ميناء بورتسودان: الخصخصة تشرد آلاف العاملين وتحذيرات من انفجار الاوضاع
رغم سنوات عمره التي تجاوزت الستين، ما يزال محمد سعيد محمد متمسكا بعمله كحمال (عتالي) في ميناء بورتسودان، معتز بمهنته التي ورثها عن أبيه وظلت المورد الاوحد للدخل الذي تربى عليه هو نفسه كما ربى ابناءه وأسرته من ذات الدخل. ويصف سعيد في لقاء مع (عاين) العمل في الميناء منذ عهد الاستعمار الإنجليزي بأنه عماد الاقتصاد في المدنية ومورد الرزق لآلاف العمال ومئات الأسر.
أما عثمان حسين أدروب العامل بالشحن والتفريغ في الميناء فيروي قصة جمعية الشحن والتفريغ التي تأسست من عرق وكد العمال منذ عشرات السنين وأسست أبراج وفنادق ومصادر دخل متنوعة لدعم العمال محدودي الدخل. ويقول أدروب لـ(عاين) ان كل تلك المؤسسات بنيت من مساهمات واشتراكات عمال الشحن والتفريغ الذين أجمعوا على تمثيل جمعية عمال الشحن والتفريغ لهم كنقابة شرعية منذ عشرات السنين.
أما صالح محمد محمود فيقول ان عملهم يتصف بالموسمية والصعوبات المتعددة إلا أنهم لا يمتلكون مصدرا غيره للرزق كغيرهم من الاف الاسر محدودة الدخل التي يعولها عاملين وحمالين في الميناء.
مشهد عام
يعتبر ميناء بورتسودان الذي تأسس في العام 1909 هو الميناء الرئيسي للسودان حيث تتسع مساحته ليضم “مليون وثلاثمائة ألف حاوية في العام” بما قد يزيد عن تحقيق حوجة البلاد من الاستيراد والتصدير،الامر الذي جعله منفذا بحريا للعديد من دول الجوار.
وتنقسم موانئ بورتسودان الى سبعة موانئ، بحسب الاغراض التي خصصت لها وتضم عدد غفير من العمال والموظفين، حيث يبلغ عدد عمال الشحن والتفريغ “30 ألف” عامل جميعهم عمالة غير ثابتة وغير مضمنة في النظم الإدارية لهيئة الموانئ البحرية، كذلك يضم الميناء أكثر من “7 الف” عامل مسجل وثابت. ويصف العديد من مواطني بورتسودان العمل بالميناء في الحقب الماضية بالازدهار والقدرة على اعالة عشرات الأسر لا سيما وان عدد البواخر التي كانت تقوم بعمليات الاستيراد والتصدير كانت تسير بطريقة منتظمة حاملة معها بشريات استقرار دخل العاملين بالميناء.
خصخصة
منذ مجيء حكومة الإنقاذ للسلطة في العام 1989 ظل العمل بالميناء في تدهور مستمر، كما ازدادت وتيرة السخط بين العاملين في أرصفة الميناء و بواخره نتيجة لعمليات الخصخصة المستمرة وادخال شركات محلية عديدة للقيام بالخدمات في الميناء الذي كان مملوكا بالكامل لهيئة الموانئ البحرية.
ونتيجة لتلك السياسات تم تشريد آلاف الموظفين والعاملين بهيئة الموانئ البحرية وشركة الخطوط البحرية السودانية التي تم بيع اخر سفن أسطولها البحري وتفكيكها بالكامل العام قبل الماضي. رغم ذلك ظلت النقابات الممثلة لموظفي وعمال هيئة الموانئ وفي قلبها جمعية عمال الشحن والتفريغ بالميناء تقاوم تلك السياسات وترفض تشريد العاملين وتقوم بانشطة مقاومة عديدة ومن ضمنها الإضراب والوقفات الاحتجاجية وغيرها.
ارتفعت سمة احتجاج العاملين بالميناء وقلقهم على المستقبل خلال الأعوام السابقة مع توارد الأنباء عن اتجاه حكومي لخصخصة الميناء من خلال طرحه في عطاء عالمي لشركات اجنبية.
ورغم النفي المستمر من قبل وزارتي المالية والنقل لهذه الأنباء لا سيما في ظل الضغط المستمر من نقابات العاملين بالميناء وقوي المعارضة الا ان العام 2018 حمل الكثير من الاخبار السيئة للعاملين وأسرهم والالاف من الذين يعتمدون على الميناء كمصدر رزق أوحد لا غني عنه.
وشرعت وزارة النقل منذ مطلع العام 2018 في طرح الميناء لمزاد عالمي تقدمت فيه عدد من الشركات العالمية لاستلام عمليات تشغيل هيئة الموانئ البحرية. وتقول مصادر بوزارة النقل السودانية أن هيئة موانيء دبي، وهيئة الموانئ السعودية وشركات من الهند والفلبين تقدمت للعطاء، لكن المصادر ترجح أن شركة موانئ دبي هي أكبر هذه الشركات والأقرب إلى الحصول على العطاء.
إرث نقابي وتضحيات
وتملك نقابة وجمعية الشحن والتفريغ بميناء بورتسودان ارثا نقابيا تليدا وتضحيات جسام انشئت بموجبها الجمعية وانتزعت حقها في الوجود والدفاع عن حقوق العاملين. بدأت تضحيات عمال ميناء بورتسودان منذ تلك التي قدمها العاملون خلال الحرب العالمية الثانية واستشهاد عدد من العاملين وهم على ظهر البواخر، إلا أن العاملين لم تكن لهم نقابة تدافع عن حقوقهم في ذلك العهد.
ويروي آدم في لقاء مع (عاين) ان بداية العمل النقابي كانت في اكتوبر بعد اندلاع الثورة وإنهاء الحكم العسكري، والتي سمحت بممارسة العمل الحزبي والنقابي. وفي هذه الفترة منعت كل النقابات والأحزاب من التعامل مع عمال الشحن والتفريغ، وتم رفض قيام نقابة تخص العمال، بالرغم من انها كانت قوى ضاربة، وكانت السيطرة في تلك الفترة لقيادات الأحزاب المتهالكة وفئة المقاولين. ويضيف آدم “عندها قمنا بالدخول في سلسلة من الاحتجاجات والإضرابات، حتى تعرضنا للضرب بالرصاص في 18 مارس 1965م، استشهد منا 5 اشخاص واصيب بجروح 12 آخرون فعلوا كل ذلك لإخماد حركتنا بالقوة، وإتاحة الفرصة للمقاولين، وقد كنا عزل لا نملك شيء“.
وأضاف آدم ان فئة المقاولين كانوا يمولون الاحزاب انذاك حيث كان هناك أربعة احزاب منها “حزب الامة، الوطني الاتحادي الديمقراطي وحزب الشعب الديمقراطي وحزب آخر كان قيد الإنشاء“، جميعهم وقفوا بالمرصاد لمنع قيام نقابة للعاملين بالشحن والتفريغ. وقد كانت هذه الحادثة بمثابة نهاية الفساد والمفسدين، حيث يقول آدم “فبعد ثلاثة أيام جاءنا وزير العمل والاستعلامات وقتها المرحوم سالم محمود اسماعيل ووضع لنا بنود كان أهمها الاعتراف بالعمل النقابي وزيادة الاجور وانهاء خدمات المقاولين وقيام مكتب تخديم خاص بالعمال“.
واضاف ايضا “عندما بدأنا تكوين جمعية عمال الشحن والتفريغ كان ذلك برأس مال قدره 700 جنيه من 700 مساهم، الا أنه وبعد اخذنا تصديق الجمعية، رفضت السلطات تسليمنا العمل، مما دفعنا للقيام بإضراب مرة اخرى بالتوقيت مع انعقاد مؤتمر اللاءات الثلاثة في 20/8/1967م مما ادى الى احراج الدولة والزوار وايقاف البواخر. بعدها اجتمع مجلس الوزراء واصدر قرارا بتسليم العمل لجمعية عمال الشحن والتفريغ بدون منافس، على أن تكون المعاملات بالاتفاقات الجماعية، ثم وضعنا القوانين والصيغ التي تحكم عمل النقابة، والتي يعاد النظر فيها كل سنتين اوثلاثة. واستمر العمل بهذه الطريقة، التي تضمن للعامل البقاء في موضعه باجره الكامل، وهكذا استطعنا خلق الاستقرار والحماية للعامل واستمرينا بهذه الصورة واستمر العمل بموجب هذا القانون، اضافة الى اننا كجمعية نأخذ عمولة من صاحب العمل اضافة الى الاجور، تصرف هذه العمولة على موظفي الجمعية وتسير عمل الجمعية، على أن يعود المتبقي من العمولة للعامل نقدا او بشكل أسهم“.
استثمارات وممتلكات
وكشف رئيس النقابة والجمعية عن استثمارات مملوكة للجمعية، أسست بعد ترشيد الصرف، ابتداء من مقر الجمعية والأرض التي حوله، اضافة الى المستشفى الأول في الولاية، كما كشف عن امتلاك الجمعية لفندق “خمسة نجوم”، واضافة كذلك لتشييد مصنع للزيوت والصابون، واكد على انهم شيدو جميع تلك الإنشاءات من أجل الاستفادة من دخلها في توفير الخدمات للعاملين وأسرهم وتأمين حياة كريمة لهم. ويمي حامد للقول بأن سياسة خصخصة الآليات التي اتبعت في الميناء مثلت خصما علي دخل العاملين البسطاء لأنها تصب في مصلحة أصحاب العمل دون مراعاة لحقوق العاملين، مبينا ان هذه الخصخصة أدت إلى تقليص العمل إلى أقل من 70%.
واتهم آدم الجهات المسؤولة بخداع العمال والجمعية من خلال عقد ورش وسمنارات تخرج بقرارات على شاكلة تشغيل الشباب وتعويض العجزة والمسنين ونقل الناس وإدخالهم في التأمينات الاجتماعية، والكثير من المخرجات التي لاتجد حظها من التنفيذ. وأشار الى ان إفراغ منطقة العمل يأتي في إطار بيعها للخارج كما اتهم والي الولاية بالاعتداء على جمعية الشحن والتفريغ بلا ادنى اسباب، وانه لا يعترف بالقضاء. وأضاف آدم “بالرغم من اننا تقدمنا بطعن للمحكمة الإدارية إلا أن والي الولاية قام بتكوين 4 شركات لنزع العمل من النقابة والجمعية، مما دفع العمال للإضراب لمدة 9 ساعات كاملة تعبيرا عن رفضهم لقرارات الوالي، ولفت انتباه الحكومة المركزية واتضح لهم لاحقا ان المركز يتفق مع والي الولاية في جملة هذه السياسات“.
فساد
ومن جانبه اكد القيادي بحزب مؤتمر البجا والنقابي السابق عبدالله موسى على أن قضايا الخصخصة وتشريد عمال الشحن والتفريغ تمثل واحدة من أوجه الفساد الحكومي في البلاد، والتي بموجبها تم التخلص من كل القطاعات الناجحة وأملاك الدولة السودانية التي ظلت تتراكم منذ عهد الاستعمار التركي.
وأضاف موسى في حديث ل (عاين) “إذا نظرنا عندنا في الشرق نجد ان (سودان لاين) – شركة الخطوط البحرية السودانية، والتي كانت عبارة عن ناقل وطني كبير، فيها عشرات السفن، فقد تمت تصفيتها وبيعها، وايضا على المستوى القومي تم تدمير مشروع الجزيرة والسكة حديد وغيرها من المشاريع الكبيرة التي خرجت عن دائرة الإنتاج“.
وقال موسى إن تأجير المواني لشركات اجنبية نظير مبالغ مالية محددة يأتي في إطار تدمير البنيات الأساسية للدولة السودانية، مشيرا إلى أن موانئ البلاد هي جزء استراتيجي من أمنها واقتصادها ومستقبلها التي تعمل الدول على تطويرها كمرافق وطنية باستخدام الكفاءات المحلية. مبينا أن الاستعانة بالخبرات الأجنبية في هذا الإطار يجب أن يتم وفقا لخطط وضوابط مدروسة تضع في الاعتبار مصالح المواطنين.
ويحذر موسي بان الخطوة الحكومية الحالية ستؤدي إلى تشريد آلاف العمال من عملهم وفقدانهم لمصدر الرزق الوحيد لهم مبينا في حديثه أن الشركات التي تقوم بالخصخصة تشترط استلام هذه الأماكن خالية، حتى تتحكم في تعيين كوادرها وموظفيها، مضيفا ان ذلك قد حدث بالفعل إذ قامت بعض الشركات بتقليص القوي العاملة في في الميناء الجنوبي عند استلامها تشغيل الميناء.
حقوق ومكاسب
وشجب موسى تدخل والي الولاية في شؤون جمعية الشحن والتفريغ، قائلا انها ليست جهة حكومية تتبع لولايته، وشدد على أن الجمعية هي جسم اتحادي لا يمكن لقانون الولاية أن يعطي الحق للوالي في التدخل في شؤونها ولاحتى الدستور يكفل له ذلك.
اقترح النقابي السابق عبدالله موسى حلولا عملية لأزمة عمال الشحن والتفريغ تكمن في احدى طريقتين، الاولى ان تتم اتفاقية جماعية ما بين النقابة العامة والموانئ واتحاد أصحاب العمل، يتم بموجبها تقنين وضع العاملين بالشحن والتفريغ وإدخالهم مظلة التأمين الصحي والخدمات المختلفة التي يتمتع بها العمال، او ان يتم استيعابهم ضمن القوى العمالية داخل الميناء. وحذر موسى من فقدان العاملين للخدمات الصحية والتعليمية وغيرها التي كانت توفرها جمعية عمال الشحن والتفريغ، الأمر الذي سيؤدي لخسائر كبيرة ومصاعب معيشية وأزمات اقتصادية ليس فقط للعاملين وإنما على مستوى ولاية البحر الأحمر.
ويمضي موسي للقول بأنه بحكم الواقع السكاني بالمنطقة فإن غالبية العاملين بالجمعية هم من ابناء البجا الذين يعانون أصلا من التهميش الفقر والبطالة، الأمر الذي سيزيد من تفاقم الازمة ويعطيها أبعادا أكثر تأزما وعمقا في الواقع الاجتماعي والاقتصادي لولاية البحر الأحمر وشرق السودان بأكمله.
وفي ذات السياق حذر تجمع القوى المدنية بولاية البحر الأحمر من انفجار الاوضاع في شرق السودان نتيجة لحالة التشريد الجماعي التي ستطال الاف العاملين واسرهم. قال البيان ان تطورات الاوضاع المرتبطة بقضية العاملين أصبحت تمثل مهددا للنسيج الاجتماعي بشرق السودان، متهمة والي الولاية بتأزيم الأوضاع في الإقليم برمته في ظل الأوضاع الاقتصادية القاسية التي يعيشها آلاف البسطاء في الولاية.
استقطاب اقليمي وافلاس
وتأتي خطوة بيع ميناء بورتسودان في ظل تدهور اقتصادي عام في البلاد وحالة إفلاس تعاني منها الدولة السودانية برمتها بشكل غير مسبوق في تاريخها. كما تتم خطوات بيع الميناء في ظل استقطاب إقليمي أمني واقتصادي حول مياه وسواحل وموانئ البحر الأحمر السودانية، لا سيما في ظل سياسة التلاعب على المحاور الاقليمية التي تمارسها الحكومة السودانية للخروج من الازمة الاقتصادية الراهنة.
ويحذر خبراء من الاطماع الخليجية بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات اللتان تريدان السيطرة على ميناء بورتسودان ومياه السودان الاقليمية الغنية بالنفط والغاز في البحر الاحمر. كما يحذرون من اطماع دول المحور الذي تقوده قطر وتركيا اللتان بدأتا في فرض سيطرتهم على ميناء سواكن بالفعل عقب اتفاقيات وقعتها الحكومة السودانية معهما لاستئجار جزيرة سواكن ل99 عاما لتركيا ومنح تشغيل ميناء قطر لقطر مقابل ما يزيد عن الثلاثة مليار دولار.
ويمضون للقول بأن الأوضاع الجيوسياسية في ولاية البحر الأحمر تواجه مخاطر عدة في ظل الاحتلال المصري لحلايب ومخاطر الغزو الارتري المزعوم من قبل الحكومة بالاضافة لانتشار قوات الدعم السريع في ولايات البحر الاحمر وكسلا. ويختتمون حيثهم بالتحذير من انفلات الاوضاع في شرق السودان بشكل عام ولاية البحر الأحمر بشكل خاص نتاج السياسات الحكومية التي لا تهتم بمصالح مواطني الشرق وسيادة اراضيهم.