العقوبات على السودان: ثراء النظام وخسارة الدولة
– شبكة عاين – ١٨ نوفمبر ٢٠١٦ –
لم يتوقع النظام السوداني سماع خبر تجديد الرئيس الأمريكي باراك أوباما العقوبات الاقتصادية على البلاد، خاصة بعد المساعي التي تبذلها الحكومة السودانية لرفعها. ويتم التجديد سنوياً منذ نوفمبر في العام ١٩٩٧، ويعد قرار أوباما هو الأخير قبيل مغادرته البيت الأبيض في يناير القادم. وسوف يتسلم دونالد ترامب الرئيس الأمريكي المنتخب مهامه، فيما حدد مستشاره وليد فارس الخطوات التي سيبدأها ترامب حول السودان وجنوب السودان في برنامج (المائة يوم).
وفي ذات الوقت اتخذت الخرطوم سياسيات اقتصادية تقشفية وصفها الرئيس عمر البشير في اجتماع لمجلس شورى الحركة الإسلامية ب”الزنقة الاقتصادية”، حيث قررت الحكومة تحرير سعر الوقود وزيادة تعرفة الكهرباء في محاولة للسيطرة على معدلات التضخم ووقف تراجع العملة الوطنية. وبدأ تطبيق زيادة أسعار المحروقات فوراً، وتبرر الحكومة هذه الخطوات بسبب المقاطعة الإقتصادية وتجديد العقوبات عليها من قبل واشنطن.
استمرار تجديد العقوبات لعشرين عاماً
وقد جدد الرئيس الأميركي باراك أوباما في الأول من نوفمبر الجاري العقوبات المفروضة على السودان لمدة عام، وقال إن سياسات وتصرفات الحكومة السودانية ما زالت تشكل خطرا على الأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة. وبحسب تصريح صحفيللخارجية الأميركية فإن “القرار فني وجزء من عملية روتينية سنوية لا يؤثر على قدرة الرئيس في تخفيف العقوبات في أي وقت في المستقبل”. وأشارت إلى أن قرار الرئيس أوباما يعتبر جزءا من عملية سنوية بدأت منذ تسعة عشر عاماً، عندما أعلن الرئيس الأمريكي بيل كلينتون قانون الطوارئ الوطني فيما يتعلق بالسودان.
وكانت الخارجية الأميركية قد قالت في سبتمبر الماضي أن محاربة الإرهاب يمثل هدفا مهما للولايات المتحدة وتعهدت بالانخراط مع حكومة السودان بشأن حماية حقوق الإنسان وحل الصراعات الداخلية ومعالجة الاحتياجات الإنسانية وتحسين الاستقرار الإقليمي والحريات السياسية والمساءلة والمحاسبة. وكانت واشنطن قد خففت العقوبات المفروضة على السودان، وسمحت للشركات الأمريكية بتصدير تكنولوجيا الاتصالات إلى السودان، كما سمحت بمنح السودانيين تأشيرات دخول إلى أراضيها من سفارتها في الخرطوم، فضلا عن استثناءات تتعلق بالمجال الزراعي.
وفي يونيو من العام ٢٠١٤ دفع بنك (BNP) الفرنسي حوالي (٦,٤٥) مليار يورو للحكومة الأمريكية كغرامة مالية، بعد أن اعترف بعدم احترامه لقانون فيدرالي أمريكي يمنع التبادلات التجارية والصفقات المالية مع ثلاث دول وهي كوبا وإيران والسودان. وظل نظام الإنقاذ يسعى خلال ربع قرن على رفع العقوبات وتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة. ولم يترك النظام طريقاً وإلا سلكه، بداية من التنازلات التي قدمتها الخرطوم منذ أن وضعت واشنطن السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب في العام ١٩٩٣م، ومن بين التنازلات التي تم تقديمها تسليمأسامة بن لادن. ومن التنازلات انتقلت الحكومة إلى الوساطات، ومؤخراً ترددت أنباء عن وساطة إسرائيلية إلا أن نائب رئيس مؤتمر الحوار الوطني إبراهيم محمود نفى ذلك.
دور إسرائيلي في الخفاء لرفع العقوبات عن السودان
ويرى الصحفي السوداني والمحلل الاقتصادي حسن منصور أن إسرائيل راغبة فى التطبيع مع السودان، رغم التوجهات العدائية تجاه إسرائيل. ولكن بالنسبة إلى تل أبيب فإن تطبيعها مع الخرطوم يعني وقف مد السلاح إلى حركة (حماس) الفلسطينية باعتبار أن السودان يعد أهم المعابر. وفي ذات الوقت يرغب النظام السوداني في التطبيع بطريقة غير معلنة على غرار صديقتها قطر، وأن هذا التطبيع قد يقود إلى إلغاء العقوبات الامريكية او فى حدها الأدنى غض الطرف عن بعض التعاملات والتخلي عن الرقابة الشديدة للمصارف العالمية ومنعها من التعامل مع السودان وعليه فإن التطبيع مع تل أبيب هو الذى سيقود لإلغاء العقوبات وليس العكس.
ويؤكد منصور على أن القضايا التي أدت للعقوبات مازالت قائمة، وفي مقدمتها الحرب فى دارفور، والنيل الأزرق وجبال النوبة، ولذلك جددت واشنطن فرض العقوبات على السودان التي لم تستثني تصدير الذهب من قائمة الحظر. وتعتقد الإدارة الأمريكية أن عائدات الذهب يتم استغلالها فى تمويل الحرب وقتل المدنيين فى دارفور، وهو ذات السيناريو الذي طبقته واشنطن على السودان بعد استخراج وتصدير البترول نهاية عام ١٩٩٩م، وما أطلق عليه فى وسائل الإعلام الغربية آنذاك : (بترول الدم blood oil).
ويعتقد منصور أن الحكومة السودانية حاولت الاستفادة من الدور الإسرائيلي الخجول الذي برز مؤخراً في الصحافة الإسرائيلية التي حثت أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي لتخفيف الضغط علي السودان. لكن هذه المبادرات تحتاج وقتا طويلاً لتتبلور ومن ثم تتحول إلى توصية لرفع العقوبات. إسرائيل تعتقد أن التحالف مع السعودية نقطة تحول هامة بعد أن قطع السودان علاقته بإيران وأنه يستحق المكافأة قبل أن ييأس ويعود مجددا إلى طهران، علاوة على أن تل أبيب ممتنة للسودان بدوره في ترحيل اليهود الفلاشا على أيام حكم الرئيس الأسبق جعفر نميري (١٩٦٩ – ١٩٨٥).
عائدات الذهب تحت الأنظار الأمريكية
ويتفق الخبير الإقتصادي مدير مركز إفريقيا للعدالة حافظ إبراهيم مع حديث سلفه ويقول لـ(عاين)، إن الإدارة الأمريكية تنظر للذهب كأداة تساهم فى استمرار الحرب والعنف بتوفير موارد، ويضيف “لذلك ليس فقط من جانب الحكومة، لكن ايضا المليشيات وبعض الحركات المسلحة وهذه المسألة محل اهتمام كبير لدى الإدارة الأمريكية”. ويُنظر إلى آثار التنقيب البيئية وكل تلك الأسباب تجعل قضية عائدات الذهب ذات إهتمام بالغ، لذلك من الصعب تمريرها عبر القنوات المصرفية الرسمية لأنها تخضع إلى الرقابة.
وتوقع الخبير القانوني أحمد حسين آدم أن يتم رفع جزئي لبعض العقوبات بعد الإنتخابات الأمريكية ولكن العقوبات على الأفراد والمؤسسات لن يتم رفع العقوبات عنها، ويقول إن الإبادة الجماعية في دارفور ومناطق النيل الأزرق وجبال النوبة لم تتوقف إلى جانب الاستمرار في إنتهاكات حقوق الإنسان من اعتقالات ومصادرة حرية الصحافة وغيرها. وكشف آدم عن تقرير عن الفساد سيتم إصداره مع العام المقبل، ويضيف “الأزمة الحقيقية أن التفكير في رفع العقوبات من قبل الادارة الامريكية يعني استمرار النظام في قتل المواطنين والفساد المستشري”.
ويرى حافظ إبراهيم أن تجربة رفع العقوبات عن إيران ما زالت ماثلة حيث تم رفع جزئي للعقوبات بفك تجميد جزء من الأرصدة، ولكن تم الإبقاء على العقوبات على التعاملات البنكية الأخرى وهى الأخطر. وضرب مثلاً بقوله “حتى عندما أرادت واشنطن دفع تعويض بمبلغ ٤٠٠ مليون دولار لإيران تم تسليم المبلغ نقدا وعندما سئل الرئيس أوباما قال هذا يؤكد التزامنا بالعقوبات التي فرضناها”.
ويرجّح الخبير الإقتصادي أن تزداد عزلة البلاد تماماً عن المنظومة المصرفية الدولية، بفرض إجراءات مشددة على البنوك العالمية. لكنه يرى أن معالجة أزمة السودان الإقتصادية لا تتم برفع العقوبات وحدها بل بفرض إجراءات إضافية تكمن فى معالجة الاختلال فى هيكل الاقتصاد نتيجة للسياسات الخاطئة التي ارتكبها النظام لعقود.
إنهيار النظام اقتصادياً
وقد أصدرت منظمة كفاية الأمريكية تقرير عن فساد نظام الإنقاذ خلال مرحلة العقوبات الأمريكية على السودان تحت عنوان “انهيار نظام الخرطوم الإقتصادي: تلاقي الحرب، والمصلحة، والجشع”. ويقول التقرير: بدأ النظام الحاكم و أنصاره السيطرة علي و إمتصاص الثروة لأنفسهم من قطاعات الاقتصاد الإستراتيجية ذات القيمة العالية, بما في ذلك قطاع النفط، والمواصلات, الاتصالات, وقطاع البناء والتشييد. كذلك خصخص النظام مؤسسات الدولة بإعطاء الهيمنة على هذه المؤسسات للشركات و األعمال الخيرية المتحالفة معه على أسس غير تنافسية و بأسعار زهيدة. الشبكات الإقتصادية المتحالفة مع النظام, وتضم مئات الشركات التجارية التي سيطرت على ما كان يمكن أن يشكل القطاع الخاص المستقل و المنتج خلقت ما يسميه الناس في السودان (بالاقتصاد الرمادي). ويشير التقرير إلى أن الاقتصاد الرمادي هذا يزدهر في ظل (الحكومة العميقة).
ويفنِّد تقرير المنظمة إدعاءات الحكومة السودانية بأن الضائقة المعيشية وتدهور الإقتصاد سببها العقوبات الأمريكية المفروضة على البلاد، ويقول أن الحكومة تزعم ان العقوبات الأمريكية قد خلقت ضائقة معيشية يعاني منها الشعب السوداني. ويتهم التقرير مسؤولي النظام الحاكم صراحة بسوء إدارتهم للإقتصاد، إهدار وتبديد الموارد وتحويل المال العام بعيدا عن قطاعات التنمية الإنتاجية والبشرية- تحديدا الزراعة،الصحة، الصناعة والتعليم – نحو حسابات فردية خاصة أو تمويل الحرب ضد المواطنين السودانيين في المناطق الطرفية، وبالإضافة إلى تكريس نصيب غير متكافئ من الموازنة القومية للقطاع العسكري وقطاع الأمن. ويكشف التقرير حجم الفساد وبلوغه درجة أن النظام يدير موازنة خفية لا تخضع للرقابة بواسطة المؤسسات الحكومية. هذه الموازنة الخفية يقال انها تفيد جماعات المصالح المقربة من الدوائر الداخلية للسلطة، ولإعداد جيوش النظام الحاكم كالأمن وقوات الشرطة لقمع المعارضين السودانيين بصورة فعالة ومجابهة التحديات التي تواجه السلطة.
الإبادة الجماعية في دارفور وراء استمرار تجديد العقوبات
ومن جانبه يقول الخبير الاقتصادي عصام عبد الله لـ ( عاين ) إن العقوبات الاقتصادية على السودان التي تم تجديدها من قبل الرئيس الأميركي باراك أوباما مطلع نوفمبر تؤكد أن الحكومة السودانية لم تفي بالتزاماتها. ويضيف عبد الله “إذا افترضنا أن الرئيس الرئيس الأمريكي أوباما حاول رفع العقوبات عن السودان إلا أنها لم تكن تجد موافقة من الكونغرس، الذي لم يوافق على عقد جلسة استماع لمرشح الرئيس للمحكمة الدستورية العليا حتى الآن”. ويتابع عبد الله “كان سيتم على أقل تقدير ترحيله بعد وصول الرئيس/الرئيسة إلى البيت الأبيض في يناير المقبل … ولكن أوباما جدد العقوبات قبيل مغادرته البيت الأبيض”.
ويرى عبد الله أن قضية دارفور وجرائم الإبادة الجماعية وجدت دعما مقدراً من بعض الشخصيات الأميركية ومنظمات المجتمع المدني وبعض المشاهير، ويقول إن “الحكومة السودانية فشلت لهذا في إقناع الولايات المتحدة في رفع العقوبات، لأنها حكومة عدوة نفسها”.
ويرى عبد الله أن العقوبات لا تشمل الصحة والزراعة إلى جانب تخفيفها عن في مجال تبادل التقنية المعلوماتية، ويعتقد أن الأجهزة الطبية ذات الكفاءة هي أمريكية الصنع وان طلاب الدراسات العليا يجدون صعوبة بالغة في الحصول على المراجع الإلكترونية عبر الشبكات العالمية إلى جانب صعوبة الحصول على تأشيرة الدخول الى امريكا او اوروبا للعلاج. ويقول عبد الله “ولكن التحويلات البنكية هي الأساس وإذا تم رفع العقوبات عنها فإن ذلك يعني إلغاء العقوبات بصورة نهائية”. ويشير عبد الله إلى أن النقد الأجنبي وتحويلات السودانيين عبر القنوات البنكية الرسمية غير متوفرة، ويقول “هذا ساهم كثيراً في انخفاض قيمة الجنيه السوداني مقابل الدولار الأمريكي ونتج عنه ارتفاع جنوني في أسعار جميع السلع مما أرهق كاهل المواطن السوداني صاحب الدخل المحدود إلى جانب القرارات الاقتصادية الأخيرة التي اتخذها النظام توضح مدى تأثير العقوبات عليه الحكومة”. وأوضح عبد الله أن ارتفاع معدلات الفساد في جميع مرافق الدولة إنعكس على حياة المواطنين اليومية وان السودان أصبح من أكثر دول العالم فساداً وفق تقرير منظمة الشفافية العالمية في تقريرها السنوي.