رانيا مأمون: الثمن الباهظ للإحتجاجات

رانيا مأمون: الثمن الباهظ للإحتجاجات
ملف سبتمبر -١-

٣١ اكتوبر ٢٠١٣
شهدت احتجاجات سبتمبر مشاركة واسعة من سودانيين لم نعهدهم محتجين في الشارع والكثير منهم دفع ثمناً باهظاً لخروجه. دفع هذا (عاين) للتساؤل في لقاءها مع رانيا مأمون، الكاتبة والقاصة التي تخرجت من جامعة الجزيرة، كلية الهندسة، والأم لبنت لم تبلغ الثامنة من العمر بعد : ما الذي يدفع امرأة كرانيا مأمون أن تشارك في هذا النوع من الاحتجاج ؟

تقول رانيا : “مشاركتي في المظاهرات والاحتجاجات حق من حقوقي يكفله الدستور في أن [أخرج] وأتظاهر بشكل سلمي احتجاجاً على قرارات تؤثر عليّ كرانيا. أساساً المظاهرات بدت باحتجاج على رفع الدعم عن المحروقات. ده بيزيد العبء على كاهل المواطن السوداني وعلي أنا بصفة شخصية”.

تقع “نور” في حب “أحمد”، لكن أهلها يقفون عائقاً أمام زواجها منه، والسبب  هو أن “أحمد” من قبيلة الفور، (فيهو عرق) كما يقول الشماليين كلما أرادوا الإشارة إلى سوداني تبدو ملامحه زنجية أكثر من اللازم. عندما تغادر “نور” السودان ويموت “أحمد” تحت التعذيب في معتقلات النظام. تتجه بشكل أكثر راديكالية عكس ما يريده أهلها فتتعرف على “دينق” اللاجئ من جنوب السودان. تتسائل “نور” لماذا لم يكن بوسعها التعرف على شاب جنوبي حتى ولو كصديق في الخرطوم، وتستغرق أكثر في مقاربة ما يجمعها وما يفرقها بمواطنها الذي لا تشترك معه لا في العرق ولا اللغة وربما الدين، لكنها تكتفي بكونه رجل طيب. إلى أن يضاف إلى تلك الفوارق لاحقاً أن يصبح “دينق” مواطناً من دولة أخرى.

“نور”، “أحمد” و”دينق” شخصيات خرجت من مخيلة رانيا مأمون، فهذا النوع من القضايا الثقافية الشائكة التي عقدت الأزمة السياسية في السودان لعقود، لطالما كانت الشاغل الأكبر لكتابات رانيا. التي نشرت باكورة أعمالها “فلاش أخضر” العام ٢٠٠٦. وواصلت نشر أعمالها: “١٣ شهراً من إشراق الشمس” العام ٢٠٠٩ بدار نشر بعمّان، و “ابن الشمس” أواسط هذا العام من القاهرة، والذي طرحت فيه ظاهرة أبناء الشوارع، “الشماشة” كما يطلق عليهم في الدارجة السودانية.

ولكن يبدو أن رانيا لم تكتف بأن تلعب دورها محصوراً في أعمالها المكتوبة وقررت أن تقوم بما هو أكثر من ذلك، فبعد أن خرجت من بيتها الواقع بمدينة ود مدني باتجاه مبنى إدارة جامعة الجزيرة بالنشيشيبة، حيث تعمل. صباح ٢٣ من سبتمبر الماضي. توقفت رانيا في موقف المواصلات بالسوق الكبير، كما يفعل مواطنو مدني ممن لا يمتلكون سيارات. لكنها بدلاً من أن تتجه لركوب الحافلة التالية أخرجت هاتفها المحمول لتوثيق المظاهرات التي اندلعت. تعبيراً عن السخط الشعبي لرفع الحكومة لأسعار المحروقات، وهو الأمر الذي دفعت ثمنه غالياً.

تصف رانيا المظاهرة بأسلوبها القصصي قائلة : “كانت الأعداد تتنامى وتتصاعد … جزء كبير منهم طلبة وأصحاب مهن حرفية، ففي الساعة العاشرة كان الموظفون [في مكاتبهم] “، ومع تكاثف التواجد الأمني بدأ أصحاب حافلات النقل بقيادة مركباتهم خارج موقف السوق. تصف رانيا ذلك بالقول : “السوق بقى فاضي. كل السوق قفل المحلات بتاعته وبقى مسرح لاستعراض قوى الأمن ووحدة النجدة والعمليات.” ووفقاً لشهادة رانيا يبدو أن الأمر كان أكثر عبثاً من مجرد مظاهرة. خصوصاً أن قنابل الغاز المسيل للدموع لم تقتصر على المتظاهرين بل وصلت للمباني المجاورة : “كانوا بيضربوا البمبان بكثافة شديدة رغم أنه تلك المنطقة منطقة بتاعت مستشفيات. في مستشفى مدني العام، ومستشفى النساء والتوليد، في مجموعة من العيادات والصيدليات كلها في المنطقة ديك، وفي مجموعة من الناس بالصدفة يا إما مرضى أو زوار لمرضى من القرى الحول مدني”.

لاحقاً وبعد الظهر، قررت رانيا وأخوها الشيخ العودة باتجاه مظاهرة أخرى بالقرب من منزلهما. حيث اتصل بها مراسلان من إذاعتي “سودان راديو سيرفيس” وراديو “دبنقا”، فقامت رانيا مأمون بوصف ما يحدث كشاهد عيان. قبل أن تعلم أنها كانت مرصودة من عنصر لجهاز الأمن اكتشفت لاحقاً أنه كان يتنصت على مكالماتها. كان آخرها مكالمة مع شقيقتها عرفة، والتي قررت رانيا أن تتوجه لملاقاتها وسط سيارات الشرطة “البوكس” التي كانت تلاحق المتظاهرين وأغلبهم من طلاب المرحلة الثانوية.

“في لحظة من اللحظات كثفوا البمبان لدرجة أنه وقع في البيوت. في ناس اتصابت داخل البيوت … في ناس أغمى عليها. في اللحظة ديك الناس كلها اتراجعت وأنا وأخوي ما كنا سريعين في التراجع.” وبعد الخامسة والنصف بقليل اعتقلت رانيا والشيخ مأمون، في اللحظة التي كانت شقيقتهما عرفة تقترب منهما قادمة من مظاهرة أخرى وهي تتسائل في وجوه الجنود بذعر : “إنتو مودينها وين؟ مودينها وين؟” فقرر الجنود أن يجيبوها بأن اقتادوها معهما.

في الوقت الذي كانت تستمر فيه المظاهرات خلال الأسبوع الأول منها. قامت رانيا بنشر شهادتها على صفحتها بموقع (فايس بوك)، ولاحقاً قامت حركة قرفنا بنشر الشهادة وترجمتها إلى الإنجليزية تحت عنوان “فصل في الجحيم”، مع صورة لرانيا وعينها اليسرى حمراء اللون. وفي شهادتها وصلت اتهاماتها لمنتسبي جهاز الشرطة الذين قاموا باعتقالها لما يقارب ٢٤ ساعة إلى التعرض للضرب، التحرش الجنسي والتهديد بالاغتصاب.

نشر رانيا لشهادتها آثار الكثير من الغضب على مواقع التواصل الاجتماعي وتجاوز الأمر نطاق معارفها في مدني والخرطوم. الكاتب والسيناريست المصري محمود دسوقي، والذي تعرف على رانيا عن كثب منذ ٦ أعوام في ملتقى للكتاب العرب الشباب في الأردن كتب معلقاً على صورتها بعد تعرضها للضرب : ” رانيا مأمون اللي ما بتسمعش صوتها وهي بتتكلم معاك والمسافة بينكم متر ونص.. ك*م البشير والإسلاميين!”.

كان من الطبيعي في حالة مشابهة أن تقوم رانيا برفع دعوة قضائية ضد مجندي الشرطة الذين تتهمهم بالقيام بتلك الإعتداءات، ولكن رحلتها التي مرت بالقسم الجنوبي حيث تعرضت للاعتداء والضرب، ومن ثم للقسم الأوسط. انتهت بأن وجهت إليها تهمة إثارة الشغب والإخلال بالسلام العام وفقاً للمادتين ٦٧ و ٦٩ من القانون الجنائي. مما يعرضها للمحاكمة، وهو ما دفع مجموعة من المحامين المتطوعين بمناصرة رانيا مأمون في قضيتها. حيث ستعرض رانيا أمام القاضي في ثاني جلسات قضيتها في ٣١ أكتوبر الجاري، والتي ستواجه فيها ثلاثة احتمالات ما لم تحصل على البراءة : الغرامة، الجلد، أو السجن. استناداً إلى الأحكام السابقة التي نفذت على متظاهرين آخرين.

تقول رانيا : “إذا الدولة ديمقراطية معليش، ممكن نقول [التغيير] بيحصل بدون ما نتعب أو نتعذب. لكن نحن في ظل حكم شمولي ديكتاتوري، حكم يتعامل معنا بالعصى.. لابد نحن نقدم شي ولو بسيط عشان نقدر نصل للتغيير المنشود”.