُعد استخدام السيانيد انتهاكًا مباشرًا للحق في الحياة (المادة 4)، والحق في الصحة (المادة 16)، وحق الشعوب في الثروات الطبيعية (المادة 21)، والحق في بيئة سليمة (المادة 24)”.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *