مشروع الجزيرة والزراعة في السودان .. قصة موت مُعلن
– شبكة عاين – 17 سبتمبر ٢٠١٥ –
عوامل التردي والانهيار أصبحت السمة البارزة لمشروع الجزيرة وامتداد المناقل في وسط السودان جنوب الخرطوم ، ويعيش المزارعون حالة احباط في ظل انعدام مقومات الزراعة المتعلقة بالبذور المحسنة ومياه الري، وانسداد القنوات الرئيسية بسبب الطمي والحشائش، وانهيار معظم قنوات الري والكباري، بسبب الإهمال ، الى جانب القانون الجديد الذي تسعى الحكومة المركزية لاجازته ليضاعف من معاناة المزاراعين وينهي مشروعهم التاريخي .
المشروع قد تم انشاؤه في العام 1925 لمد المصانع البريطانية بحاجتها من خام القطن الذي شكل أيضاً العمود الفقاري لاقتصاد السودان بعد الاستقلال، وكان يمثل أكبر مشروع مروي في أفريقيا وأكبر مزرعة في العالم ذات إدارة واحدة ، وبدأ مشروع الجزيرة في العام 1911 كمزرعة تجريبية لزراعة القطن في مساحة قدرها (250) فدان (بمنطقة طيبة وكركوج) شمال مدينة ود مدني تروى بالطلمبات (مضخات المياه). بعد نجاح التجربة بدأت المساحة في الإزدياد عاماً بعد آخر حتى بلغت (22) ألف فدان في عام 1924 .
وفي العام 1925 تم افتتاح خزان سنار وإزدادت المساحة المروية حتى بلغت حوالي (مليون ) فدان في عام 1943، والفترة من 1958 وحتى 1962 تمت إضافة أرض زراعية بمساحة مليون فدان أخرى عرفت باسم إمتداد المناقل، لتصبح المساحة الكلية للمشروع اليوم (2.2) مليون فدان ، ولكن واقع الحال حالياً يغني عن السؤال، والمشروع أصبح في مهب الريح بعد أن تناوشته الآيادي الآثمة بهدف هدمه وإزالته من الوجود في أعقاب سرقة أصوله وتشريد موظيفه .
المزارعون : الحكومة تستهدف المشروع باستمرار
يقول المزارع عبد الغني محمد عبد الله، لــ(عاين) إن الحديث عن مشروع الجزيرة وامتداد المناقل يطول لأسباب كثيرة من بينها ان السلطات استهدفت المزارعين بإهدار مشروعهم ، مشيراً إلى الإنهيار التام للبنية التحتية المتعلقة بالمنشآت وقنوات الري وممتلكات وأصول المشروع من سكك حديد ومصانع ومحالج النسيج ومطاحن قوز (كبرو)، موضحاً أن هذه الأسباب أدَّت إلى عزوف معظم المزارعين عن الزراعة في مواسم كثيرة .
ويشير المزارع عبد المنعم محمد أحمد مصطفى في حديثه لــ(عاين) إلى أن قنوات الري الموجودة الآن ممتلئة بالطمي والحشائش مما أدَّى إلى تكرار العطش سنوياً، ويقول إن المصارف التي شيدَّها المستعمر البريطاني قبل اكثر من ستين عاماً لتصريف المياه الزائدة والمتدفقة عشوائياً انتهت بالكامل وقد تسبب ذلك في إغراق الشوارع بالمياه وانسداد الطرق المؤدية من وإلى المزارع .
حراك الجزيرة
وقد أبدى المزارعون رفضهم لتعيين المدير السابق للمشروع عثمان سمساعة في منصب محافظ المشروع مطلع اغسطس الماضي بموجب مرسوم رئاسي وفق قانون مشروع الجزيرة للعام 2005 المعدل في العام 2014، بحجة أنه يُعد جزءاً من المجموعة التي “خرّبت بنيات المشروع التحتية وأن تعيينه سيحمي المفسدين”، وطالبوا الرجل بالاعتذار عن قبول التكليف .
وسارع حراك “أبناء الجزيرة الموحد “، ومنبر أبناء الجزيرة، إلى إبداء تحفظاتهم على تعيين سمساعة، باعتبار أن تعيينه لم يكن موفقاً ولا تنطبق عليه مواصفات المنصب التي حددها القانون ،وبرر المزارعون رفضهم بسبب تماهي قناعات سمسماعة مع قانون مشروع الجزيرة لسنة 2005، وأن تعيينه تم بناء على تعديل القانون لسنة 2014، ووصف رئيس حراك أبناء الجزيرة الموحد عمر يوسف، تعيين سمساعة بالصادم لأهل الجزيرة وأن الخطوة تحمل نذر تعيينات وتدابير لاحقة تطال مجلس إدارة المشروع، ما سيفضي الى تقويض ما تحقق للمزارعين بإجازة قانون 2014 ، ويرى المزارعون ان تعيين سمساعة يعني عدم محاسبة المتورطين في تخريب مشروع الجزيرة .
غير ان محافظ المشروع عثمان سمساعة رفض السماع لتلك الاصوات وقال لــ(عاين) إن شخصه لن يلتفت إلى مجموعة الحراك التي وصفها بالهدامة والمسيسة، موضحاً أن شخصه ينفذ سياسات محددة من أجل تطوير المشروع وإعادته إلى أمجاده وسيرته الأولى، لافتاً إلى أن قانون 2005 سيكون ذا جدوى ومنفعة ومصلحة ذات عائد سريع للمشروع والمزراع على حد سواء.
بيع مؤسسات المشروع وتبديد الموارد
يعتقد المزارع عبد الغني محمد عبد الله في حديثه لــ(عاين) إن الأزمة الرئيسية تتمثل في الري في أعقاب تسريح العمال وتعيين ما تسمى بروابط المزارعين مع جهلهم التام بقضايا المشروع ومياهه، ونوَّه إلى أن قانون 2005 كان سبباً أساسياً أيضاً في انهيار المشروع لإعطائه فرصة لاتحاد المزارعين لتحقيق مصالحهم الذاتية ببيع مؤسسات المشروع وتبديد موارده، لافتاً إلى أن اتحاد المزارعين الحالي لا يمثل المزارعين، وأبدى عبد الغني أملاً في إعادة المشروع إلى سيرته الأولى على يد والي الجزيرة محمد طاهر إيلا .
وقد توسع مشروع الجزيرة أفقياً في مرحلته الثانية خلال الأعوام (1955 – 1970)، ووقتها تم تشكيل مجلس إدارة مشروع الجزيرة، وأنشأت مصلحة الإنشاءات والتعمير، للإشراف على الأعمال الفنية المتعلقة بامتداد المناقل كما تم تشييد سد الرصيرص ، وبعد التوسع الأفقي اكتمل مشروع الجزيرة وإمتداد المناقل في العام 1958، وإمتداد عبد الماجد في العام 1963 بدورة زراعية ثلاثية تتكون من (15) فدان (5) أفدنة تزرع قطناً و(5) تترك للمزارع يزرع فيها ما يشاء من خضروات أو فول سوداني اوغيره و(5) أفدنة تترك أرض بور، لا تزرع.
ازمة الري في مشروع الجزيرة
أصبح المشروع يعرف بمشروع الجزيرة والمناقل بعد التوسعات التي شهدها في مراحل مختلفة ، وفي المرحلة الثانية تم إنشاء مصلحة الخدمات الاجتماعية ، ويقول المزارع عباس محمد عبد الله، رئيس رابطة مختصة بأعمال الري لــ(عاين) إن شخصه مع آخرين تسلموا قنوات ري متلئة بالطمي والحشائش فقاموا بصيانتها من رأس المال المسمة بــ(القل)، لكنهم فوجئوا بأن عمال الضرائب يأخذون (25%)، موضحاً أن المشروع كان كاسداً بسبب انعدام المياه، موضحاً أن الأجهزة الأمنية كانت وما زالت تستلم الضرائب عنوة رغم انعدام المياه في قنوات الري، وشكا عباس من عدم إخضاعهم لكورسات تدريب في الروابط وتحجيم مال التسيير ما أدَّى إلى تعثر عملهم، مؤكداً أن انهيار مشروع الجزيرة سببه التقارير الفاشلة من اتحاد المزارعين والإداريين، موضحاً أن الانهيار متعمد وسببه الدولة.
تبادل اتهامات حول المتسبب في انهيار المشروع
المرحلة الثالثة، في التوسع الرأسي للمشروع بدأ في العام 1970 من أهم تطوراته خطة التوسع والتنوع وبرنامج تعمير المشروع وتحديثه، خاصة بعد الاستمرار في التوسع الأفقي، وبدأ التفكير في الزيادة الرأسية بإدخال محاصيل جديدة وتقليل مساحة الأرض البور ، وشهد موسم (1975- 1976) تنفيذ أكبر قدر من التكثيف والتنويع في المحاصيل حيث زادت المساحة المخصصة لكل المحاصيل المزروعة التي بلغت حوالي (1.794.163) فدان من المساحة الكلية للمشروع وقدرها (2.2) مليون فدان .
ويعد المشروع من أكبر المشاريع الزراعية التي تروى بنظام واحد على مستوى العالم، وتتبادل الحكومة والمزارعون الاتهامات بشأن انهياره في السنوات الماضية وعلى الرغم من وجود ملايين الهكتارات والمساحات الصالحة للزراعة مع توفر الموارد المائية الضخمة الا ان تدني إنتاج المحاصيل الزراعية على مدى سنوات دفع الحكومة السودانية للالتفات إلى أسباب انهيار مشروع الجزيرة الذي يعد رائد المشاريع الزراعية في البلاد وأكبرها .
واعلنت الحكومة أنها الآن بصدد دعم القطاع الزراعي لتغطية حاجة البلاد من الحبوب الغذائية المختلفة والمساهمة في موازنة الدولة ، ولكن ترتفع شكاوى المزارعين من إهمال وسوء إدارة اتهموا الحكومة بانها وراء تدمير المشروع، ومحاولة بيعه الى جهات لا علاقة لها بالزراعة .
تحديات الزراعة:
تواجه الزراعة في السودان تعقيدات كبيرة ومشاكل متجذرة رغم أنه القطاع الزراعي المحرك لبقية القطاعات الاقتصادية والخدمية الأخرى كالطرق والاتصالات والخدمات البنكية والأسواق ، ويعتقد ان(65%) من سكان السودان يمتهنون الزراعة، ووفقاً للمهندس الزراعي عبد القادر مبارك الهادي ان السودان ارتبط بالاقتصاد العالمي في شتى أنواع ومراحل تطوره السياسي عبر الزراعة، ويشير الى ان الزراعة في السودان تقسم إلى زراعة اقتصاد معيشى مقفول في بعض من جوانبه في إنتاج الغذاء المباشر، أو زراعة للسوق، أو للتبادل من الأشكال البدائية البسيطة ثم إلى أعقد علاقات السوق والارتباط بالأسواق الصغيرة التي تُعرف بالأسواق الريفية البسيطة، والاعقد مع مستويات التبادل العالمي في الأسواق العالمية .
ويقول رئيس صحيفة (صوت الفلاح)، أيوب السليك لــ(عاين)، إن مشاكل الزراعة الرئيسية تتمثل في عقبات التمويل والسياسات التمويلية، ومستلزمات الإنتاج والأسمدة والمبيدات، لافتاً إلى أن السياسات تُعلن مبكراً، لكن التنفيذ يكون متعثراً نتيجة لتأخير التمويل، بالإضافة إلى مدخلات الإنتاج، وأن غالبية التقاوى مغشوشة ومضروبة، مشيراً إلى أن صغار المزارعين يواجهون العقبات المتمثلة في التقاوى في ولايات السودان المتعددة، وقال إن معظم المبيدات فاسدة وأسعارها غالية لارتباطها بالقطاع الخاص.
السودان سلة غذاء العالم يستورد طعامه
يقول الخبير الاقتصادي الدكتور خالد التيجاني النور، إن السودان الذي كان يُنتظر منه أن يكون سلة غذاء للآخرين لا يعجز عن إطعام مواطنيه فقط بل يستورد غذاءه ففي العام قبل الماضي استوردت البلاد -حسب التيجاني- مواد غذائية بقيمة مليارين ونصف المليار دولار، منها القمح والسكر واللبن المجفف وزيوت طعام ومواد أخرى مثل الخضروات ، وفي تقييم لنتائج سياسات الحكومة للنهوض بالقطاع الزراعي،يقول إن تنفيذ البرنامج الإسعافي الثلاثي الذي طرح عقب انفصال دولة جنوب السودان أثمر عن ارتفاع ضئيل في نسبة الصادرات في عام 2013. وأوضح التجاني ان هناك تحسن محدود قد طرأ في صادرات الزراعة، بلغت (867) مليون دولار ساهمت الزراعة بنسبة (12%) من إجمالي الصادرات ، واستدرك قائلاً: “لكن ذلك التحسن لا يتناسب مع الموارد الهائلة التي يزخر بها السودان، إذ إن المساحات المزروعة حسب آخر إحصائية لبنك السودان المركزي لا تتجاوز (45) مليون فدان، (19) مليون هكتار، أي نحو خُمس المساحة الصالحة للزراعة في البلاد والمقدرة بنحو مائتي مليون فدان (84) مليون هكتار.
يعود أيوب السليك ويؤكد لــ(عاين)، أن التمويل البنكي إجراءاته معقدة، ووصفها بالبطئية والعقيمة، خاصة المسائل المتعلقة بالترميز والاستعلام، ما انعكس سلباً على العملية الإنتاجية. وأوضح السليك أن الأزمة تتمثل أيضاً في قنوات الري، وعدم انسياب المياه، في حين أن إدارات المشاريع أعلنت عن الزراعة المبكرة للفول السوداني، لكن دون جدى، ما ينطبق عليها المثل الشعبي “نسمع جعجعة، ولا نرى طحيناً”، وأكد السليك غياب المنهج العلمي في السياسات الزراعية، وقال إن القوانين والتشريعات من أعظم العقبات التي تواجه القطاع الزراعي بشكل عام.
تدني الانتاجية في القطاع المطري
ويؤكد عضو سكرتارية تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل محمد الجاك انخفاض إنتاجية الذرة في القطاع المطري هذا العام، ويقول إن إنتاجية القمح في الجزيرة كانت متدنية بسبب التقاوي (البذور) المستوردة، والتي لم تتجاوز نسبة إنباتها (20%) فقط ، محذراً من أن قلة انتاج المحاصيل الشتوية قد تنذر بكارثة على المزارعين والذين قد يودعون في السجون في حالة عدم الايفاء بتعهداتهم لدى البنك الزراعي، وقدر خسائر المزارع في الضيعة الواحدة بقرابة عشرة آلاف جنيه (1759) دولاراً.
ويعلق الجاك على مخرجات اجتماع أمناء الزراعة في الحزب الحاكم بقوله إن الحكومة تتحدث عن زراعة مساحات خيالية في حين أن المساحة المزروعة فعليا تتراجع، فمنذ إجازة قانون مشروع الجزيرة عام 2005م وحتى الموسم الزراعي 2013 لم يتجاوز متوسط المساحة المزروعة بالقطن.