حرائق النخيل في الولاية الشمالية … الدوافع والأسباب

تكرار حوادث حرائق النخيل في الولاية الشمالية فتحت اسئلة شائكة عقب تحولها لظاهرة أدت لخسائر مهولة بالنسبة لمزارعي المنطقة وملاك الأراضي والنخيل، في ظل شكوك متصاعدة باتساع حجم الاستثمارات الزراعية الخليجية في المنطقة التي تقدر بملايين الأفدنه.

تزامن ظاهرة حرائق النخيل مع الخطط الحكومية لإنشاء عدد من السدود في المنطقة متمثلة في الشريك ودال وكجبار، أذكى تلك الشكوك لاسيما في ظل المواجهات المفتوحة بين المواطنين والسلطات في تلك المناطق على مر السنوات الماضية الأمر الذي أدي لسقوط عدد غير قليل من الضحايا برصاص الحكومة كما حدث في التظاهرات التي انتظمت ضد سد كجبار في العام 2009.

ويذهب بعض أهالي المنطقة أن المقاومة الشرسة التي واجهت الحكومة في تلك المناطق دفعتها لتغيير تكتيكاتها من أجل نزع الأراضي، فحولت أسلحتها للحرائق التي لاتبقي ولاتذر، مؤدية إلى خسائر غير مسبوقة للمزارعين.

ويقول البعض ان الاهمال الحكومي لإيجاد حلول جذرية لظاهرة الحرائق يعد دليل على تعمد السلطات المحلية  تهجير واخلاء المنطقة والاستيلاء على الاراضي لضمان اقامة وتوسيع مشروعيها الاساسيين دون مقاومة أو ازعاج، وهما السدود والاستثمار الخليجي في زراعة الحبوب والعلف.

ورغم إقرار سلطات الولاية بحجم الخسائر الناتجة عن هذه الحرائق والتي وصلت إلى سبعة مليار جنيه سوداني (بالقديم)، حسب السلطات، يرى عدد من مواطني المنطقة أن الحكومة لم تحرك ساكنا تجاه القضية حتى الآن. ذلك فيما تقدر الهيئة النوبية لمناطق المحس والسكوت ولجان المقاومة خسائر باكثر من 40 مليار جنيه (بالقديم).

نادية خيري - من قرية (سركمتو)

علاقات الأرض والنخيل

ظلت علاقات الأرض والنخيل الضاربة جذورها بالإنسان في شمال السودان، محلا للاستهداف من قبل الحكومات الاستعمارية والاستثمارات والأطماع الاجنبية وكذلك الحكومات الديكتاتورية والطائفية المتعاقبة على البلاد.

ويرى باحثون ومهتمون بعلاقات الارض في الولاية الشمالية  أن الجوهر الاساسي الذي استندت عليه هذه العلاقة المتناقضة بين المواطنين لا سيما المزارعين وملاك الاراضي من جهة، والحكومات المختلفة من جهة أخرى هي استغلال الاراضي من أجل الزراعة ومن ثم جمع الجبايات من قبل الحكومات المتعاقبة على اختلاف جنسياتها أو توجهاتها.

ويشير الخبراء إلى محافظة الحقب المختلفة التي حكمت البلاد على ذات العلاقة في جمع الضرائب والجبايات من مزارعي النخيل على طول الشريط النيلي في الولاية الشمالية التي تقطنها الغالبية النوبية من قبائل الدناقلة والمحس والسكوت والحلفاوين وغيرهم. إذ دشن الاستعمار التركي العلاقة الشائهة لجمع الضرائب من زراعي النخيل في الولاية واستمر تلك العلاقات مع اختلافات طفيفة على ذات المنوال في الدولة المهدية وبعدها الاستعمار الإنجليزي ومن ثم الحكومات العسكرية والحزبية المختلفة عقب الاستقلال.

وظلت السلطات تقدم الدعم الزراعي البخس عن طريق البنوك الزراعية أو ما شابه من المؤسسات لتتحصل العائدات والضرائب غير العادلة في نهاية العام أو بحلول مواسم الحصاد.

ويمضي الخبراء للقول أن تلك العلاقة هي التي غذت الوجدان الجمعي لدى أبناء الولاية باعتبار النخيل مصدرا للإلهام المعنوي والمادي والتمسك به كرمز للعزة والكرامة والانسانية والارتباط بالأرض.

حرائق النخيل في الولاية الشمالية ... الدوافع والأسباب

المزارع فاعل خير

مع قدوم الانقاذ للسلطة في العام 1989، تم رفع شعارات الاكتفاء الذاتي من عدة سلع كان يتم استيرادها من الخارج لا سيما القمح وذلك في إطار ادعاء الحكومة مقاومة الهيمنة الأجنبية على البلاد عن طريق الاحتياجات الاقتصادية من الواردات.

دون دراسات حقيقية لامكانية تحقيق أهدافها، اندفعت الحكومة بقوة لزراعة القمح في الولاية الشمالية كما في مشروع الجزيرة قسرا، وفرضت علي المزارعين زراعة محاصيل لم يعتادوا زراعتها دون تقديم دعم واضح يقوم على سياسات زراعية شاملة تنهض بالبلاد.

ويري خبراء زراعيون أن تلك الفترة قادت إلى تدمير المقدرات المالية للمزارعين في الولاية الشمالية إذ أجبرهم النظام على زراعة القمح دون دعم واضح من البنك الزراعي وبتحديد أسعار منخفضة لشراء المحاصيل ما قاد لإفلاس الكثيرين وهجرتهم لمهنة الزراعة التي كانت تقوم بالأساس على زراعة النخيل.

ويروي الكثير من أبناء الولاية طرفة راجت كثيرا خلال حقبة التسعينات عن محاولة النائب السابق لرئيس الجمهورية الزبير محمد صالح اجبارهم علي زراعة القمح وقبول أسعار الشراء الزهيدة للمحاصيل التي تحددها الحكومة، في المقولة الشهيرة ((تلت للطير، وتلت للاسبير، وتلت للزبير، والمزارع فاعل خير)).  

دفعت هذه الأوضاع المتدهورة الملايين من أبناء الولاية الى الهجرة الى خارج السودان أو اللجوء للعمل في التعدين العشوائي عن الذهب بحثا عن مصادر رزق توفر لهم الحد الادنى من الحياة.

لم تقف الاستراتيجية الحكومية عند هذا الحد، بل اندفعت لجذب استثمارات خليجية لزراعة ملايين الفدانات من الحبوب والأعلاف في الولاية تقدرها بعض الاحصائيات بستة ملايين فدان، كما بدأت خطتها لبناء السدود لدعم الزراعة المروية وانتاج وبيع الكهرباء المستخرجة من سدود المنطقة.

خسائر

وتقدر الخسائر بالملايين اثر حريق حوالي 250 الف نخلة خلال العشرة أعوام الماضية حسب احصائيات أعلنت عنها الهيئة النوبية ولجان مقاومة سدي دال وكجبار من أبناء المنطقة، فيما أقرت الحكومة بوقوع 186 حريقا حتى نهاية العام 2016، فيما بلغت الخسائر المالية حوالي 42 مليون جنيه حسب الهيئة النوبية.

وفي ورقة أصدرها جهاز الأمن بالولاية الشمالية تحت عنوان (ظاهرة حرائق النخيل) ، أقر الجهاز بارتفاع نسبة الحرائق خلال السنوات الاخیرة 375%، مشيرا إلى أنها بدأت في العام 2007 وبلغت (53) حریق لتصل بنهاية 2016 الي 186 حريقا.

ورغم اقرار الورقة بأن الحوادث أخذت طابع الظاهرة، واعترافها بضعف وبطئ استجابة اجهزة الدفاع المدني (المطافئ)، الا ان الحكومة لم تفتح تحقيقا واضحا حول الظاهرة بشكل عام حتى الآن، فيما يطالب العديد من المواطنين بالتعويضات المجزية لتفادي تجربة بناء السد العالي في مصر الذي قاد إلى تهجير معظم سكان منطقة وادي حلفا إلى منطقة حلفا الجديدة بشرق السودان دون تعويضات مجزية أو شروط معيشية معقولة.

الأستاذ شوقي محجوب عثمان من قرية (سركمتو)

شهود عيان

 تنتشر أقاويل – غير مؤكدة – تشير إلى أن حرائق النخيل المتكرره تعد محاولة لافراغ المنطقة من سكانها، لا سيما في مناطق السكوت حيث أُحرقت ما لا يقل عن ستة آلاف نخلة خلال فترة وجيزة. غير أن الأستاذ شوقي محجوب عثمان من قرية (سركمتو)، يرجح ان تكون الحرائق وليدة الصدفة  في أغلب الأحايين، كما أن فاعلها ليس معروفا حتى الان.

ويضيف عثمان في حديثه ل(عاين) بأن قلة الاهتمام بالنخيل نفسه في ظل تراجع جدواه الاقتصادية لا سيما في ظل ارتفاع الاحتياجات التنافسية عقب دخول اللاعبين الكبار من المستثمرين الخليجيين والمشروعات الكبيرة التي ابتلعت قدرات صغار المزارعين وصغار الملاك تعد أيضا أحد أقوى الاسباب وراء زهد المزارعين في الاهتمام بالنخيل. ويسرد أن السدود حول المنطقة تمتد آثارها إلى منطقة تسمى (توو)، الان والمیاه شبه متحركة، وتؤثر سلبا على عملیة الصید، وزراعة بعض المحاصيل الشتوية، كالقمح وبعض الخضروات.

یشیر المزارع مبارك صالح عثمان من قرية سركمتو ل (عاين) الى ان الهجرة والظروف المعيشية الصعبة وانعدام الخدمات قادت إلى خلق بيئة طاردة في الولاية دفعت عددا كبيرا من مواطنيها إلى الهجرة والاغتراب وهجر مهنة زراعة النخيل.

خريطة حرائق النخيل في شمال السودان

دلائل

رئیس مناهضة سدال دال، ونائب لجنة المناهضة بمنطقة المحس والسكوت ادریس علي ادریس، یقول ل(عاین) ان الجمیع یعترض علي قیام السدود من الاساس، الا انه یشیر إلى موافقة بعض الموالين للنظام لدوافع سياسية بعيدة عن مصلحة أهل المنطقة. ويذهب ادريس الى ان سیاسة حرائق النخيل متعمدة، مؤكدا ان لها علاقة بقیام السدود في المنطقة.

ويمضي في حديثه ل(عاين) مضيفا: “في مرات عديدة یقوم مجهولون قطع خراطیم میاه البوابیر، كي لا يقوم أصحابها بإطفاء الحريق الذي يضرب نخيلهم، فتحت بلاغات كثيرة دون أن تتوصل السلطات في المنطقة إلى الجاني الحقيقي، واصبحت ظاهرة متكررة، غير معروفة الاسباب“.  

تغيرات مناخية

بینما یحذر محمد مصطفي مختار، من لجنة مناهضة سد كجبار، من تفاقم الظروف البيئية السيئة التي بدأت منذ اقامة السد العالي في مصر وانتهت بحرائق النخيل، الأمر الذي أثر سلبا على إنتاج النخيل وأدى لتراجعه وافقار مواطن المنطقة.

یوضح محمد إن قيام السد العالي أدى إلى ارتفاع معدل الرطوبة، وزيادة نسبة التبخر الامر الذي اضعف انتاجية النخيل كما أدي لانتشار أمراض لم تكن معهودة في المنطقة من قبل مثل السرطانات والفشل الكلوي. ويمضي مختار للتحذير من الآثار البيئية السيئة للحرائق المتكررة وتأثيرها على النخيل والأرض الزراعية والإنسان في المنطقة، ما أدى لخلق حالة طاردة في المنطقة تبدأ بالخطر على حياة الانسان نفسه ولا تنتهي الأزمات بتدهور الدخل.