سياسات التمويل الأصغر تقذف بعشرات النساء خلف القضبان

تحكي قصة حياة عوضية كوكو، عن مدرسة في العمل الاجتماعي الشاق والدؤوب من أجل رفع الفقر عن ملايين النساء المهمشات والنازحات بسبب الحرب في مناطقهن الأصلية إلى أطراف المدن السودانية التي تقطنها الأسر المنسية بلا خدمات أو رعاية.

ورغم دخولها السجن عدة مرات بسبب قصر نظر مؤسسات التمويل الأصغر في السودان من بنوك ومؤسسات تمويل وبحثها عن الربح بدلا عن دعم الفقراء، الا ان عوضية التي تبلغ 55 عاما، لم تيأس أو تتراجع عن عملها من أجل النساء، وما تزال حتى اليوم تجترح الحلول لتحسين مستوى معيشة النساء .

لم تعمل الرائدة النسائية عوضية كوكو على تحسين أوضاعها المالية الشخصية رغم حاجتها الماسة لتغطية نفقات أسرتها الصغيرة المكونة من أربعة أطفال ، بل عملت بكل تجرد من أجل الحصول على قروض من البنوك لدعم الالاف من النساء السودانيات الفقيرات اللائي يعملن في صناعة الأطعمة وبيع الشاي وجعلت هدفها صون حياة كريمة للنساء الفقيرات وأسرهن رسالة لها في الحياة دفعت لأجلها سنوات من عمرها خلف القضبان .

سنوات المعاناة والنزوح الى الخرطوم من مسقط رأسها في جبال النوبة بجنوب كردفان، لم تفلح في تثبيط همة عوضية كوكو بل دفعت بداخلها طاقة ايجابية الي تبني تجربة العمل الجماعي التعاوني بين النساء الفقيرات رغم الصعوبات العديدة والشروط التي تضعها مؤسسات التمويل في البلاد.

وكشفت معلومات ومقابلات تحصلت عليها (عاين) مع عدد من ضحايا التمويل الأصغر في السودان عن قيام فلسفة التمويل الأصغر في البلاد على أسس استثمارية وربوية بعيدة عن الأغراض الخدمية والتخفيف من حدة الفقر وشعارات الصيغ الاسلامية للتمويل. كما كشفت عدد من الضحايا ومعظمهم من النساء عن وجود عمليات احتيال من بعض البنوك ومؤسسات التمويل صاحبت عمليات السداد علاوة على شروط التمويل المجحفة. بينما يطالب خبراء برفع يد الدولة والبنك المركزي عن التمويل الأصغر، مشيرين إلى وجود بنوك ومؤسسات وسيطة تربح من خلال التمويل وتزيد من تكاليفه على المستفيدين.

أربعة سنوات خلف القضبان

سياسات التمويل الأصغر تقذف بعشرات النساء خلف القضبان
لا تلقي عوضية كوكو اللوم على النساء اللائي تخلفن عن سداد قروضهن واضطروها الى الذهاب إلى السجن، مشيرة إلى أن البنوك تمنح التمويل بشروط صعبة، حيث يُطلب شيك ضمان، ويُفرض السداد من أول شهر دون مراعاة لظروف وتقلبات السوق الغير مستقرة، ويلزم المقترض بسداد مبلغ شهري كبير، إضافة إلى دفع هامش ربح يصل إلى أكثر من (18%) من نسبة التمويل”.

بعد يوم طويل وشاق من العمل في الخرطوم في أغسطس من العام 2006، وجدت عوضية كوكو نفسها محاطة من قبل ضباط الشرطة في الطريق واعتقلت كمجرم للمرة الثانية لتقضي أربعة سنوات في السجن بسبب ضمانتها – كرئيسة لجمعية بائعات الأطعمةو الشاي و الذي يضم في عضويته آلاف النساء – لعدد من النساء حصلن على قرض “التمويل الأصغر” من أحد البنوك، إلا إنهن عجزن عن السداد في الموعد المحدد. وتقول عوضية انه تم اعتقالها بطريقة وصفتها بالمهينة بناء على بلاغ من بنك الأسرة بعدم السداد للقروض من قبل بعض عضوات الاتحاد بسبب ظروف قاهرة.

اضطرت عوضية لتقديم ضمانات شخصية من أجل الحصول على القرض البنكي في إطار مشروع التمويل الأصفر للأسر الفقيرة الذي طرحته الحكومة السودانية للتخفيف من حدة الفقر وآثاره المدمرة على الأسر محدودة الدخل من النازحين والمهمشين في أطراف المدن و أرياف البلاد الواسعة.

وتعتبر فكرة جمعية بائعات الأطعمة والشاي فكرة رائدة جمعت الآلاف من النساء اللائي يعملن في بيع الاطعمة والشاي في مقاهي مؤقتة عبر شوارع الخرطوم. وتقول احصائيات غير رسمية ان ولاية الخرطوم وحدها بها أكثر من 20 ألف بائعة شاي معظمهم ينحدرن من مناطق النزاعات في ولايات دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. وتشكو بائعات الشاي من وصمة العار الاجتماعية التي تغذيها حملات النظام العام التي دائما ما تتهمهن بممارسة الدعارة وما يعرف بالأفعال الفاضحة وبيع الخمور البلدية والمخدرات أحيانا.

وتلقت عدد من النساء، مثل عوضية قروضا مماثلة للتمويل الأصغر من البنوك في السودان لكنهم عجزو عن الدفع في الوقت المحدد الأمر الذي قاد كثيرات إلى السجون، في ظل تشديد بنك السودان المركزي على تبني سياسة العقوبات القاسية ، لتسديد القروض فيما يعرف بمشروع التمويل الأصغر، علماً بأن الحد الأدنى القروض الصغيرة تصل إلى 10.000 جنية (210 دولار) وفقا لسياسة بنك السودان المركزي.

سياسات التمويل الأصغر تقذف بعشرات النساء خلف القضبان
أطلق الاستاذ محمد يونس أستاذ الاقتصاد البيئي بنك جرامين الذي يقدم قروضا صغيرة بقيمة 100 دولار الى 200 دولار بدون فوائد للفقراء.، وخاصة النساء اللائي يفتقدن إلى ضمانات السداد. يقدم البنك الذي يترجم اسمه إلى ” بنك القرية ” خدماته لأكثر من مليوني شخص في بنغلاديش.

فكرة التمويل الأصغر

تم تطوير مفهوم التمويل الأصغر من أجل دعم الأسر ذات الدخل المنخفض للحصول على الخدمات المالية لبدء المشاريع المدرة للدخل في بنغلاديش التي تمثل رائدة في التمويل الأصغر ، حيث أطلق الاستاذ محمد يونس أستاذ الاقتصاد البيئي بنك جرامين الذي يقدم قروضا صغيرة بقيمة 100 دولار الى 200 دولار بدون فوائد للفقراء.، وخاصة النساء اللائي يفتقدن إلى ضمانات السداد. يقدم البنك الذي يترجم اسمه إلى ” بنك القرية ” خدماته لأكثر من مليوني شخص في بنغلاديش.

ويهدف المشروع بشكل أساسي الى انتشال المقترض والأسر الفقيرة من براثن الفقر بحيث تدعم القروض المشاريع الصغيرة في مجال الزراعة ، الصناعة اليدوية ، التصنيع والتجارة. بعد نجاح التجربة في بنغلاديش ، تم تطوير برامج القروض الصغيرة في 22 دولة أخرى. وفي العام 1997 قام بنك جرامين بتشكيل شبكة عالمية تضم حوالي 52 شريكًا لمساعدة الفقراء عبر أربع قارات.

وفي السودان طرح برنامج التمويل الأصغر لأول مرة منذ العام 2007 للمساعدة في التخفيف من حدة الفقر، حيث يقوم بنك السودان المركزي تحت الادارة العليا للبنك بتقديم قروض مالية صغيرة من أجل دعم المشروعات الصغيرة.

وبتشجيع من بنك السودان المركزي تم تأسيس أكثر من 30 مؤسسة تمويل أصغر في جميع أنحاء البلاد، كما أصدر البنك المركزي وثيقة التأمين الشامل كضمان للحصول على قرض للمشروعات صغيرة من البنوك التجارية فضلاً عن (15) نوعاً من الضمان، سُميت باقة الضمانات مثل (العمد والشيوخ، المرتب، المنقولات، الحلي الذهبية وغيرها)، كما أعطت الوثيقة للمصارف حق طلب أي ضمانات اضافية حسب ما تراه مناسباً.

ويعتبر بنك الأسرة في السودان الذي أسس عام 2008 هو رائد برنامج التمويل الأصغر، ولديه حاليا أكثر من 37 فرعا في 13 ولاية ونحو 50,000 عميل نشط في جميع أنحاء السودان .

ويلي بنك الأسرة ، كمؤسسة للتمويل الأصغر في البلاد، بنك الإبداع للتمويل الأصغر ، الذي تأسس في عام 2013 وله ستة فروع وأكثر من 6000 عميل نشط ، 92٪ منهم من النساء . لكن كوكو ونساء أخريات من الأسر ذات الدخل المنخفض يقولون إنهم وجدوا أن ان نظام القروض لم يضعهم على طريق الازدهار ،بل وضعهم فى السجن.

ورغم ان ما يقارب نصف سكان السودان البالغ عددهم 35 مليون نسمة ,46% يعيشون تحت خط الفقر حسب مسح أجرته وزارة الرعاية الاجتماعية عام 2017 ، إلا أن المخاوف من دخول السجون بسبب العجز عن السداد علاوة على الصعوبات التي وضعها البنك المركزي أدت إلى عزوف الآف الفقراء المستحقين للتمويل الأصغر عن التقديم للحصول على قروض تمويلية صغيرة من البنوك، الشئ الذي فتح الأبواب لغير المستحقين، والقادرين على توفير ضمانات البنوك القاسية، للحصول على القروض من أجل الربح.

سياسات التمويل الأصغر تقذف بعشرات النساء خلف القضبان

الطريق إلى السجن

لم تكن تجربة الأربعة سنوات هي المرة الأولى التي دخلت فيها عوضية كوكو التي امتهنت بيع الشاي منذ قدومها إلى الخرطوم عقب اندلاع الحرب الأولي في منطقة جبال النوبة (1983)، اذ ولجت أبواب السجون عدة مرات بسبب إصرارها على إنجاح فكرتها في خلق جمعيات تعاونية للنساء ذوي الدخل المحدود. وبدأت كوكو في تأسيس أول جمعية تعاونية لبائعات الأطعمة والشاي في العام 1989.

ومنذ ذلك الحين شاركت في تعزيز الفرص الاقتصادية للنساء العاملات في المهن محدودة الدخل مثل بيع الأطعمة والشاي وغيرها، وكان ذلك بداية تاريخ السيدة عوضية كوكو مع المعاناة والسجون.

وكان العام 1995 بمثابة أول موعد لعوضية مع السجون إذ مكثت أسبوعين في السجن بعد فشل إحدى عضوات مجموعتها في سداد قرض ثلاجة بسبب المرض. وتوضح كوكو إن “أول تجربة لي في الحصول على قرض تمويل أصغر، كانت في منتصف التسعينات من القرن الماضي، حيث حصلت على تمويل من المؤسسة التعاونية للعاملين بولاية الخرطوم للنساء العاملات في مهنة بيع الشاي و الأطعمة، من أجل شراء أدوات منزلية كهربائية”.

وتضيف “أن العديد من النساء نجحن في سداد ما عليهن من ديون خلال عام، ما عدا واحدة كانت قد تعثرت في السداد بسبب ظروف الولادة و المرض، وبعد إنتهاء فترة السماح قامت المؤسسة بتحرير بلاغ ” شيك بدون رصيد” فألقت الشرطة القبض على بوصفي رئيسة للجمعية و ضامنه للنساء الممولات، ومكثت في السجن لمدة أسبوعين، قبل أن يطلق سراحي بعد سداد المبلغ.

ولكن كوكو التي لا يهدأ لها بال في مساعدة الفقراء، استمرت في عملها واستطاعت في العام 2006 بالحصول على قروض مالية صغيرة من الاتحاد التعاوني لتمليك عربات صغيرة (تكتك وركشات) للنساء بضمانة شخصية منها كرئيسة لجمعية بائعات الأطعمة والشاي لكن تعثر عدد من العضوات في السداد الأمر الذي قاد عوضية إلى السجن مرة أخري لمدة أربعة سنوات.

“بدأت التجربة في العام (2006)، حيث مُنحت العشرات من النساء قروض لشراء (التكتك)، بضمان من رئيسة الجمعية، وبعد عام فشلت عدد من النساء في السداد حسب الزمن المحدد، لظروف مختلفة، فأُلقى القبض علي مرة أخرى من مكان عملي، حيث مكثت في السجن لفترة خمسة أشهر قبل أن يتم تقديمي للمحكمة التي حكمت علي بالسجن لمدة أربع سنوات”. وتمضي “كوكو”قائلة بحسرة:”خرجت من السجن بعد أن تم بيع منزل أسرتي لسداد المبلغ، وكانت فترة السجن صعبة للغاية”، وأردفت قائلة:”ابني دخل الجامعة وتخرج وأنا في السجن و ابنتي تزوجت ووضعت مولودها الأول وأنا خلف القضبان”، وتابعت “ست وثلاثون شهراً قضيتها في سجن النساء بأمدرمان كانت دماراً لأُسرتي و أولادي”.

تكريم

عقب خروجها من السجن في العام 2012 انتخبت “عوضية كوكو” كرئيسة لجمعية بائعات الأطعمة بولاية الخرطوم”، التي تضم أكثر من ثمانية آلاف عضوة. هذا المنصب وضع “كوكو” من جديد أمام تحدى مساعدة النساء اقتصادياً، حيث قامت في العام 2013 بالدخول في تجربة تمويل مع بنك الأسرة لتوفير الأدوات الكهربية المنزلية لعضوات الجمعية، بمنحهن قروضا صغيرة، حيث حصلت أكثر من (100) إمرأة على قروض لمساعدتهن على شراء مبردات مياه، و أدوات كهربائية منزلية، إلا أن بعض النساء تعثرن مجددا في السداد، فقامت ادارة البنك بإلقاء القبض عليها مجدداً، ووُضعت في السجن.

ووصفت عوضية في مقابلة مع (عاين) عملية القبض عليها بالمهينة وقالت” قاموا بالقاء القبض علي بطريقة “مهينة” حيث نصبوا لي كمين في الطريق أثناءالعودة إلى منزلي وكأنني مجرم أو تاجر مخدرات” ومكثت عوضية نحو أسبوعين في السجن، قبل أن يتم الإفراج عنها بعد أن دفعت منظمة طوعية نسوية المبلغ المطلوب.

ولم تجد كوكو حتى اليوم تكريما داخل السودان نسبة لأدوارها العظيمة في مساعدة النساء الفقيرات، لكنها سعيدة بتقدير واحترام معظم النساء لها. لكن العام 2016 حمل أخبارا سارة لعوضية كوكو التي امتلأت حياتها بالماسي إذ منحتها وزارة الخارجية الأمريكية جائزة النساء الشجاعات بين 14 امرأة دولية أخرى بسبب مبادراتها الاقتصادية المتعددة.

شروط قاسية وإهانة

ولا تلقي عوضية كوكو اللوم على النساء اللائي تخلفن عن سداد قروضهن واضطروها الى الذهاب إلى السجن، مشيرة إلى أن البنوك تمنح التمويل بشروط صعبة، حيث يُطلب شيك ضمان، ويُفرض السداد من أول شهر دون مراعاة لظروف وتقلبات السوق الغير مستقرة، ويلزم المقترض بسداد مبلغ شهري كبير، إضافة إلى دفع هامش ربح يصل إلى أكثر من (18%) من نسبة التمويل”. وتضيف متسائلة “هل بعد كل هذه الأجراءات يريد بنك السودان أن يساعد النساء للخروج من الفقر”؟. وتابعت:”النساء اللائي يأخذنا التمويل يعملن عمل يومي هامشي، و يواجهن عدة صعوبات، على رأسها حملات “الكشات” اليومية المهينة، من قبل السلطات المحلية، والتى تقوم بحملة مداهمة للنساء كما تقوم بحجز كافة أدوات عملهن، و يُطلب من كل واحدة دفع مبلغ (250) جنيه لاسترداد أدوات عملها، وفي الشهر الواحد تنفذ المحلية حوالي أربعة حملات مداهمة، وتدفع النساء العاملات مبلغ (1000) جنيه في الشهر، نظير استئناف العمل مجدداً، وتساءلت مرة أخرى:”كيف يستطعن توفير مال السداد للبنك و قضاء مستلزمات أسرهن؟.

وتقول كوكو لـ(عاين) ”إذا استمر تمويل النساء بهذه الطريقة ، سيختفي الأطفال من الشوارع ، لأنهم سيكونون مع أمهاتهم في السجن. وكانت رئيس نقابة البائعين قضت اسبوعين اخرين في مركز شرطة بالعاصمة الخرطوم كضمان العشرات من النساء اللواتي لم يستطعن دفع قروض التمويل الصغيرة التي يمنحها بنك الأسرة”

سياسات التمويل الأصغر تقذف بعشرات النساء خلف القضبان

الإفلاس وفقدان المأوى

لم تكن تجربة السيدة فايزة عبد الله عمر ذات الخمسين عاما وأم لستة أطفال من منطقة جبال أولياء بالخرطوم جنوب، ورئيسة جمعية النساء العاملات في الأطعمة و المشروبات بالمنطقة أفضل من تجربة رفيقتها عوضية كوكو. ودخلت فايزة السجن لمدة شهر أيضاً بسبب ضمانها نساء حصلن على تمويل من بنك الأسرة. وقالت فايزة “قدمنا لمؤسسة التنمية الإجتماعية للحصول على قروض صغير للنساء الفقيرات في منطقة جبل أولياء”، حصلن على تمويل بمبلغ ثلاثة آلاف جنيه لشراء ثلاجات وأدوات كهربائية”، ومضت في حديثها ل (عاين) “نجحنا في تمويل أكثر من (120) إمراة، عبر عشر مجموعات، حصلت كل واحدة منهن على مبلغ ثلاثة آلاف جنيه بمعدل سداد شهري يبلغ (310) جنيه، وهامش ربح بنسبة (24%)، لكن بعد عام تعثرت العديد من النساء في السداد، فقام البنك بتحرير محضر، وتم وضعي في السجن، ولم أخرج إلا بعد أن كتبت شيكات ضمان بالمبلغ، على أن أبحث مع النساء المتعثرات طريقة السداد”. وزادت “بعد انقضاء الشهر طلب مني البنك التوقيع على التنازل من المنزل الذي أسكن فيه لبيعه و تسديد المبلغ، فرفضت ذلك الطلب، وأضافت متسائلة: “اين اذهب اذا غادرت منزلي؟ أنا مستعدة للعودة للسجن بدلاً من أن أفقد منزلي وأسرتي”.

أما اخلاص موسى، بائعة أطعمة فقد فقدت منزل أسرتها عقب احتجازها في السجن بسبب عدم السداد. وأوضحت “إخلاص ل (عاين) ” أن مبلغ التمويل قليل و لا يتجاوز الثلاثة آلاف، وهو مبلغ لا يكفي لعمل مشروع ناجح في ظل عدم استقرار الأسعار في السوق، حيث تتغير باستمرار، وتؤثر على عمل النساء المُمولات، كما أن مبلغ السداد الشهري كبير جداً، وليس هناك فترة سماح قبل بداية السداد بل يبدأ السداد بعد شهر واحد من استلام التمويل. وأردفت قائلة:”التمويل دمر النساء وانا مثال حي لكل أمراة منحت تمويل”، وتابعت بسبب التمويل فقدت منزلي أسرتي الذي عرض للبيع من أجل سداد قيمة التمويل للبنك”.

ويتهم محمد عبد الله أحمد ، موظف حكومي يبلغ من العمر 45 عاماً وأب لثلاثة أطفال، البنوك السودانية التي تقدم قروض التمويل الأصغر باستغلال الفقراء. وحصل عبدالله على قرض تمويل أصغر من بنك الأسرة نفسه لشراء ركشة مقابل أقساط لمدة أربعة سنوات. وبعد وقوع حادث بالركشة احتاج عبد الله إلى وقت إضافي للسداد ، لكنه فوجئ برفض البنك واحتجاز السلطات له لمدة ثلاثة أيام. اضطر عبد الله إلى السداد باستخدام مدخرات العائلة بأكملها. لم يخطر بنك الأسرة عبد الله بأي سياسة للمخاطر عندما قدم القرض ، على حد قوله. “لا تؤخذ حالات الحوادث أو المرض بعين الاعتبار”.

قروض ربوية

ورغم تأكيد مؤسسات التمويل والبنوك السودانية تعاملها بصيغة ما يعرف ب “المرابحة” المستمدة من الشريعة الإسلامية وإعلانها الرسمي رفض التعامل بالربا في القروض لاسيما المقدمة من خلال مشاريع التمويل الأصغر، إلا أن معظم النساء اللائي تلقين تمويلا من البنوك، يؤكدن أنها ربوية، مشيرين إلى وجود هامش ربحي مسبق لدى سداد القروض.

وتؤكد عوضية كوكو في هذا الصدد أن البنوك تقدم القروض بهامش ربح (سعر فائدة) يفوق 18% من مبلغ القرض.

من جانبها تؤكد الموظفة في مستشفى بحرى زهراء عبد الله، (41عاماً) والتي تتكون أسرتها من ثلاثة أشخاص ل (عاين)أن القرض ربوي، مشيرة إلى أنها أخذت قرضا من بنك الأسرة بقيمة 10000 جنيه وقامت بسداد 13700 جنيه بهامش ربح يتجاوز 30%.

ووصفت زهراء طريقة السداد بالمجحفة، خصوصاً أن بنك الأسرة يتبع لوزارة الرعاية الاجتماعية التي من المفترض أن تخفف المعاناة عن كاهل أي مواطن، وهو ما لا يحدث.

وأعتبرت حواء موسى (38 عاماً)، وتعمل معلمة في مدرسة لمرحلة الأساس بأمدرمان إن شروط التمويل قاسية جداً، وهنالك تشديد في الإجراءات، تجعل المستدين وكأنه يعمل بالـ” سُخرة” من أجل إرجاع أموال البنك، لذلك فإن غالب الناس خاصة النساء عزفوا عن التعامل مع البنوك خوفاً من شروطها وسياساتها في منح التمويل.

احتيال

وكشفت عبيرصالح حسين،(27 عاماً)، تسكن حي مايو جنوب الخرطوم عن تعرض عشرات النساء اللائي تلقين قروضا لعملية احتيال من قبل البنوك، وبالتحديد من بنك الإيداع للتمويل الأصغر التابع لوزارة الرعاية الاجتماعية، مشيرة إلى ارغام البنك لعشرات النساء اللاتي طلبن تمويل، بدفع مبلغ شهري دون أن يحسب لهن في عملية السداد.

 وقالت عبير:”طلب البنك من النساء سداد قيمة الشهر الأول لبداية التمويل في أواخر شهر ديسمبر 2016، إلا أنهن تفاجأن بعدم تسجيل قيمة المبلغ للشهر الأول في الكشوفات الخاصة بعمليات السداد الخاص بهن، وعندما استفسرن إدارة البنك، أُبلغن بأنهن دفعن في ميزانية آخر السنة التى أُغلقت، ولم يحسب المبلغ لهن”.

وزادت:” نحو (60) أمراة دفعن مايقارب الـ(25) ألف جنيه، لصالح البنك واكتشفن انه خارج الحساب، وعند الإحتجاج لمدير البنك رفض الاستجابة”.

وأضافت:”هددونا بالشرطة و المحاكم في حالة عدم الالتزام بسداد القسط الأخير، كون النساء الممولات تمسكن بأنهن قد سددن ما عليهن لكنهن اضطررن للدفع خوفا من المحاكم ومطاردات الشرطة في الحي”.

سياسات التمويل الأصغر تقذف بعشرات النساء خلف القضبان
أوضح بدرالدين أنه ليس في مقدور النظام المصرفي تمويل كل الفقراء، علما بأن عدد السكان أكثر من (34) مليون، ونسبة الفقر 4%، لذا فان التمويل الأصغر لا يستهدف جميع الفقراء، وليس مناسبا للطبقات ذات الفقر المدقع، ولذوي الحاجات من الفقراء ،بل يستهدف الطبقة الفقيرة النشطة اقتصادياً، والتي لديها مهارة ورغبة في الإنتاج”.

تمويل مسترد

وبحسب منشور لبنك السودان المركزي فقد ألزم البنك المركزي كافة المصارف بتخصيص نسبة 12% لدعم التمويل الأصغر. ويعرف المنشور عميل التمويل الاصغر ليشمل كل الفقراء الناشطين اقتصاديا والذين تقل دخولهم عن ضعف الحد الأدني للأجور أو يمتلكون اصول عاملة اقل من 10 الف جنيه والذين لا يستفيدون من مؤسسات التمويل الرسمية. ويؤكد المنشور ان بنك السودان وجه المصارف باستخدام ضمانات غير نمطية لضمان حصول الفقراء الذين لا يمتلكون اصولا لرهنها بتقديم ضمانات أخرى مثل ضمانات المجموعات والمنظمات، ضمان حجز المدخرات، ضمان المنقولات وضمان الرهن الحيازي، مشددا على إلغاء تحصيل الرسوم والدمغات من عمليات التمويل ، توطئة للبدء في ازالة الاعباء الضريبية والجبائية على عملاء التمويل الأصغر ، ووجه المصارف بعدم تحصيل دمغة أصحاب العمل، تحصيل الدمغات والرسوم من عملاء التمويل الأصغر بما فيها الرسوم المصرفية.

ويقول المدير الأسبق للوحدة “بروفسير عبدالرحيم بدر الدين”، إن بنك السودان المركزي حاول وضع أُطر محددة لقيام تمويلات على أُسس إسلامية عالمية، ولا يعتبر التمويل غير مسترد أو منحة، بل هو تمويل وفق أُسس مجموعة الاستشارية التابعة للبنك الدولي لمساعدة الفقراء، مشيرا إلى أن التمويل يتم وفقا لصيغة “المضاربة المقيدة” بتقاسم الأرباح بين البنك ومؤسسات التمويل.

وأوضح بدرالدين أنه ليس في مقدور النظام المصرفي تمويل كل الفقراء، علما بأن عدد السكان أكثر من (34) مليون، ونسبة الفقر 4%، لذا فان التمويل الأصغر لا يستهدف جميع الفقراء، وليس مناسبا للطبقات ذات الفقر المدقع، ولذوي الحاجات من الفقراء ،بل يستهدف الطبقة الفقيرة النشطة اقتصادياً، والتي لديها مهارة ورغبة في الإنتاج”.

ويعرف النظام المصرفي الإسلامي في السودان “المرابحة” بأنها نوع معين من البيع يتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية ، حيث يذكر البائع التكلفة التي تطلبها على سلعته المعروضة للبيع ويبيعها إلى شخص آخر عن طريق إضافة بعض الأرباح المعروفة للمشتري.

تمويلات استثمارية

سياسات التمويل الأصغر تقذف بعشرات النساء خلف القضبان
عتبر استاذ الاقتصاد بجامعة الخرطوم محمد الجاك، أن أكبر عقبة تواجه التمويل الأصغر في السودان، تتمثل في إدارة التمويل من قبل المؤسسات الحكومية، داعيا إلى ضرورة خروج بنك السودان من عمليات التمويل الأصغر.

ويوجه خبراء انتقادات للأسس والأساليب التي يقوم عليها التمويل الأصغر في السودان، واصفين الأسس التي يقوم عليها بأنها استثمارية وليست خدمية. واعتبر استاذ الاقتصاد بجامعة الخرطوم محمد الجاك، أن أكبر عقبة تواجه التمويل الأصغر في السودان، تتمثل في إدارة التمويل من قبل المؤسسات الحكومية، داعيا إلى ضرورة خروج بنك السودان من عمليات التمويل الأصغر.

“تدخل بنك السودان جعل التمويل مقبوضاً، وواقعاً تحت نيران البيروقراطية الإدارية الحكومية، لذلك يجب أن تستقل مؤسسات التمويل من بنك السودان”. ويوضح “الجاك ل (عاين)” أن التمويل الأصغر يختلف من التمويل التقليدي، لأن الغرض من القروض الصغيرة ليس تحقيق الأرباح، بل مساعدة الشرائح الضعيفة، إلا أنه وفي السودان تتطابق الضمانات والإجراءات التى تطلب من طالب التمويل الأصغر مع شروط التمويل التقليدي البنكي، مما أفشل الهدف الأساسي من التمويل الأصغر، وهو تقليل حدة الفقر وسط الفقراء المنتجين” ويمضي قائلا: “خلافاً لتجربة بنوك التمويل المتنوعة في مناطق مختلفة في العالم مثل الأستاذ محمد يونس في بنغلاديش ، فإن جميع مؤسسات التمويل الأصغر يسيطر عليها بنك السودان”.

مبينا ان طريقة عمل التمويل الأصغر في السودان خلقت وسيط يقوم بتوفير كل المطلوبات للمستحق ليُمنح التمويل ويأخذ الوسيط الأموال للعمل بها و يمنحه القليل من المال ما يعتبر استغلال للفقراء.

ويذهب في ذات الاتجاه خبير التمويل المصرفي محمد الفاتح عبد الوهاب العتيبي مشيرا في حديثه لـ (عاين) إلى أن أن من أكبر معوقات نمو وتطور صناعة التمويل الأصغر في السودان هو التدخل الغير متوازن للدولة في هذا القطاع داعيا بدوره إلى خروج بنك السودان من عمليات التمويل الأصغر. “يعتبر تدخل الدولة الغير متوازن متمثلاً في السياسات التي انتهجها بنك السودان من أكبر العقبات أمام مستقبل التمويل الأصغر خاصة في ظل السياسات الإقتصادية الكلية، والتي تقف كحجر عثرة، ومعوق لكل منتج، وبخاصة صغار المنتجين من المزارعين والحرفيين وغيرهم، وبصورة أخص قطاع المرأة والشباب”.

وفي ذات الاطار تقول الباحثة الاجتماعية منال حليم إن المبادئ العالمية الأساسية لانتشال الفقراء من الفقر من خلال التمويل الأصغر هي ببساطة غير مستخدمة في السودان وهو ما تعكسه بوضوح أسعار الفائدة المرتفعة على القروض.

وتقول منال ان دراسة مولها البنك الدولي عن سياسة التمويل الأصغر في السودان وجدت أن 97٪ من إجمالي قروض التمويل الأصغر استندت إلى صيغة المرابحة. على عكس نموذج بنغلاديش للتمويل الأصغر، مشيرة إلى أن البنك المركزي يفرض سياسات قاسية للتمويل بما في ذلك الضمانات الضريبية للسداد التي لا يمكن للفقراء السودانيين الالتزام بها.

وتخلص حليم في حديثها لـ (عاين) الى إن البنوك في تجربة السودان هي التي تستفيد في الغالب من جمع القروض غير المدفوعة بدلاً من الفقراء”.

البنك النسائيسياسات التمويل الأصغر تقذف بعشرات النساء خلف القضبان

في نهاية المطاف أوقفت عوضية كوكو زعيمة اتحاد بائعات الأغذية والشاي جميع المعاملات مع البنوك . وقالت: “لقد قررنا نحن كنساء في العمل الهامشي عدم قبول أي تمويل من البنوك والمؤسسات المالية” ، مضيفة “نحن نسعى إلى إنشاء بنك نسائي لتقديم القروض الصغيرة من أجل إخراجنا من معضلة التمويل و اتباع مثال الهند في تمويل النساء الفقيرات بدون فوائد ووفقا لشروط بسيطة وسهلة “، مضيفة “نريد نقل التجربة الهندية في هذا المجال للسودان”.

وما تزال رائدة دعم النساء المهمشات عوضية كوكو تحمل ذات التصميم رغم تجربتها المريرة ، وتسعى جاهدة إلى العمل مع منظمات المجتمع المدني على وضع برامج لقروض جديدة تأخذ في الاعتبار ظروف النساء، وختمت قائلة” نريد هذه البنوك الجديدة لخدمة نساء ، السودان “.