حق تقرير المصير في السودان: مطالب الأقاليم ومخاوف المركز
مع استمرار تدهور الأوضاع الانسانية في منطقة جبال النوبة جراء الحرب والحصار المفروض على مناطق سيطرة الحركة الشعبية من قبل الحكومة السودانية، بدأت الأصوات المنادية في الفترات الاخيرة بالمطالبة بحق تقرير المصير تعلو في المنطقة المنكوبة.
وأجرت شبكة (عاين) استطلاعا وسط العديد من أبناء جبال النوبة داخل وخارج السودان، في محاولة لسبر أغوار التشابكات المعقدة المرتبطة بمبدأ ومن ثم كيفية ممارسة هذا الحق لأبناء الإقليم الذي يعاني من التهميش والفقر وضعف التنمية اضافة للحروب التي خلفت الكثير من المآسي بين ابنائه.
ورغم تباين الاراء تجاه حق تقرير المصير بين أبناء المنطقة، إلا أن غالبيتهم تمسكت باحدى خيارين، اما خلق سودان موحد ديمقراطي يقبل التنوع ويرفض التمييز علي الاسس الاثنية أو الدينية، واما اعمال مبدأ حق تقرير المصير كآلية انسانية وديمقراطية تكفل للشعوب التي تشعر بالاضطهاد القومي في بلدانها، حق اتخاذ القرار بالاستمرار في وحدة مع البلد الأم أو الانفصال عنها.
جدل تاريخي ومعاصر
وفيما يحذر بعض القوى السياسية من تقسيم البلاد لا سيما عقب تجربة الحرب الطاحنة في جنوب السودان، يتمسك الكثيرون من أبناء الهامش والقوى التي تمثله في دارفور وجبال النوبة والنيل الازرق بحق تقرير المصير وتري فيه الضمان الوحيد للوحدة الطوعية المستقرة في البلاد، او الطريق الأفضل علي أقل تقدير لخلق سلام بين مكونات الدولة السودانية القديمة التي فشلت في إدارة التنوع في البلاد منذ فجر الاستقلال.
أثارت مطالبة الحركة الشعبية بالحكم الذاتي لجبال النوبة منطقة ثقافية متميزة عن بقية أقاليم البلاد في إحدى جولات التفاوض مع الحكومة قبل عدة سنوات، جدل واسع وسط القوى السياسية السودانية بين مؤيد ومتحفظ ومعارض.
ورغم أن جزء من عضوية الحركة الشعبية ما يزال يتمسك بحث تقرير المصير ويرفض مبدأ الحكم الذاتي وكذلك حل المشورة الشعبية لمنطقتي جنوب كردفان والنيل الازرق، الا ان الحكومة السودانية تراجعت عن المشورة الشعبية ورفضت حل الحكم الذاتي كما أنها ترفض بشدة تقرير المصير لجبال النوبة، الأمر الذي أدى لفشل جولات التفاوض التي تجاوزت العشرة جولات منذ اندلاع الحرب بين الخرطوم والحركة الشعبية قطاع الشمال في المنطقتين عقب انفصال جنوب السودان في العام 2011.
ومنذ أن رفعت الحركة الشعبية لتحرير السودان شعار حق تقرير المصير لجنوب السودان منذ أوائل التسعينيات بدأ جدل واسع وسط كافة الاطياف السياسية في البلاد بعضها رافض لذلك المبدأ وبعضها متردد تجاه قبوله، فيما تمسكت به الحركة الشعبية لتحرير السودان رغم انقساماتها العديدة في تسعينيات القرن الماضي بحق تقرير المصير.
مبادئ وتكتيك
ومع تصاعد وتيرة الحرب في أوائل التسعينيات وتحويلها لحرب دينية على أيدي نظام الانقاذ الذي تبني شعارات عرقية ودينية، بدأت حالة من التقارب بين الحركة الشعبية والقوى السياسية المعارضة الأخرى لنظام الانقاذ وشهد العام 1994 التوقيع على اتفاق بين الحزب الاتحادي الديمقراطي، تلاه حزب الامة مع الحركة الشعبية وافق فيه الحزبين – الكبيرين في السودان تاريخيا – على مبدأ حق تقرير المصير لجنوب السودان. وفي العام 1995 وقع الحزب الشيوعي السودان على اتفاق مشابه مع الحركة الشعبية، ثم توج كل ذلك بتبني التجمع الوطني الديمقراطي (الوعاء المعارض الذي شمل كافة القوي السياسية السودانية المعارض) لحق تقرير المصير فيما عرف بـمؤتمر اسمرا للقضايا المصيرية.
نظام الانقاذ وفي قلبه الحركة الاسلامية وافقت على تقرير المصير لجنوب السودان عند توقيعها اتفاق الخرطوم للسلام مع فصيل رياك مشار – المنشق عن الحركة الشعبية وقتها – فيما عرف باتفاقية الخرطوم للسلام.
لكن كثير من المحللين السياسيين يرون أن موافقة الانقاذ على حق تقرير المصير كان أمرا تكتيكيا من أجل تعميق انقسامات الحركة الشعبية واشعال طموحات بعض الاطراف الجنوبية واعطاءها كذلك حق الحكم الفيدرالي لجنوب السودان.
فيما يرى مراقبون آخرون ان الحركة الاسلامية السودانية، لا تأبه بوحدة السودان، بل وتريد تقسيم السودان من أجل خلق نموذج لدولة عربية إسلامية خالصة. ويضرب القائلين بهذا الرأي الامثال العديدة لمواقف الاسلاميين تجاه انفصال جنوب السودان ومن ابرز تلك المواقف تصريحات الرئيس السوداني عمر البشير في ولاية القضارف عقب انفصال جنوب السودان، ودعوته الواضحة لتعديل الدستور وبناء دولة سودانية دينها الإسلام ولغتها العربية دون غيرهم من الأديان او اللغات. ويذهب آخرون إلى ان نموذج منبر السلام العادل برئاسة الطيب مصطفي والذي رفع صراحة شعار فصل الجنوب في مخالفة دستورية واضحة لاتفاقية السلام الشامل والدستور الانتقالي، لكن يد السلطة الاسلامية الحاكمة لم تمتد إليه طوال فترة اتفاقية السلام 2005-2011.
وفي ذات السياق مثلت رؤية أحد عرابي الحركة الاسلامية السودانية عبدالرحيم حمدي ، فيما عرف بمثلث حمدي الشهير، وهي رؤية دعت صراحة إلى المزيد من تركيز التنمية في مناطق وسط وشمال السودان، الأمر الذي رأى فيه الكثير من المراقبين ومن ابناء الهامش دعوة لا تخلو من العنصرية وعدم المساواة بين أبناء الدولة الواحدة.
وحدة طوعية
يشير الصحفي براديو كاودا (موسى جون) أن اتفاقية السلام الشامل كانت إحدى الفرص الضائعة التي اتاحت امكانية توحيد السودان على أسس عادية مبنية على السلام والحقوق. لكنه يضيف أن الوعي بالحقوق ايضا ارتفع في تلك المرحلة. ورغم تحذيره من تقسيم السودان لعدة دويلات الا انه يحمل المسئولية في ذلك للمركز الذي اتهمه بممارسة الانتهاكات والتمييز الاثني في البلاد منذ الاستقلال.
ويرى جون أن الحكومات السودانية المتعاقبة في المركز هي المسئولة عن إهدار قيمة التعايش السلمي والاجتماعي بين الشعوب السودانية ، داعيا كافة الشعوب السودانية لتحرير نفسها وتوحيد السودان على اسس جديدة تقوم على العدالة.
بينما يري (الصادق جاد الله كوكو) من أبناء جبال النوبة في الخارج أن حق تقرير المصير مكفول في كل القوانين والأعراف الدولية، ويؤكد أن ليس هنالك جهة داخل أو خارج السودان تستطيع الاعتراض عليه أو ايقافه، واعاد كوكو مقولة الراحل المعلم جون قرنق “اما ان نعيش تحت ظل سودان جديد فيه حرية ومساواة وعدالة واحترام للاخر او حق تقرير المصير والانفصال من دولة الظلم“.
أما (حب الدين حسين) ناشط مدني في الخرطوم فيقول في حديث لـ(عاين) ان الأفراد المهمشين، هم من يحق لهم تقرير مصيرهم في الرقع الجغرافية المعينة، والاعتراض ضد تقرير المصير، هو اعتراض على حرية الإنسان وكرامته، وضد تطلعات الشعوب المنادية بالعدالة.
ويري حب الدين أن الحل الجذري لمشاكل هوية في البلاد يكمن في إقرار حق تقرير المصير لكل الشعوب السودانية وليس فقط لابناء جبال النوبة. ويضيف حب الدين أن ارتفاع الأصوات المنادية بحق تقرير المصير نتيجة طبيعية لفشل الدولة التنوع والتعدد المعاصر.
وينتقد حب الدين بشدة التمييز الديني في السودان الذي يمنع بشكل واضح أن يقود غير المسلم البلاد أو يصل للمواقع العليا في الدولة ومن بينها رئاسة الجمهورية، مبينا أن هذا الواقع يعد انتهاكا صريحا لكافة المواثيق والأعراف الدولية ويعد دافعا أساسيا لأبناء المناطق المهمشة للدعوة لممارسة حق تقرير المصير.
يوضح الناشط القانوني (مالك توتو) ان حق تقرير المصير يعد حقا ديمقراطيا وانسانيا، مؤكدا أن شعب جبال النوبة يعد من أكثر الشعوب التي تعرضت للاضطهاد ويحق لها أن تمارس حق تقرير المصير.
ويقول توتو لـ(عاين) ان حق تقرير المصير يجب أن يعمم كمبدأ ديمقراطي لكافة الشعوب المكونة للسودان لا سيما في جبال النوبة والنيل الازرق ودارفور، قبل أن يضيف بأن هذا المبدأ من شأنه أن يوحد السودان مستقبلا على أسس أكثر عدالة.
تجارب
ومنذ تبني ميثاق الأمم المتحدة في العام 1945 لحق تقرير المصير لكافة شعوب العالم، تمت ممارسة التجربة في عدد كبير من دول العالم، اتسم بعضها بالنجاح وقاد للسلام بين عدد من شعوب العالم بينما جاءت تجارب أخري مصحوبة بعدم الاستقرار والنزاعات.
وقد كفل الميثاق الافريقي لحقوق الانسان ممارسة حق تقرير المصير للشعوب في حالة فشل دولهم في ادارة التنوع، وتحقيق رغبات الشعوب، واعتبرته جزءا أساسيا من الحرية الجماعية للشعوب الأمر الذي قاد لتحرير شعوب القارة من الاستعمار عقب فترة الحرب العالمية الثانية.
ومع فشل العديد من الانظمة الوطنية الافريقية بعد الاستقلال في إدارة التنوع في بلدانها، برزت مبادئ حق تقرير المصير من العديد من القوى الديمقراطية المقاومة، لكن صحبته الكثير من المخاوف القومية من انقسام وتفتيت الدول.
ومن الشعوب التي مارست حق تقرير المصير إريتريا التي انفصلت عن اثيوبيا في أوائل التسعينات ، والعديد من دويلات دولة يوغسلافيا، باكستان والهند، وبنغلاديش مع باكستان، وايضا الشعب الكردي العراقي مارسته في اقليم كردستان العراق، وكاتالونيا في اسبانيا، وشعب جنوب السودان عندما استقل 2011 من الدولة الاول.
ويرى مراقبون أن هذه التجارب الديمقراطية قادت لنتائج مختلفة بينها الايجابي ومنها السلبي، إذ قادت لحروب بين دول يوغسلافيا السابقة، جنوب السودان ، وتوترات بين أرتريا وأثيوبيا – انتهت مؤخرا – بينما قادت لتعايش سلمي ونزعت فتيل الحرب بين الهند وباكستان وكذلك بين باكستان وبنغلاديش.
وفي ذات السياق يرى الكاتب (ايليا أرومي كوكو) ان جوهر المطالبة بحق تقرير المصير لجبال النوبة يعود لفشل الدولة في السودان، مشيرا الى امكانية توحيد السودان على أسس جديدة. ويشير الكاتب إلى أن حق تقرير المصير الذي يطالب به شعب النوبة يمكن أن يكون مناورة في حالة تلبية متطلبات المواطنة الحقيقة الكاملة دون تسويف ومناورة وممارسة تكتيك كسب الوقت من قبل المركز .
ويضيف ارومي أن تحقيق العدالة بات مطلباً ملحاً جداً وعلى السودانيين تحقيقه قبل فوات الاوان، واشار الى بعض الامثلة و العبر من الاكراد في العراق و الكتالونيين في إسبانيا ، وكما للسودان تجربة سابقة أدت إلى انفصال الجنوب.
من جانبه يتحفظ حزب الامة القومي على مطلب تقرير المصير، الذي تبنته الحركة الشعبية في جبال النوبة والنيل الازرق، في مؤتمرها في الأراضي المحررة كاودا، مشيرا إلى انهم لا يمثلون كل الاقليم الذي يضم مجموعات سكانية متنوعة الأعراق.
ويرى الفريق معاش والقيادي في الحزب صديق اسماعيل، ان فكرة تقرير المصير لجبال النوبة تواجه مصاعب وتحديات عديدة أخرى تتمثل في عدم توفر البنية السياسية والاجتماعية، اضافة الى المقاومة التي تجدها الفكرة من قبائل واثنيات أخرى موجودة في المنطقة.
يشير الكاتب (حسن محمد صالح) ان قرار حق تقرير المصير لشعب جبال النوبة، كان امرا متوقعا، من قبل الحركة الشعبية، كما يطلق عليها (نسخة جبال النوبة)، معتبرا أن حق تقريرهم كان على رأس الأهداف التي كتبت في منفستو الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل جون قرنق، يقول حسن “كان ذلك في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وعرف عن يوسف كوة أنه قدم حق تقرير المصير لجبال النوبة على حق تقرير المصير لجنوب السودان“. وأكد صالح أن في حالتي الوحدة او الانفصال بين الشمال والجنوب، مذكرا بمقولة يوسف كوه المشهورة، أن ابناء شعب جبال النوبة يتحالفون مع الحركة الشعبية لتحرير السودان من أجل تقرير مصيرهم في حالة انفصال جنوب السودان عن شماله، فإن على شعب جنوب كردفان العودة الى حمل السلاح مرة اخرى، كي يقرر من خلال الاستفتاء البقاء في شمال السودان او الانضمام الى الجنوب.