المتاريس التي أخافت الجلاد
كُتل من الخرسانة والحجارة، وكل ما هو مهمل ومن شأنه أن يشكل عائقاً أمام حركة مرور السيارات يجمعه الثوار في تقاطعات ومداخل الشوارع الرئيسية المؤدية الى اعتصام آلاف السودانيين اما القيادة العامة للجيش لتشكل متاريساً منيعة لحماية ثورة السودانيين من أي هجمات محتملة لفض الاعتصام من قبل قوات الأمن.
منذ السادس من ابريل الفائت موعد دخول السودانيين بعد أشهر من الانتفاضة ضد نظام الرئيس البشير بنى المعتصمون متاريساً منيعة لحماية الاعتصام والتالي ثورتهم، جغرافية هذه الحصون تمتد من كبري القوات المسلحة شرقا؛ مرورا بكل الطرق المؤدية من ناحية شارع النيل إلى مبنى القيادة العامة. بما فيها كبري بحري ومسار قطار السكة الحديد. من ناحية الغرب انتصبت المتاريس على شوارع الجامعة والبلدية والجمهورية على بعد مسافات طويلة من مقر الاعتصام المعلوم بحدود 6 أبريل، ومن الناحية الجنوبية تبدأ الحصون على بعد أمتار من قصر الضيافة بالقيادة العامة للجيش.
عمل دائم
المتاريس ليست وحدها التي تحرس ثورة السودانيين، بل في كل حصن اقامه المعتصمون، يتمركز أمامه حراس في دوريات تعمل ليل نهار بجانب عمليات تفتيش دقيقة للداخلين إلى مقر الاعتصام من الجنسين، وفي مسافة 200 مترا يتوجب عليك أن تمر بأكثر من أربعة متاريس وفي كل ترس منها شبان من الثوار يخضعون أمتعتك الشخصية الى تفتيش دقيق ويمنع تماما دخول الاسلحة بكافة اشكالها او اي آلة حادة بما فيها الاقلام.
منصات الحوار
مسارح المخاطبات في ساحات الاعتصام ما ان يصعد اليها متحدث بعد تحية شهداء الثورة لا ينسى المتاريس بحِراسها الشبان الذين ينالون احتراما وافرا من المعتصمين نظير تضحياتهم وبسالتهم لجهة أنهم الواقفون بشجاعة على مرمى حجر من أي قوة يحتمل مهاجمتها مقر الاعتصام. لدى حراس المتاريس، تنبيهات وإشارات يتم إطلاقها لحظة الخطر من بينها اطلاق صافرات بعينها، حتى تتم عملية مناولة للانذار من ترس الى آخر لتجميع الثوار ودرء الخطر حتى وان كان رصاصاً، ونظير النظرة الامنية الفاحصة لحراس المتاريس يتجمع في غضون دقائق حماة الثورة ومواجهة أي معتدي وهذا ما جرى في أكثر من مرة وفي أكثر من محاولة رصدتها (عاين) لازالة متاريس أو محاولة لاقتحام أرض الاعتصام.
حماة الثورة
عبد الرحمن معاوية، احد حراس تروس شارع البلدية يقول لـ(عاين)، انه ومنذ دخول ملايين السودانيين الى ارض القيادة العامة للجيش في السادس من أبريل الماضي استقر به المقام في هذا المكان الى جانب عدد من اصدقائه الثوار. ويضيف “مهمتنا حراسة ارض الاعتصام وتفتيش الداخلين إليه وحماية تروس هذا الشارع من اي محاولات اعتداء من قبل قوات الشرطة او اي جهة امنية اخرى”. وزاد ” هذا أقل ما يمكن ان نقدمه لأجل ثورتنا الظافرة”. ويضيف “صحيح أننا في مواجهة أخطار عديدة واننا الأقرب لأي خطر مداهمة.. لكن هذه قناعتنا.. من داخل الاعتصام يقومون بدور لا يقل عن دورنا في حماية المتاريس.. ثورتنا بدأنها معا وسنكملها معا، الكل يعطيها من موقعه”. وفقا لمعاوية الذي يشدد على جاهزيته ومن معه من حراس شارع البلدية على مواصلة عملهم حتى تحقيق النصر للسودانيين. في ليلة الثامن من رمضان، 13 مايو الحالي، وبعد حادثة شارع النيل والتي قتل فيها خمسة معتصمين وضابط في القوات المسلحة، وكردة فعل تمددت التروس آلاف الامتار في شارع النيل نفسه وشوارع اخرى عديدة وسط الخرطوم بل شملت أحياء أخرى في العاصمة فيما يشبه التمرين الناجح للاضراب السياسي الشامل.
تصعيد وسحب
تمدد هذه المتاريس اربك المشهد السياسي في البلاد، وبدت قوى المعارضة المتمثلة في قوى إعلان الحرية والتغيير من جانب والمجلس العسكري من جانب آخر أمام تطور جديد في مسار الأحداث بالبلاد. قوى المعارضة التي أصدرت جدولا تصعيديا خلاصة التنوير في الأحياء بالعصيان المدني والاضراب، استشفت أن ما دعت إليه لم يكن تمرينا بل منازلة كاملة الأركان غذتها حادثة قتل المعتصمين بشارع النيل. بينما وجد المجلس العسكري نفسه أمام واقع مختلف حاول من خلال البيان الذي تلاه رئيسيه عبد الفتاح البرهان الظهور في موقف القوى بإعلان تعليق التفاوض مشترطا إزالة المتاريس ووقف التصعيد الإعلامي من قبل قوى إعلان الحرية والتغيير التي نجحت في اقناع الثوار بالتراجع وازالة المتاريس الى حدود الاعتصام في 6 ابريل.
ذاكرة الثورة
“بهذه المتاريس التي تراها امامك نحن قادرون على صناعة الفعل السياسي لصالحة ثورتنا ودماء شهدائها الشبان”. يقول الشاب الثلاثيني خوجلي الطيب لـ(عاين) وهو يؤشر الى حصن ضخم نصبه الثوار غداة حادثة شارع النيل قبالة كلية العمارة الكويتية.ويضيف، شاهد بعينيك كيف اتينا في غضون ساعة بهذه المراكب النيلية الصغيرة وغيرها من السياجات والحجارة الى عرض الشارع واغلقنا أمام قوات الدعم السريع وهو يؤشر ايضا عليها وهي ترتكز على بعد امتار من حصنه الذي يحرسه مع آخرين. المتاريس في ذاكرة السودانيين ثورة، وكانت ليلتها المشهودة في نوفمبر 1964 التي أعقبت ثورة أكتوبر والتي ازاع فيها السياسي السوداني المخضرم فاروق ابوعيسي وقتها بيانا للشعب السوداني بأن الجيش يريد الالتفاف على ثورة اكتوبر المجيدة فخرج سكان العاصمة وأغلقوا الطرق والكباري لحماية ثورتهم فكتب الشاعر مبارك حسن خليفة الانشودة الخالدة والتي تغنى بها الفنان محمد الامين، المتاريس التي شيدتها في ليالي الثورة الحمراء هاتيك الجموع.. بنتها من قلوب وضلوع.. وسقتها من دماء ودموع.. فالمتاريسُ دماءُ الشهداء والمتاريسُ عيونُ الشرفاء والمتاريسُ قلوبُ الكادحين والمتاريسُ ضلوعُ الثائرين.
المتاريس المخيفة
من ليلة متاريس ثورة أكتوبر 1964، هاهو الشاعر عثمان بشرى يعيد علجة الزمان ويكتب عن متاريس ثورة السودانيين 19 ديسمبر ويقول “والمتاريس أحجية الصبر التى فيكم. المتاريس التي أخافت جلاديكم، هي بصدوركم العارية.. وثورتكم الجارية فى عروق هتافاتكم ودماء الشهداء فى التربة الضارية. وهي تنبت الآن وعيا جديداً وفجراً سديداً يرفرف فى فضاء أشواقكم للحياة الكريمة السارية ..فقفوا واستوثقوا من هوام الزمان الرديء الذي قد مضى وانقضى ولكنها الآفة الحرارية: من حماستكم بعض (غفل) ومن وضاءتكم بعض (حسن الظنون) التى من سماحتكم قد تؤذى الذي انتظرتموه زمانا جهيدا…حذارى حذارى من الكبوة المشتهاة لهذه الطغمة.