القاهرة والخرطوم … أزمة الحوار بين دول الجوار
٩يونيو٢٠١٤
كثيراً ما نطلق توصيفات للعلاقات السودانية المصرية على أنها علاقات “أخوية وأزلية” وما إلى ذلك ، ورغم أن هذه العلاقة تتداخل فيها عوامل كثيرة تتعلق بحقائق التاريخ وثوابت الجغرافية ، الأمن القومي و المصالح المشتركة بين البلدين، إلاأنها محاطة بكثير من “الغموض” ، ومرت هذه العلاقة بمراحل مختلفة حققت مؤشرات إيجابية فتارة تصل إلى مراحل متقدمة لدرجة التقارب الشديد والتي تقود إلى الوحدة بين البلدين كنموذج “التكامل بين شعبي وحدة وادي النيل”، وأحياناً يصيبها فتور وتتباعد بسبب توترات تتطور وتصل إلى حد “القطيعة والعزلة”، وظلت علاقات الشعبين خاضعة لتقلبات المناخ السياسي وتغييرات الأنظمة، ورغم الخصوصية في علاقات البلدين التي تميزها عن أي دولتين متجاورتين في العالم، إلا أنها ظلت محصورة في المجرى المائي والنزاع على الأرض ، إضافة إلى أن العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة والخرطوم تتحكمم فيها الأجهزة الأمنية والمخابراتية، وأصبحت القضايا الإستراتيجية تحكمها المواقف السياسية، كقضية مياه النيل ، حلايب والوضع الأمني على الحدود، وكل تلك القضايا شائكة ومعقدة وتحتاج إلى الحوار والتفاوض.
في هذا السياق يشير مدير مركز البحوث العربية والإفريقية الدكتور حلمي شعرواي لـ(عاين ) إلى أن مصر تواجه مخاطر أمنية بحسب تصريحات الرئيس المصري المنتخب حديثاً المشيرعبدالفتاح السيسي والذي اشار اكثر من مرة خلال حملة ترشحه بوجود مخاطر على الحدود الثلاث، ليبيا بدرجة أعلى ، الحدود مع السودان وجنوب سيناء ، ويرى شعرواي أن تلك المخاطر لازالت موجودة بينما هنالك عدم وضوح في السياسة المتبادلة من البلدين رغم تطمينات وزير الخارجية السوداني على كرتي في تصريحات معتدلة ، لكن هنالك عدم إرتياح من الجانب المصري لعدم وجود خطوات عملية على الأرض ، وعد ان ذلك يؤكد أن العلاقة غير مستقرة بسبب وجود قلق أمني على الحدود وهذا القلق خطر على مصلحة البلدين ، ويقول شعرواي ان مصر تقلقها المشاكل على الحدود والسودان يقلقه أنه محاصر بين مصر ودولة جنوب السودان ، إضافة إلى أن الجماعة الحاكمة في السودان غير راضيين عن سقوط الإسلاميين في مصر رغم أن هذا الموقف غير معلن رسمياً ولكن هنالك شعور بعدم الإرتياح من الجانبين، ويضيف ( الرئيس الجديد في مصر من المتوقع أن يتعامل بجدية أكثر وصرامة في تحديد المفاهيم ، مع الحرص على تجاوز العلاقات السلبية ولابد أن يكون هناك تجاوب متبادل وإلا فإن التوتر ليس في مصلحة البلدين ) .
ويرى الخبير في الشؤون الأفريقية أن البلدين في حاجة لعودة التكامل على نسق ما حدث في سبعينات القرن المنصرم للوصول لتفاهمات لحسم ملف حلايب، ويقول شعرواي أن التكامل حين تم في عهدي الرئيسين الراحلين جعفر نميري وأنور السادات، كان يمثل تكاملاً حقيقياً رغم أن النظامين لم يكن يقبلا بعضهما البعض، ولكن ذلك لم يعرقل إقامة علاقات تكامل بين شعبي وحدة وادي النيل، حفاظاً على أمن البلدين وتحقيق المصالح المشتركة ، ويضيف ( في حين لايثار ملف حلايب إلا وقت الأزمات وحين تتوتر العلاقة بين البلدين ) ، وهذا التصعيد ـ كما يصفه ـ فيه مهاترات سياسية ، ويتساءل ( لماذا لاتثار هذه القضية عندما تكون العلاقات مستقرة وودية.. ولماذا لم تحسم هذه القضية حتى الآن ..؟ ) ، لكنه يستبعد في الوقت ذاته تصعيد القضية لمرحلة التحكيم الدولي باعتبار أن الذهاب إلى المحكمة العدل الدولية غير محتمل وغير مجدٍ لأنه يأخذ سنوات طويلة ، على حد قوله .
بينما يأتي الحديث عن سد النهضة الإثيوبي ضمن أسباب فتور العلاقات بين القاهرة والخرطوم، غير أن شعرواي يرفض حل القضايا في إطار سياسي ، ويشير شعراوي إلى أنه لايجوز إتخاذ مواقف سياسية في قضايا إستراتيجية وهذه القضايا لاتحل إلا في إطار التكامل الإقليمي لدول حوض النيل ، وبغض النظر عن صحة موقف أي من الطرفين فإن هذه القضايا لاتحل لمجرد أنها تصادف هوى النظامين أو حدوث تطور سياسي محدود في البلدين ، ويرى أن السودان ومصر أعضاء في الهيئة العليا لمياه النيل، والسودان ملزم منذ إتفاقية بناء السد العالي بالموقف المصري.
بينما يؤكد خبير علم الإجتماع السياسي ومدير مركز الدراسات السودانية في القاهرة حالياً الدكتور حيدر إبراهيم علي لـ (عاين ) ، أن مصر تحاول إحياء الدائرة الأفريقية في المرحلة القادمة بعد ظهور قضية سد النهضة الإثيوبي ، ويشير إلى أن جولة رئيس الوزراء المصري – قبل تشكيل حكومة ما بعد انتخاب السيسي – إبراهيم محلب مؤخراً إلى عدد من الدول الإفريقية تؤكد ذلك ، ويتوقع أن تلعب مصر دوراً مهماً في المنطقة وذلك بإلارتكاز على السودان بعد أن إبتعدت كثيراً عن أفريقيا ، ولذلك سيكون السودان واحداً من إهتماماتها برأي ” حيدر”، ويقول ( يفترض على مصر في توجهها لأفريقيا أن تكون لها علاقة مميزة مع السودان ، لكن يتدخل “العامل الآيدولوجي” خاصة وأن النظام السوداني لازال متمرس في تأييده للرئيس السابق محمد مرسي ومنحاز لجماعة الإخوان المسلمين وهذه عقبة أساسية ) ، ويرى أن النظام في السودان لاينظر للمصالح المشتركة وسيضع في حساباته على أن ماحدث في مصر ضد التنظيم الدولي بالتحديد خاصة انه أكبر حليف له في منطقة الشرق الأوسط ، ويقول ان ذلك سيحكم الموقف السوداني ولكن مصر بإنطلاقتها للجانب الأفريقي لديها خشية من دولتي الجوار ليبيا والسودان وهنالك مخاوف أمنية على الحدود بين الدولتين ، وبالتالي مصر ـ كما يضيف حيدرـ تتعامل مع الملف السوداني أمنياً أكثر من كونه دبلوماسياً .
ويقول حيدر ابراهيم اما في الجانب السياسي فان النظام السوداني له مشاكل وأزمات لن تسمح له بتحسين العلاقة تجاه مصر، ويتوقع انه يمكن ان يطرأ تحسن في العلاقات ولكن سيراوح مكانه وتبقى “شعرة معاوية” بينهما ، محذراً من التقارب بين زعيم حزب المؤتمر الشعبي الدكتور حسن الترابي مع النظام السوداني بما فيه من إحتمالية توحيد الإسلاميين، مؤكداً أن الفترة السابقة في العلاقات تختلف عن الفترة الحالية، ويضيف ( الآن هنالك حرب مفتوحة ولها أولوية وحرب مشروطة بالإحتواء والقضاء على الإخوان هذا ما سيجعل الوضع مختلفاً ) .
وفيما يتعلق بتأثير ملف حلايب على علاقات البلدين ، يؤكد حيدر ابراهيم على أن موضوع حلايب صار أمراً واقعياً بالنسبة للنظام في الخرطوم ، بل أنه راضٍ بالوضع الحالي في حلايب ووافق عليه ، بينما يعتبر الحديث عن سد النهضة والذي يمثل عقبة في علاقات البلدين بأنها ضجة إعلامية لا أكثر ، لكنه إستدرك قائلاً ( هنالك شكل من أشكال التفاوض يتم الإعداد له سيتم فيه تجاوز السودان ) ، ويشير في هذا الصدد إلى تصريحات وزير الخارجية الإثيوبي ألذي أبدى إستعداد بلاده للتفاوض مع مصر، واوضح أن تلك التصريحات وجدت ترحيباً من الجانب المصري وقريباً سيجلس الطرفان للتفاوض دون حضور ممثل عن السودان.
القاهرة والخرطوم … أزمة الحوار بين دول الجوار ( الجزء الثاني )
سد النهضة تحول إلى محبس وهذا يعني الإبادة الجماعية للشعب المصري، هذا ما يؤكده أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة الدكتور أيمن شبانة في حديثه الى موقع (عاين ) وهو يرى أن ملف سد النضهة الإثيوبي يأتي بالدرجة الأولى على قائمة الأولويات في ملف في العلاقات بين مصر والسودان ، إضافة إلى ملفي الأمن ، وحلايب ، وقال ( حلايب الآن ليست أولوية خاصة وأن مواطني حلايب لديهم جنسية مزدوجة) .
ويشير شبانة إلى أن سد النهضة الإثيوبي ليس من القضايا التي يمكن تأجيلها كما لا يمكن إعتبارها قضية عادية بل هي قضية مصيرية بالنسبة لمصر ، ويقول ان السودان رغم أنه تضامن مع مصر في إتفاقية عنتبي لدول حوض النيل ، إلا أن مواقفه كانت واضحة في تأييده الكامل لاثيوبيا في بناء سد النهضة ، وتابع (هنالك إستياء مصري من موقف السودان فضلاً عن أن نظامه تصرف بشكل يخدم المصالح التجارية والإستثمارية وحرص على تحقيق مصالحه التي تربطه بإثيوبيا ويخطط لإعمار مناطق شرق السودان وزراعة أراضيه بعد أن كانت تغمرها الفيضانات، رغم أن هنالك مخاطر من السد على السودان ) ، مشيراً إلى أن تقرير اللجنة الثلاثية أكد على أن السودان متضرر من بناء السد وان المخاطر جسيمة على البلدين.
أما على مستوى الملف الأمني، يؤكد أستاذ شبانة على أن السيسي لديه رؤية ويعلم أهمية السودان لمصر وان إستقراره الذي ينعكس على إستقرار مصر، ويصف علاقات البلدين بأنها قديمة وشديدة الخصوصية والكثيرون يعتبرونها فوق العادة، ، ويستطرد قائلاً ( إلا أن مبارك اهمل إفريقيا بكاملها وليس السودان فحسب ) ، ويضيف ( بينما تدهورت علاقات السودان بالعديد من دول الجوار ومن بينها مصر، حيث تسببت ثنائية البشير والترابي في تصعيد التوتر حين أشارت أصابع الإتهام لتورط السودان في حادثة إغتيال الرئيس الاسبق حسني مبارك، لكنها عادت لتتحسن تدريجياً عقب خروج الترابي من السلطة ) ، ويوضح أن العلاقات شهدت تحسناً محدوداً ـ لكنها لم تكن على مستوى عهد مبارك ـ بعد صعود الإخوان المسلمين في مصر، بإعتباره داعم للسودان لانه يضم عناصر الحركة الإسلامية .
ويواصل شبانة حديثه قائلاً : أن النظام المصري يحتاج الى ضمانات سياسية بعدم التدخل في شؤون دول الجوار وما يقلق مصر الآن أن النظام السوداني بدأ يبحث عن دفاتره القديمة ، وذلك على خلفية الحوار الصامت الذي تديره الحكومة مع المعارضة ويكتنفه كثير من التخبط والغموض، ويشير إلى أن النظام السوداني بعد أن تخلص من الحمولة الثقيلة من امثال علي عثمان طه النائب السابق للرئيس السوداني، ومساعد الرئيس نافع علي نافع،عاد بالترابي مرة أخرى ليشكل ثنائية اخرى مع البشير على غرار فترة التسعينات ، ويتسائل ( هل الترابي يساند البشير ..؟ ) ويجيب قائلاً: ( طبعا نعم البشير يستعين بالترابي على حساب القوى الآخرى، وإعتقال السيد الصادق المهدي خير دليل على ذلك ) ، ويرى ان البشير في اتجاهه نحو تقوية موقفه فانه يريد أن يرشح شخص من المؤسسة العسكرية ، ويتردد الحديث عن ترشيح نائبه الأول بكري حسن صالح، ومن وجهة نظر شبانة أن هذا السيناريو يؤكد عودة النظام السوداني إلى سابق عهده حين كان يأوي الجماعات الإرهابية من الاسلاميين المتطرفين لذلك مصر تطالب السودان بعدم فتح أراضيه مرتعاً للإخوان المسلمين مثلما قامت به دولة قطر، كما يجب ألايتدخل بورقة الإخوان في الشأن المصري.
وفيما يدور حول ملف حلايب فان الدولة السودانية فقدت أكثر من 700 ألف كلم مربع من مساحتها وتبحث عن حلايب ، في اشارة الى انفصال جنوب السودان في العام 2011 ، ويتسائل ( لماذا يثار ملف حلايب في هذا التوقيت في حين أن السودان لديه ملفات عالقة اخرى في ابيي ومشاكل على الحدود مع الدولة الوليدة في جنوب السودان لم يتم حسمها ؟)
ومن وجهة نظر مدير وحدة دراسات السودان وحوض النيل بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية هاني رسلان الذي تحدث لموقع (عاين ) أن العلاقة بين البلدين تشهد فتوراً، غير أنه يشير إلى أن هنالك قضيتين تتصل الأولى منهما بأمن الحدود وتأثيره على الأمن القومي المصري، والثانية يتعلق بمياه النيل وموقف السودان من بناء سد النهضة الإثيوبي، وينوه رسلان إلى أن قضية الأمن وتطوراتها بشكل عام محل إهتمام ومراقبة بالنسبة لمصر وهنالك خشية من التحول إلى الفوضى والصوملة، بإنتقال الصراع في مناطق دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق إلى داخل الخرطوم، وهذا من شأنه أن يزعزع الأمن والإستقرار ويؤثر على أمن البلدين.
ويقول رسلان أن النظام السوداني “إخواني” وقام بفتح أراضيه للإرهاب ، وقام بتمويل وتدريب الجماعات الإرهابية والتي ظلت موجودة في السودان، وان ذلك تسبب في توتر العلاقات بين البلدين، وتصاعد التوتر إلى أن وصل قمته بوقوع حادثة إغتيال الرئيس الأسبق حسني مبارك ممأدى لإنقطاع العلاقات لفترة طويلة، ويضيف ( لكن عادت العلاقات في أعقاب المفاصلة بين الإسلاميين في السودان فأستعاد النظام السوداني علاقته بمصر لفتح صفحة جديدة مع مصر في الإطار الإقليمي ) ، ويقول ان النظام السوداني حمل مسؤولية تلك “العمليات الإرهابية” الى الترابي، لكن إتضح أن النظام السوداني لم يكن صادقاً في توجهاته حتى بعد ابعاد الترابي من الحكومة في نهاية التسعينات ، وأثبتت تقارير عن وجود معسكرات تدريب في مثلث الحدود مع ليبيا ، بالرغم من ان الخرطوم تنفي صحة تلك التقارير، ويتابع ( النظام في الخرطوم يؤكد على انه لن يتدخل في الشأن المصري، وهذا يجب الا يكون بالتصريحات والاحاديث عبر الاعلام بل يجب أن تتخذ إجرءات على الأرض) ، ويقول ( اذا تعاون السودان مع مصر في الملف الامني فهذا امر سيكون جيداً للبلدين ) .
ويشير الخبير بوحدة دراسات حوض النيل هاني رسلان إلى أن تأييد السودان المطلق لسد النهضة يعتبر واحداً من أسباب فتور العلاقات مع مصر، ويضيف ان هنالك عدد من الخبراء السودانيين يؤكدون على وجود ضرر للسد بأشكال متعددة، ويشدد رسلان على أن الموقف السوداني سياسي ولم يكن واضحاً لكنه وبعد بناء السد أصبح عدائياً مع مصر، غير أنه يرى أن حل القضايا بين البلدين عبر أليات الحوار والتفاوض للوصول لتفاهمات حول المصالح المشتركة وإلى موقف لايمثل تهديداً لأحد الأطراف.