الصحافة السودانية … مأساة الواقع وضبابية الغد

شبكة عاين – ٣٠ مايو  ٢٠١٧

تمر الصحافة السودانية حالياً بأضعف مراحلها منذ نشأتها في العام ١٩٠٣، وهي التي ظلت تساهم بشكل كبير في دروب التنوير والمعرفة، ولعبت  أدواراً بارزة في تشكيل وعي الجماهير إبان الحقب التاريخية الماضية، ولكن أصابها الإضمحلال رويداً رويداً إلى أن تبوأت  تصنيف  الأسوأ ترتيباً بين دول العالم في حرية التعبير في العشرة أعوام الأخيرة.

بفعل القبضة الأمنية التي ظلت تتمثل في الرقابة القبلية، الإعتقال التعسفي، التعذيب، التشريد، توزيع الاعلان بمعايير تتحكم فيها الأجهزة الأمنية وضعف مدخلات الصحافة مقارنة ببنود صرفها وغلاء طباعتها مع ضعف أجور الصحافيين، فضلاً عن غياب المؤسسات المستقلة مثل إتحاد الصحفيين، والمجلس القومي للصحافة والمطبوعات، الذان تتحكم فيهما السلطات الحكومية بشكل مباشر. فبالرغم عن كل تلك التحديات، مازالت الصحافة السودانية تقاوم لتخرج للناس بمادة يجدون فيها قليلمن التنوير، في الوقت الذي لم يسلم فيه الصحفيون المستقلون من المناوشات الأمنية مثل الاستدعاء، التهديد وغيرها من أصناف وعيد الاجهزة الامنية بالسودان، إلا أنهم يجاهدون من أجل إنتاج صحافة حقيقية للناس.

مستقبل باهت

شهد العام المنصرم (٢٠١٧) إزدياد في كبت الحريات، الاعتقالات ، التحقيقات، ومصادرة الصحف بعد الطباعة، مما أدى إلى هجرة  الكادر الصحفي النابه. وبروز  إتجاهات الصحافة الجديدة  (الإلكترونية ). ويقرأ رائد الصحافة السودانية محجوب محمد صالح  تراجع الصحافة الورقية على مستوى العالم من مدخل إزدياد وسائط التكنولوجيا المتطورة وظهور الصحافة الالكترونية، موضحاً إن هذا التغيير إدى إلى خروج صحف كبيرة من المنافسة وإضطرها لإغلاق أبوابها بسبب إنخفاض المبيعات، وإستطرد قائلاً: (في السودان فإن الأمر به ظرف داخلي، يتمثل  في ضعف مدخلات الصحافة، للأسباب الاقتصادية المحيطة بالبلد ككل، لذلك من الطبيعي أن ينعكس ذلك  على الصحافة السودانية،  ويظهر التردي الذي ضربها من العمق).

وأضاف صالح لـ(عاين):(تعاني الصحافة السودانية من أشكال متعددة من أنواع الحصار، كانت تُعرف بادئ الأمر  بالرقابة القبلية، وهي مصادرة المادة المعنية قبل النشر،   تطورت إلى الرقابة البعدية، وهي مصادرة الصحيفة بشكل كامل  بعد الطباعة،  وهذا أسوأ من الرقابة القبلية، إذا ما  تمت المقارنة، ففي الثانية يَلحق الضرر الإقتصادي بدفع كافة التكاليف، الأمر الذي أدى  لخروج المستثمر من سوق صناعة الصحافة). كاشفاً  أن هجرة الأكفاء من الصحفيين للمهنة يعود  لضعف الأجور،  والملاحقات  التي تتم في ظل غياب الحريات.  وهو ما إنعكس بشكل واضح على أداء المؤسسات  و أدى إلى ضعف الكادر الصحفي، معلقاً على ذلك بالقول:(في ظل  تدهور التدريب ،سينتج جيل  ضعيف القدرات، غير قادر على مواكبة التطور؛ لأنه يفتقر للأساسيات، وهو ما سيشكل مستقبلاً باهتاً  للصحافة على مستوى السودان).  موضجاً إن المعالجة تكمن  في عملية تطوير الصحفيين، وإعلامهم  بالمستحدث في فن الصحافة.


شمولية التدهور

ظلت الصحافة السودانية،  تتذيل  ترتيب العديد من المناسبات العالمية؛ مثل تقرير مؤسسة مراسلون بلاحدود، الذي يصدر في الثالث من مايو كل عام. حيث بات  ترتيب السودانية في العشرة الأواخر من حيث  حرية التعبير. ويؤكد التقرير السنوي لمنظمة صحفيون من أجل حقوق الإنسان (جهر) ، يؤكد التدهور المُذري الذي إعترى جوانب الصحافة السودانية، بفعل القبضة الأمنية، والعمل على صناعة صحافة موجهة من قبل الحكومة السودانية.

ويرجّع  الصحفي فيصل محمد صالح  تدهور الصحافة إلى  مستوى التدهور في كل جوانب الحياة السودانية، والتي أضحت في تدهور مريع على المستوى المهني الخدمي  المؤسسي، ويضيف فيصل قائلاً: (الصحافة تشبه بلدها في المستويات الخدمية، وهي  إبنة شرعية للبيئة الخدمية القائمة في كل دولة) وأردف قائلاً لـ(عاين):(نحن متخلفين ومتأخرين، إذا ما قُورن الأمر بالصحافة العالمية،ولكن رغم ذلك تؤدي الصحافة السودانية دور إيجابي)، مؤكداً  تقدم الدور الريادي للصحافة  على الحركة السياسية، رغم الإنتهاكات والعنف الممنهج  المتمثل في الإحتجار، الحرمان من المعلومات، خاصة وأن القانون لا يحمي الصحفي الذي قد يتعرض لأي نوع من أنواع الإنتهاكات أثناء تغطيته الصحفية) وتقوم الصحافة بهذا الدور رغم الإشكاليات الاقتصادية، التي إنعكست بشكل مؤثر على العمل، تتمثل هذه الإشكاليات في التكلفة العالية لصناعة الصحيفة وغلاء مدخلات الطباعة. أضف الى ذلك القيود المجتمعية التي تتلاقى مع القيود السياسية، فتشكل معوقات العمل الصحفي بشكل عام.

وإستطرد  فيصل قائلاً :(هناك جانب الإعلان، الذي  يُحاط  بقيود كثيرة، أولها التمييز بين الصحف حسب الموقف السياسي، رأي الكتاب وطبيعة الأخبار المنشورة، اضافة الى الضرائب، ففي كل إعلان هنالك نسبة ٢٧%  تدفع كضريبة، والمتبقي لن يغطي بحسابات الربح والخسارة، ورغم ذلك يتم تصنيف الصحف، فهناك بعض الصحف  تجد بعض إعلانات القطاع الخاص، وأخرى تحظى باعلانات الدولة، والغالبية  محرومة من الإعلان تماماً، حسب تقييم الموقف السياسي لهذه الصحيفة). وناشد فيصل كافة القطاعات بالتضامن  مع الصحافة والصحفيين قائلاً :(الصحافة في حاجة لكل أشكال التضامن، و بشكل أكبر لتوسيع دائرة الضغط على أساس  مهني . وليس على أساس  الموقف السياسي. فعلى الصحفيين بالخارج والداخل رفع أصواتهم، لشرح  ما تتعرض له الصحافة السودانية من إنتهاكات إقعدتها في مرتبة متاخرة.


مأسوية الواقع

وذهب في ذات الإتجاه  عضو شبكة الصحفيين السودانيين حسن بركية، مؤكداً على ضعف دور الأجسام الرسمية، مثل إتحاد الصحفيين، المجلس القومي للصحافة والمطبوعات،  لجنة الاعلام بالبرلمان  ووزارة الإعلام،  فهي مؤسسات  دورها تحسين البيئة للإعلاميين وحماية الصحفيين، لكن أصبحت   تلعب دور مغاير تماماً، إذ باتت تشرف على سن القوانين المقيدة  بل وتنفيذها. وعرج بركية الى الأجور الصحفية التي وصفها بغير المُجزية، وأضاف: (بسبب مل تلك الإشكالات قامت شبكة الصحفيين السودانيين، التي تعمل على مناهضة القوانين ورفض الإجراءات التعسفية للصحف بالوقفات الإحتجاجية أمام المؤسسات المناط بها الأمر في كل حدث)، مؤكداً إن  ازدياد القبضة الأمنية، وإنعدام الحريات، وغياب التأهيل الكافي  يبشر بمستقبل مظلم، وهو الأمر الذي عجل بهجرة العديد من الصحفيين.  

من جهته وصف الصحفي حسين سعد  واقع الصحافة السودانية بـ(المأساوي) خاصة وإن القصور المادي أصبح معطل أساسي  لكثير من الصحف التي طوت صفحاتها بسبب  شح المال  الكافي لتغطية تكاليف إنتاجها، وأشار سعد إلى أن توسعة النزاعات المسلحة أدى إلى زيادة  القبضة الأمنية، التي أصبحت  تتحكم في النشر كيفما تشاء،  مشيراً إلى أن المفهوم السائد في أذهان الناس أيضاً جعل من الصحافة مادة تسلية أكثر من مادة لها فاعلية المجتمع، إذ رسخت في أذهان الناس مقولة “كلام جرايد”.

وأجمع متحدثي (عاين) الذين يمثلون أجيال مختلفة في الوسط الصحفي السوداني على أشياء تتبلور  فيها مستقبل الصحافة السودانية، وهي القبضة الأمنية، غياب الحريات، إرتفاع تكاليف صناعة الصحافة، وغياب التأهيل الكافي للأجيال الجديدة التي إختارت مهنة الصحافة، متفقين على إن مستقبل الصحافة السودانية لا يبشر بالخير بل هو مستقبل مظلم.