مجزرة الصحافة… مصادرة (14) صحيفة يهدد مستقبل المهنة
لم يكن يتوقع اي مراقب سياسي او ناشط حقوقي ان تقوم السلطات الامنية بمصادرة (12) صحيفة يومية سياسية الى جانب صحيفتين اجتماعيتين في يوم واحد مثل ما حدث في يوم الاثنين السادس عشر من فبراير الجاري في حملة غير مسبوقة في تاريخ الصحافة السودانية، وقد وصفه الناشطون في مجال حقوق الانسان بـ (مجزرة الصحافة)، ولكن الحكومة السودانية في ردها لتلك الهجمة الشرسة – بحسب المراقبين – توعدت بمزيد من التضييق في حال لم يلتزم الصحافيون (بالخطوط الحمراء وتهديد الامن القومي للبلاد)، ولعل ما جرى يؤكد ما كانت قد نشرته منظمة مراسلون بلا حدود الدولية المهتمة بحرية الصحافة، حيث ذكرت في تقريرها الصادر في الشهر الحالي ان ” السودان احتل ذيل القائمة في المركز السابع قبل الاخير حيث جاء ترتيب السودان في المركز (172) من بين (180) دولة.
واقع مرير يواجه الصحافة
وكان جهاز الامن في الفترات السابقة يقوم بمصادرة صحيفة او صحيفتين في اليوم، مع استمراره في الرقابة (قبل الطباعة) على الصحف، الى جانب استدعاءاته المتكررة للصحفيين والتحقيق معهم وفتح بلاغات متعددة ضد آخرين، ولكن في يوم الاثنين السادس عشر من فبراير الجاري كانت المفاجأة اكبر بمصادرة صحف (التيار، الانتباهة، اول النهار، السوداني، الوطن، اخر لحظة، الوان المجهر، الصيحة، والصحيفتين الاجتماعيتين الدار، وحكايات)، وتضاربت الانباء حول اسباب المصادرة، حيث رجح البعض بان انتشار خبر اختفاء صحفي بشكل غامض وظهوره في مدينة (عطبرة) وتناولته الصحف باكثر من رواية، فيما ردد آخرون ان السبب كان نشر بعض الصحف اخباراً عن وصول حاويات تحمل مواد (مشعة) الى السودان.
وفي شهر يناير الماضي استدعي مكتب اعلام جهاز الامن في الخرطوم اكثر من 10 صحفيين للتحقيق معهم حول مواد نشرت في الصحف التي يعملون بها، ودون بلاغات ضد رئيسة تحرير صحيفة الميدان ا مديحة عبدالله ومحفوظ بشرى تصل عقوبتها الي الاعدام والسجن المؤبد، واشار صحفيون في شهر يناير الماضي ان مؤشر الحريات الصحفية في بداية 2015 يسير في الاتجاه الاسوأ، وبصيص الحريات الموجود سيدخل في نفق العودة الي المربع الاول في يونيو 1989 وهو العام الذي وصل فيه الاسلاميون الى الحكم عبر انقلاب عسكري بقيادة عمر البشير.
وسجلت منظمة (صحفيون من اجل حقوق الانسان) السودانية التي تعني بمراقبة الانتهاكات التي تقع على حرية الصحافة والصحفيين، عدد من الانتهاكات التي وقعت، آخرها طرد جهاز الامن للصحفيين في صحيفة (الاهرام اليوم) عبد الرؤوف طه وابوبكر مختار من قاعة الزبير محمد صالح للمؤتمرات خلال تغطيتهما لقاءاً للرئيس عمر البشير مع قادة العمل الاعلامي المنتمين للحركة الاسلامية، واصبحت الخطوط الحمراء التي يحددها جهاز الامن للصحف هو وحدها التي يعلم بها، وفي فترات كثيرة تمنع السلطات الامنية الصحف من تناول حتى احاديث البشير التي يتحدث فيها مباشرة للمواطنين، وواحدة منها حديث البشير عن مشروع الجزيرة ووصفه للمزارعين بانهم (تربية شيوعية)، حيث اجرى الضابط المسؤول عن الرقابة الصحفية اتصالاً على رؤساء تحرير الصحف ومنعهم من تناول حديث البشير في صحفهم.
يوم بلا صحافة في الخرطوم
ويشتكي الصحفيون من الرقابة الامنية والتي تعرف (بالرقابة القبلية او الليلة) على صحفهم، حيث يأتي احد افراد جهاز الامن ليلاً ويطلع على مواد الصحيفة من اخبار والاعمدة والتقارير وكتابة الراي ويمنع ما يشاء منها، وفي حالات آخرى يتم ذلك عبر الهاتف او ان يذهب الضابط الى المطبعة ويقوم بمصادرة الصحيفة دون اخطار ادارتها، وقد استمرت هذه الرقابة لسنوات طويلة توقفت لفترة وجيزة خلال الفترة الانتقالية لم تكن فيها رقابة، غير انها عادت في الفترة الانتقالية ايضاً وشارك فيها ضباط جنوبيون قبل انفصال جنوب السودان، ويردد الصحفيون ان الرقابة الامنية على الصحف اثرت على عملية التناول الصحفي للقضايا السياسية والاقتصادية مما انعكس على توزيع الصحف التي وصلت حدوداً ادنى لم يشهدها تاريخ الصحافة من قبل.
وسخر الصحفي عوض صديق من مصادرة جهاز الامن لعدد (14) صحيفة في يوم واحد واطلق عليها “يوم بلا صحافة”، في ذات السياق كتب الصحفي علي الدالي على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي “كسرنا الاقلام وسلمناها الي رئيس المجلس القومي للصحافة والمطبوعات البروفيسور علي شمو بحضور الامين العام العبيد احمد مروح واعضاء هيئة المجلس”، ويضيف ” كتبت على سحابة، فلتسقط الرقابة، فصادروا السماء”.
وطالب الاتحاد العام للصحفيين السودانيين المقرب من الحكومة الالتزام المطلق بالقيم المهنية، وممارسة العمل الصحفي الحر والمسؤول الذي يحفظ للبلاد امنها واستقرارها ويصون وحدتها ونسيجها الاجتماعي في ظل حملات الاستهداف والتربص الذي يواجه السودان في امنه القومي والاجتماعي والاقتصادي، واشار اتحاد الصحفيين ان مصادرة عدد من الصحف تمت بدون اخطار الجهات ذات الصلة بتقويم العمل الصحفي ومراقبة ادائه ممثلة في اتحاد الصحفيين والمجلس القومي للصحافة والمطبوعات، وتأسف لاعمال الاجراءات الاستثنائية في مواجهة الصحف بعيدا عن قانون الصحافة والمطبوعات الحاكم للممارسة الصحفية في البلاد. ودعا الاتحاد العام للصحفيين السودانيين الجهات العدلية والتشريعية، العمل على موائمة القوانين ذات الصلة بالنشر وحرية التعبير، وضرورة الاحتكام للقضاء في التعامل الصحف وقضايا النشر.
مصادرة 14 صحيفة.. الاسباب غير معروفة
تضاربت الاسباب حول مصادرة الصحف يوم الاثنين، هناك من يرجح الى نشر جريمة محاولة ذبح مواطن بالحصاحيصا على طريقة داعش، فيما رجح آخرون ان السبب هو تناول الصحف زيارتي مساعد الرئيس السوداني ابراهيم غندور ووزير خارجيته علي كرتي الى واشنطون الاسبوعين الماضيين ووصفتها بالفاشلة، وهذا ما اثار غضب النظام، واكدت مصادر اخرى ان الخطوة تمهيد لاجراءات اكثر قسوة بينها عودة رجال الامن للرقابة القبلية بالصحف، غير ان هناك شبه اتفاق بين عدد من الصحفيين ان الاجراء الاخير كان بسبب تناول الصحف لقصة اختفاء الصحفي سراج النعيم، والذي يعمل لصحيفة (الدار الاجتماعية) بشكل غامض يوم الجمعة وظهوره يوم الاحد الماضي، والذي قال انه (تاه) ووجد نفسه في مدينة (عطبرة)، وتردد انه تلقى تهديدات من ضابط سابق في الشرطة لانه تناول عنه قضية حساسة، ورغم ذلك هناك ما يثير الغموض في قضيته.
تكريس سلطات الامن للقضاء على هامش الحريات
غير ان عضو شبكة الصحفيين السودانيين علاء الدين محمود يرى ان هناك هجمة منظمة يقودها جهاز الامن والمخابرات الوطني على الصحافة والصحفيين في البلاد، ويقول لـ (عاين) ان التعديلات الدستورية الاخيرة زادت من وتيرة المصادرات الصحفية، وقضت على هامش الحريات الذي كان موجودا، واصبحت هناك مواجهة صريحة ومعلنة مع الحريات الصحفية، ويضيف ان المعركة القادمة التي يشنها جهاز الامن ستكون مع الصحافة، وهذه التعديلات الدستورية الاخيرة مكرسة من مؤسسة الرئاسة، واطلقت يد جهاز الامن، مطالباً وزير الاعلام بالاستقالة لانه فشل ان يقوم باي دور له في وزارته – على حد قوله، ويتابع (لا مستقبل للحريات الصحفية في السودان).
ويعتقد الصحفي مصطفي ابراهيم ان الهجمة الامنية على الصحف السودانية هي عمل ممنهج يقوم به حزب المؤتمر الوطني الحاكم ويهدف الي كسر ارادة الصحفيين السودانيين وتطويع الصحف من اجل التعتيم على الفساد والقضايا التي تهم الرأي العام، ويقول لـ(عاين) ان عملية المصادرة اصبحت عادية خلال السنوات القليلة الماضية، ويضيف (لكن مصادرة 14 صحيفة في يوم واحد دليل على عدم ايمان نظام المؤتمر الوطني بحرية الصحافة، وتسخير الاجهزة الامنية للتستر على جرائمه والفساد الذي يرتكبه منسوبيه)، ويقول (اما بخصوص اسباب المصادرة لم توضح حتي الان، لانه كما درج جهاز الامن الا يوضح اسباب مصادرة الصحف بعد الطبع)، ويشير الى ان مثل هذا الامر يحتاج الي مقاومة من كل الصحفيين السودانيين، مطالباً مجلس الصحافة والمطبوعات واتحاد الصحفيين بالاستقالة، ويقول صحفي آخر لـ (عاين) ان اماكن بيع الصحف و (السريحة) الذي يبيعون الصحف في الشوار خلت من الصحف بعد مصادرة (14) صحيفة يوم الاثنين، ويضيف (هو يوم الاثنين الاسود للصحافة السودانية حقيقة).
قصة اختفاء غامضة للصحفي سراج
وتقول احدى الصحفيات من صحيفة (الجريدة) اليومية طلبت عدم ذكر اسمها لـ(عاين) ان مصادرة بعض صحف يوم الاثنين كان متعلقا باحتفاء الصحفي سراج النعيم الذي يعمل في صحيفة الدار اليومية الاجتماعية، وتضيف ان العديد من الصحف وضعت موضوع اختفاء الصحفي بالدار في (المانشيت العريض)، وتقول لـ(عاين) ان خبر اختفاء الصحفي سراج النعيم كان (مفبركا)، وانه كان موجودا مع احد اقاربه فقط، غير ان الصحفيين يعتقدون ان تناول قضية الصحفي المختفي لم تكن هي القضية التي تجعل جهاز الامن ان يقوم بتلك (المجزرة) لان عملية مصادرة الصحف قبل هذه الحادثة كان مستمراً لعدد من الصحف منها (الميدان) التابعة للحزب الشيوعي السوداني، وتوقع الكثيرون ان تتواصل الهجمة على الصحف والصحفيين بعد التعديلات الدستورية الاخيرة التي جعل لجهاز الامن سلطة فوق القانون.
ويقول الناشط معاذ حامد لـ (عاين) ان خبر اختفاء الصحفي تم تسريبه من قبل الحكومة نفسها خاصة ان النشر تم في صحف غالبيتها تتبع للحزب الحاكم، وينفي معاذ ان تكون للمصادرة علاقة بالانتخابات، بقدر ما لها ارتباط وثيق بملفات الفساد، وشحنات وحاويات المخدرات، والمؤتمر الوطني اكثر حرصا على قيام الانتخابات، ويقول ان النظام الحاكم لديه العديد من التجارب في ادارة الرأي العام بشكل كبير والمؤتمر الوطني يريد ان يخفي صراعاته الداخلية الموجودة، والمصالح متضاربة بين عناصره التي باتت واضحة ومسموعة، وليست مخفية كما يريد النظام ان يتجاهلها، لابقاء الصفقات والشليات بين عناصر النظام.
ملفات الفساد الحكومية وراء حملة جهاز الامن
ويرى المحلل السياسي محمد ادم احمد ان قضايا الفساد التي فاحت روائحها في السنوات الاخيرة، وكشف ملفات الفساد مربوطة بعناصر لها ظهر يحميها في الحكومة، وملفات اخري متعلقة بالاراضي، ويقول (قبل فترة اغلقت صحيفة التيار بعد كشفها فساد شركة الاقطان، ولحقت بها صحيفة الصيحة التي كشفت عن فساد في وزارة العدل وتورط مسؤولين كبار، مما ادى الى اغلاقها الي اجل غير مسمى)، ويقو لـ(عاين) ان افق الحريات الصحافية لا يسير في اتجاهه الصحيح، وحدث المصادرة الجماعية بعد الطبع ليس شئ غريبا في مصادرة الامن المتكررة، ويضيف (ان هذه المصادرة اربكت الجميع، ولم يكن يتصورها احد ان يتم حظر 14 صحيفة من البيع في الاسواق في يوم واحد)، ويعتقد ان العمل الصحفي في الفترة القادمة سيمر بمرحلة عصية جدا، ويشير الى ان جهاز الامن صادر صحيفة (التيار) ليوم الثلاثاء 17/فبراير بعد الطبع، بعد يوم واحد من مذبحة الاثنين، هي مؤشرات حقيقية للنفق الذي دخلت فيه الصحافة السودانية في هذه المرحلة والمرحلة التي تعقبها بعد الانتخابات.
وفي اول رد رسمي من الحكومة السودانية اعتبر وزير اعلامها والمتحدث باسمها الدكتور احمد بلال عثمان ان مصادرة جهاز الامن ل14 صحيفة يوم الاثنين من دون اسباب، هي مبررة بالقانون وهدد بحسم اي محاولة لبث الفتنة وتهديد الامن القومي، واضاف اي محاولة لبث الفتنة، وتهديد الامن القومي سيتم حسمها عن طريق القانون، وبرر وزير الاعلام ان جهاز الامن يقوم بدوره، اذا نقلت الصحف اي خبر يهدد الاقتصاد القومي او الاجتماعي، او كان الخبر يثير فتنة وبلبلة.