وجدي مصطفى : الغاز المثير للكسور

وجدي مصطفى : الغاز المثير للكسور

ملف سبتمبر -2-

2013/12/2

كان سرب من الحمام يطير ويحط حول بيت وجدي مصطفى سيد أحمد، بمنطقة جبرة. عندما ذهبت (عاين) إلى لقاءه. كانت الحياة قد عادت إلى طبيعتها نوعاً ما في الخرطوم، وصارت الشوارع هادئة، ولولا ما بقي في ذاكرة الناس من أصوات الرصاص وجثث القتلى لما ظلت مظاهرات سبتمبر ماثلة، ولكن بالنسبة إلى وجدي كان الأمر أكثر من مجرد ذكرى، فلا يزال أثر مشاركته في المظاهرات باقياً على جسده. محيطاً بساقه اليمنى وركبتها المهشمة. حيث ملأت الجبس الأبيض أمنيات أصدقائه له بالشفاء وقد خطت بالحبر. بينما تحدث إلينا من فوق سريره بنبرة واثقة.

وجدي طالب بكلية الآداب جامعة الخرطوم، وناشط بالحركة الطلابية ينتمي للجبهة الديمقراطية. التنظيم الطلابي الذي يحتفل هذا الشهر بمضي 60 عاماً على تأسيسه. كان مشاركاً في حملة لجمع التوقيعات في السادس من أكتوبر الماضي بالجامعة. سرعان ما تحولت إلى مظاهرة حاشدة. تنادي بإطلاق سراح المعتقلين الذين كان جزء منهم طلاباً من جامعته. الواقعة على بعد كيلومترين فقط من القصر الجمهوري، وسبق لطلابها أن شاركوا في اسقاط نظامين. أحدهما وهو نظام عبود، كانت المظاهرات ضده قد وصلت إلى أوجها عندما قتل برصاص الشرطة طالب واحد فقط من طلبة جامعة الخرطوم (أحمد القرشي) في أكتوبر 1964. مما أدى إلى استقالة الحكومة. الأمر الذي لم يعد فعالاً الآن حتى بعد موت المئات في الشارع. 

هذا التراث من التمرد والنشاط السياسي هو ما يدفع قوات الأمن دائماً للتعامل بحزم مع المظاهرات التي تخرج من هذه الجامعة. يصف وجدي بداية المظاهرة بالقول : “كان في مخاطبة في [كلية الـ] آداب حوالي الساعة ١٢ ظهر. واحدة تانية في [كلية الـ] هندسة. استمرت المخاطبتين. اتلاقوا الاتنين في شارع المين [وسط الحرم الجامعي] الناس طلعت الشارع” يكرر وجدي في إفادته كلمة “كمية” في إشارة إلى الأعداد الكبيرة من ناقلات الجند ومركبات الأمن التي كانت تنتظر لتفريق المظاهرة ما أن تخطو إلى خارج الحرم.

حصلت (عاين) على تسجيل مصور بهاتف محمول للمظاهرة، وعلى الرغم من الرداءة الشديدة للصورة إلا أن وجدي بدا واضحاً في التسجيل وهو يتقدم المظاهرة التي سارت بشكل ثابت إلى بوابة النشاط. حيث كانت قوات الأمن متواجدة بكثافة عالية على بعد أمتار منها في انتظار الطلاب. 

كان الوضع العام متأزماً وقتها. بعد سلسلة من التظاهرات التي لاقت مواجهة حاسمة. استخدمت فيها قوات الأمن العنف المفرط بشكل غير مسبوق في العاصمة. ما أدى إلى مقتل ما يجاوز 200 متظاهر في ظرف أيام قليلة. أغلب الطلبة في تلك المظاهرة كانوا واعين لخطورة الخروج من الحرم الجامعي لكنهم ظلوا يهتفون “سلمية” في اتجاه البوابة. يقول وجدي : “واحد من القادة بتاعين الحملة كان بيقول أي سلمية لكين ما تطلعوا الشارع”، وعندما أدرك منظموا التظاهرة أنها قد صورت بالفيديو بدأوا يتشاورون لإنهاءها. في حين بدأت قوات الأمن في ضرب الغاز المسيل للدموع بكثافة ما أن خطت أقدام الطلاب شارع الجامعة. 

“الطريقة بتاعت ضرب البمبان زاتها ما كان الهدف منها إنه يفرقوا الناس [بقدر ما كان الهدف منها] أنه يصيبوا بعبوة البمبان زاتها المتظاهرين” يتهم وجدي قوات الأمن بأنها كانت تستخدم قنابل الغاز للقنص وإصابة المتظاهرين بالقنابل نفسها لقتلهم لا لتفريقهم، وهو ما جرى معه إلى حد ما. حيث أصابته قنبلة كان الجندي الذي قذفها يبعد عنه مسافة قصيرة قدرها وجدي بسبعة أمتار. أصابت القنبلة ركبته وهشمتها فوراً. حاول النهوض لكنه لم يستطع المشي أكثر من خطوتين. بعدها حمله أحد زملاءه إلى داخل الحرم الجامعي، وبسيارة أحد أساتذة كلية العلوم وصل وجدي لمستشفى الخرطوم للحوادث.

كان الوضع في المستشفى عبثياً وفقاً لإفادة وجدي، فبدلاً من موظفي الاستقبال امتلأ مدخل الطوارئ بضباط وعناصر جهاز الأمن والاستخبارات الوطني٫ إضافة إلى مركباتهم خارج المستشفى، والذين كانوا يتحققون من هوية المصابين إذا ما كانوا قادمين من المظاهرات استعداداً لاعتقالهم، فيما كان عنصران يواصلان التجول جيئة وذهاباً حول غرفة الفحص الطبي عندما كان وجدي على الفراش بما يشبه المراقبة. 

“لقينا كمية من التجاوب وسط الدكاترة” يستطرد وجدي، مشيراً إلى أن الأطباء في مستشفى الحوادث حثوه على القول بأنه تعرض إلى حادث مروري عوضاً عن الاعتراف بمشاركته في مظاهرة سياسية لتلافي الاستجواب والاعتقال، وعندما شخّص الأطباء إصابته بأنها تهشم لعظام الركبة بعد رؤية صور الأشعة السينية، وقرروا إرساله لمستشفى آخر لإجراء عملية جراحية. اكتشف وجدي أن عدداً من الأطباء قرر تقديم العلاج بالمجان للمصابين في التظاهرات. 

“الإصابة ما بتعني حاجة بالنسبة للناس الماتت في الشارع”. يقول وجدي، الذي لا يزال محتفظاً على قدرته في المزاح مع أصدقائه بشكل لا يتناسب مع وضعه أو الوضع العام للبلاد، ورغم انتهاء موجة المظاهرات التي لم تؤد أي نتيجة ملموسة على الواقع السياسي. يقول وجدي بروح متحمسة : “الناس حصلت قدر من الغبن قادر إنه يحركها لأنها تطلع الشارع.. الناس وصلت حد ما حتقيف. ما حتقيف فيهو لإصابة ما حتقيف فيهو لغيرو لغيرو”.