إستبعاد تجار من سوق ليبيا على أسس عنصرية

إستبعاد تجار من سوق ليبيا على أسس عنصرية

– شبكة عاين – ٢٣ مايو ٢٠١٦ –

يعتبر سوق ليبيا من أكثر الأسواق شهرة في الخرطوم، وغالبية تجاره من إقليم دارفور، ربما بسبب العلاقة التاريخية بين الإقليم ومدينة أم درمان ثالث مدن العاصمة السودانية، الذين شهد لهم المراقبين بالتمدد التجاري فتنامت رؤوس أموالهم. ويعتقد مراقبون أن ظهور الكتاب الأسود والحركات الثورية التي حملت السلاح في الإقليم المضطرب كانا وراء تضييق الحكومة وإستهدافها بشكل ممنهج لصغار وكبار التجار في سوق ليبيا منذ فترة ليست بالقصيرة وظل الاستهداف مستمراً بشكل ممنهج لا سيما بعد عملية (الذراع الطويل) بدخول حركة العدل والمساواة في العام 2008 العاصمة الخرطوم، وصفها الكثيرون بأنها كانت جرأة لم تحدث الا في العام 1976 عندما دخلت تحالف قوى الجبهة الوطنية التي ضمت أحزاب (الأمة، الإتحادي الديمقراطي وجبهة الميثاق الإسلامي).

يعتقد أستاذ الاقتصاد في الجامعة الامريكية في القاهرة البروفيسور حامد علي أن إستهداف تجار سوق ليبيا لا ينفصل عن عمليات التطهير العرقي التي تقوم بها الحكومة في اقليم دارفور منذ العام 2003، وبسببها أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف ضد الرئيس السوداني عمر البشير لاتهامه بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب. ويرى أن نهج الإنقاذ يهدف إلى ضرب النسيج الاجتماعي السوداني وزيادة رقعة نزوح أهل الهامش، ويقول “قامت الحكومة بعملية متوازية وهي ضرب السكان في الهامش وإفلاس تجارهم في المدن بالضرائب الباهظة والجمارك والاساليب الاخرى التي يرويها التجار انفسهم“.

وفي الاسواق كسوق ليبيا ايضاً ابتدرت الحكومة بضرب النسيج الاجتماعي داخل السوق، كما انها قامت بتصنيف التجار بذات الطريقة التي تمت في الإقليم إلى زرقة وعرب بين الدافوريين، وإلى غرابة وجلابة خارج إقليم دافور. ويقول ان هذه التسميات تعتبر تمييزاً عرقياً، وشجع بعض التجار للدخول في النشاط السياسي لأن أي هجوم يتطلب مقاومة بشكل ما، ويعتقد أن الحكومة لا تريد لأهل الهامش الازدهار في الحياة والتقدم لذلك قامت بضرب جذور سوق ليبيا واستهدفت كبار التجار داخلياً وخارجياً ظناً منها انه الطريق القويم لمحاصرة أهل الهامش والاستحواذ على المفاصل الاقتصادية بسياسة التجويع. ويضيف “لكن ابواب الأسواق مشرعة امام الناس فأبناء الهامش ودارفور وجدوا أسواق كبيرة في دول الجوار ولم يخرجوا من الحياة كما ارادت الحكومة السودانية“.

إستهداف تجار سوق ليبيا حتى خارج الحدود

إذن الإستهداف الذي قام به النظام وضع أمام التجار من إقليم دارفور خيارات ضئيلة، بعد أن تم إغراقهم بديون وضرائب وجبايات، إما أن يتركوا مهنة التجارة في السودان و سوق ليبيا، فمنهم من إتجه للعمل التجاري في دولة جنوب السودان، بل فضَل بعضهم ضرب أكباد الأرض بحثاً عن رزقهم في مكان آخر بالسفر إلى الصين، ومع ذلك كما يقول أحدهم ان السلطات السودانية لاحقتهم سواء في جنوب السودان، حيث اتهمت الخرطوم بانها كانت وراء المذبحة التي ارتكبت في ولاية الوحدة خلال الحرب الأهلية التي جرت بين حكومة سلفا كير والمعارضة المسلحة بقيادة رياك مشار، وقد قتل العديد من أبناء دارفور في مذبحة ولاية الوحدة غالبيتهم تجار.

بعض التجار من أبناء دارفور الذين تعاملوا مع الصين وتمكنوا من زيادة رؤوس أموالهم قصد النظام على إخراجهم من السوق عبر مختلف المؤامرات، منها ما ذكره أحد التجار الذي طلب عدم الكشف عن اسمه بأن عناصر النظام قامت بدس صناديق الذخيرة داخل أحدى حاويات البضائع التي إستوردها أحد التجار. وعندما تمت مداهمة المحل تم الضبط على الذخائر، ويقول إن آخرين وضعت لهم مخدارات عند التفتيش ليتم توريطهم بها، ويضيف “عند ضبط السلاح يتم إتهامه بأنه عميل للمعارضة المسلحة ويطالب بدفع غرامة باهظة تصل إلى أكثر من مليون جنيه ومصادرة المحل التجاري، أما المخدرات يحاكم بالسجن ومصادرة البضائع والمحل التجاريأعرف أحد التجار كان رأس ماله أكثر من سبعين ألف دولار لكن تم إبعاده من السوق بدس المخدرات في حاوية البضائع ببورتسودان“.

الزحف على سوق ليبيا

وينقسم سوق ليبيا إلى ثلاث مربعات التي تضم محال تجارية مساحة المحل الواحد (متر ونص المتر مربع) ويتراوح إيجاره ما بين (180 ألف إلى 200 ألف) جنيه في السنة. وتخصصت هذه المحال بتجارة الملبوسات الجاهزة التي يتم إستيرادها إلى جانب العطور، المفروشات والكريمات وغيرها، ويقول أحد التجار لـ (عاين) ان اصحاب وملاك هذه المحال أغلبهم من غرب السودان وبسبب الضرائب فإن غالب هؤلاء التجار غادروا السوق وأن بعضاً منهم ذهب إلى أسواق أخرى في أحياء (مايو، والحاج يوسف ومناطق السكن العشوائي)، وولايات السودان. ويضيف “هناك من تعسر في سداد ديونه للبنوك فدخلوا السجون وآخرين أعلنوا إفلاسهم ويعيشون حياة صعبة للغاية بعد أن فقدوا أرزاقهم ولزموا منازلهم أو عادوا إلى موطنهم الأصلي في دارفور“.

والمربع السادس يضم محلات للاجهزة الإلكترونية التي كانت تصل من ليبيا، ويقول التاجر الذي فضل حجب اسمه لـ (عاين) ان تجار تم دعمهم من قبل النظام أدخلوا البضائع الصينية، ويضيف “الحكومة تخفض لهؤلاء التجار الضرائب وتقدم لهم تسهيلات كثيرة وفقدنا القدرة على التنافس لأن الضرائب عالية بالنسبة لتجار الغرب الذين لا يوالون النظام“. ويؤكد التاجر أن هناك بنايات جديدة تقع شمال السوق تم تخطيطها بحجة تحويلها إلى سوق جديدة، وقد إستحوذ عليها التجار الذين تدعمهم الحكومة وقد أصبحت تلك البنايات مخازن للبضائع والشركات وأسعار بضائعها أقل من تلك التي في سوق ليبيا، ويقول “هذه سياسة واضحة لإنهاء سوق ليبيا وتفريغه من أبناء دارفور عبر تحطيم الأسعار“.

سوق عمره أكثر من اربعين عاماً

يقول أحمد النفيدي أحد قدامى تجار سوق ليبيا وهو من أبناء الولاية الشمالية لـ(عاين) ان سوق ليبيا يعود تأسيسه إلى آواخر السبعينات وبدأه التجار من أبناء غرب السودان الذين لم تكن لديهم القدرة من الذهاب إلى دول الخليج حيث وقتها أشتهر تجار الشنطة بجلب البضائع من السعودية والامارات العربية، وفي المقابل فإن التجارة مع دولة ليبيا في ذلك الوقت كانت صعبة بسبب الصحراء القاحلة ووسائل المواصلات حيث كان يتم إستخدام الإبل وكثيراً ما يذهب التجار عبر جمهورية مصر.

ويقول النفيدي ان سوق ليبيا في ام درمان كان نتيجة كل تلك الظروف ووضع بعيداً عن المدينة وقد إستمر السوق في موقعه ذاك وأصبح من أشهر الأسواق حيث دخلت البضائع من ليبيا ودول أخرى منذ منتصف ثمنينات القرن الماضي، حيث سهلت سبل المواصلات وأصبحت البضائع من مصر ودول الخليج تصل بطرق مختلفة، ويضيف “ولكن وبعد وصول الجبهة الاسلامية إلى السلطة تغير كل شئ وأصبح هناك إستهداف لإفراغ السوق من أصحابه الحقيقيين“.

ويشير النفيدي إلى أن النظام الحاكم بدأ في إنشاء شركات تابعة للحركة الإسلامية الحاكمة وأصحابها من أبناء شندي ومن ولاية نهر النيل وكان المشرف عليها المرحوم مجذوب الخليفة وفي الوقت الراهن مساعد الرئيس الاسبق نافع علي نافع. ولكنه يكشف عن أمر مهم وهو دخول تجار صينيين وسوريين لديهم شراكة مع نافذين في النظام الحاكم، ويقول “سنشهد إستعمار جديد في الأسواق السودانية“، ويقول “لقد تم تشريد اكثر من سبعين بالمئة من مؤسسي هذا السوق ومن بقي من التجار قد تكون لديه علاقات مع تنظيم الجبهة الاسلامية وشبكة علاقات معقدة لا يمكن ان تتعرف عليها“. ويرى النفيدي أن إقليم دارفور يعد أكبر روافد الإقتصاد السوداني إلى جانب العنصر البشري، ولكن تم إستهدافهم في هذا السوق بشكل منهجي وعلى أسس عنصرية على حسب تعبيره.

إستهداف من على البعد

ويكشف أحد ضحايا الإبعاد من سوق ليبيا أن إستهداف النظام للتجار من أبناء دارفور حتى خارج البلاد في الصين، تشاد والامارات العربية وغيرها من الدول، ويقول “شهدت مدينة قوانزو الصينية موجة إستهداف من قبل النظام وشهدت تشاد حادثة إغتيال التاجر السوداني الدومة، وتمت تصفية أعمال التاجر المعروف الراحل الحاج أدم يعقوب الذي فارق الحياة بسبب الإفلاس“.

وللتاجر السوداني عوض الحسين قصة مثيرة وتعتبر واحدة من القصص المدهشة التي حدثت له شخصياً، حيث قال لـ (عاين) أنه كان يمتلك رأس مال مكنه من إنشاء شركة في الصين، ويقول “كنت في الصين بمدينة (قوانزو) وكنت لدي معاملات تجارية في عدد من الدول، وفي كل عام أقوم بتجديد إقامتي في الصين“، ويشير إلى أن العام 2010 كان لديه موعد آخر لتجديد الإقامة وقد تزامنت مع زيارة لوفد من حكومة السودان برئاسة وزير الدولة للخارجية في ذلك الوقت علي كرتي ووزير العدل بشارة دوسة، ويضيف “كانت المفاجأة أن قامت الحكومة الصينية بحجز جواز سفري وعلمت أن ذلك تم بإيعاز من سفارة السودان في بكين دون توضيح السبب“.

ويقول الحسين أن إدارة شؤون الأجانب في بكين رفضت تسليمه جواز سفره أو أي مستند يوضح هويته وسارعت في إبعاده من الصين، ويتابع “وبعدها تم تسليمي جواز سفري أمام سلم الطائرة المتجهة إلى دبي والتي وجدت فيها أيضاً حملة أخرى لطرد أبناء دارفور شملت جبريل إبراهيم، بشارة سليمان وإبراهيم لودر بحجة أنهم يدعمون الحركات المسلحة التي تحارب في دارفور“، ويقول “هذه فرية … ورغم هذه الحملات لم يستطيع النظام أن يخرجنا من الحياة مع إنه أبعدنا من السودان قسراً“.

وشمل الأستهداف أبناء دارفور في دولة جنوب السودان إلى جانب أن النظام في الخرطوم أغلق بنك الغرب، ويقول الحسين أن حملة الإستهداف على الاساس العنصري شملت حتى الناشطين في مجالات حقوق الإنسان والتجار والطلاب في الجامعات السودانية وحتى داخل الإقليم نفسه.

طرق مختلفة للإبعاد من السوق

والتحولات في سوق ليبيا شملت تحويل أسماء بعض المربعات في السوق إلى جهات بشكل جهوي، هناك كان مكان يعرف بمربع (5) في السوق تحول إلى إسم (أولاد شندي) وكذلك مربع (9) سمي بالأحجار الكريمة ويقصد بها مناطق (حجر العسل وحجر الطير).

الضرائب الباهظة والجمارك في مقابل تسهيلات لآخرين ظلت سياسة مستمرة كواحدة من سياسات الإبعاد، ويقول التاجر آدم اسحق أن هناك تجار من مجموعة سكانية محددة دخلت إلى السوق برؤوس أموال كبيرة جداً ويبدو أن نافذين في النظام يقفون وراءهم، وقد إمتلك هؤلاء أماكن ممتازة في السوق وتخفيضات جمركية. ويضيف اسحق “مثلاً إذا كان جمارك حاوية بشكل رسمي بخمسة مليون يدفع هؤلاء التجار مليوناً واحداً وجميعهم من منطقة واحدة وإثنية معينة“. ويشير إلى أن الضرائب يتم فرضها على التجار من أبناء الغرب إلى جانب الجبايات ورسوم أخرى من المحلية يتم تحصيلها كثيراً بواسطة جهاز الأمن الإقتصادي، ويقول أن الأمن يقسم التجار إلى فئات مختلفة حسب الخلفية الإثنية والجغرافية، وقد دفع ذلك كثيرون لترك السوق وإمتهان مهن أخرى.

ويرى التاجر عمر البلة ان هناك أبعاد سياسية وعرقية وراء إستهداف سوق ليبيا ويقول ل(عاين) انه من منطقة كردفان وليس لديه أي نشاط سياسي ومع ذلك تم إبعاده من السوق، ولكنه يقول أن احد التجار كان جاره في السوق ورغم نجاحه الباهر في العمل التجاري إلا أنه كان يتحدث في السياسة كثيراً. ويضيف البلة “ذات مرة استورد صديقنا التاجر حاوية ملبوسات نسائية وبعد وصول البضاعة إلى المحل حضر رجال الأمن والمباحث وطلبوا تفتيش الحاوية وكانت المفاجأة وجود سلاح“، ويعتقد البلة أن هذه الأسلحة تم وضعها عن قصد لتوريط جاره التاجر وأن وصول عناصر الامن والمباحث تم بتدبير، ويضيف “لذلك هناك كثير من مثل هذه المؤامرات التي حدثت بوضع مخدرات واسلحة يتم وضعها خلال عمليات الجمركة وتقود في النهاية إلى أغلاق المحل وإعتقال أصحابها ولذلك لا نصدق ما تقوم به الاجهزة الامنية لاننا نعرف هؤلاء التجار الضحايا وهم على إستقامة“.