جدع النار طقس الحصاد الموروث في النيل الازرق

جدع النار طقس الحصاد الموروث في النيل الازرق١٩ نوفمبر ٢٠١٤

يعتبر السودان بمختلف  تكويناته الثقافية ، واحدة من بلدان العالم ثراءاً بالتنوع الثقافي والعرقي والديني ، ولكنه ومع ذلك فشلت الدولة السودانية منذ خروج المستعمر في إدارة هذا التنوع ، وهو ما أدى إلى تفتيت البلاد جنوباً وشمالاُ ، ويعاني السودان من ازمات داخلية ، حيث هناك ثلاث مناطق تشتعل فيها الحروب وهي دارفور ، جبال النوبة و النيل الازرق ، اذا لم تتم حلحلة  ازمة هذه الحروب المتفاقمة ستتجزء دولة السودان الى دويلات اخرى .

ولاية النيل الازرق التي تشهد حرباً منذ العام 2011م ، لم يعرف إنسانها الخنوع اونسيان التراث ذو القيم العالية ، والتي تنادي بأنبل المُثل دون الإلتفات لمايدور في دهاليز السياسية ، ورغماً عن أن الألة الإعلامية المُصورة للفن والثقافة أصبحت تنطلق من أيدولجيات إقصائية واضحة للعيان ، إلا أن الإرث الثقافي اصبح يُورث كابرٍ عن كأبر، بالوسائل التقليدية المتفردة و يتضح ذلك جلياً في إحياء موسم الحصاد ، الذي يعرف “بجدع النار”  عند اهل النيل الازرق فهو موسم يُحتفلون فيه بالحصاد و البدء في عملية الحرث والإستعداد  لعامُ قادمُ بكافة أفراحه وأتراحة .

جدع النار طقس الحصاد الموروث في النيل الازرق

الأووكي – موطاغا

يقول الاستاذ “حسن حمزة ” من جامعة النيل الازرق لـ(عاين ) ان جدع النار هو طقس يُقام في عموم مناطق الفونج ، ولكنه يختلف من منطقة لآخري من حيث الأسم وطريقة الرقص ، منهم من يطلق عليه “الأووكي” ومنهم من يطلق عليه “موطاغا” ، ومنهم من يطلق عليه “أبمبم” وهو يعتبر مناسبة اوإحتفال ببداية حصاد المحاصيل ، ويضيف (عادة تبدأ الإحتفالات في شهر سبتمبرو تستمر لمدة شهر ويتم تحديد تواريخها وفقاً للأشهر القمرية ) .

جدع النار طقس الحصاد الموروث في النيل الازرق

التفاؤل في قمر 14

من جانبة يقول العمدة “أبو شوتال” لـ(عاين) إن جدع النار بالنسبة لنا باعث أمل حقيقي ، ويشير الى ان  العادة جرت على أن يرتبط به الناس في الخير ويتفاعلون به تفاؤلا منقطع النظير، لذلك يحضُره الجميع ، وهنالك من يقطع مسافات بعيدة لحضور هذا اليوم ، ويضيف ( مثلاً هناك من يحضر من الخرطوم خصيصاً لأخذ زواده تشبعة طيلة العام المقبل ) ، ويمضي قائلاً ( إرتباط اليوم بالحصاد له أبعاد متعددة ، منها روحية وأخرى تاريخية ترسي قيم التمسك بتراث الاجداد الذي لاشى يقودنا للتخلي عنه مهما كان ) ، ويشير الى ان الاغنيات التي يرددها الناس كلها باللغات الأصيلة للسكان والعقوبات ايضاً لها جذورعميقة  فالجلد مثلاً يعني التطهير من الذنب الذي إقترفه المعاقب والكل يؤمن بذلك

والايام التي تصادف الإحتفالات بمهرجانات “جدع النار” لابد من أن تكون في الليالي المقمرة او ما يعرف ( بقمر 14 ) ، كما ان الاحتفال توقيته سنوياً في شهر سبتمبر، وبعد اليوم الاول تستمر الإحتفالات لمدة شهر، فيه تقدم الواجبات وتقام الزيجات وتستغل ايضاً لتصفية الخصومات وإصلاح ذات البين ، ورغم إختلاف طريقة الإحتفالات من مجموعة لغوية الى اخرى الا ان الغاية واحدة

جدع النار طقس الحصاد الموروث في النيل الازرق

الاحتفالات على طريقة (أبمبم)

ويعلق على ذلك حسن حمزة  قائلا ( بالطبع هنالك إختلافات شكلية في الاحتفال بين المجموعات السكانية في المنطقة ، فبالنسبة لـ”جدع النار” في منطقة ال”كيلي” مثلاً ، فهو يبدأ بدفن رمز العادة والتي يُطلق عليها إسم ” أبمبم” الذي يتكون من (ثلاث بخس وبرمة من الفخار)  يتم تحديد زمن دفن هذا الرمز وزمن الإحتفالات بواسطة شخص يسمي ( خوديا) وتعتبر المهام متوارثة

اما الرقص فهنالك رقصتان الأولي يطلق عليها ” كشيلي” وهي خاصة بالذكور ، حيث يرقصون في شكل دائري وبدون قصمان ، ومن يرتدي قميص يُجلد بسوط يطلق عليه ” الفرطاق” ينتعلون لحاء الشجر كحذاء ، يتوسط الدائرة صاحب الربابة مغنياً أغاني الحماسة ، يوجد داخل الدائرة اصحاب الألقاب المتوارثة أباً عن جد ، كما يوجد داخل الدائرة بعض الحكامات اللائي يغنين اغاني تتطلب رقصة معينة ، فيجلد كل من يخطئ في الرقص بواسطة ( الفرطاق) ، والرقصة الثانية هي للنساء ولكن يمكن للشباب أن يشاركوا فيها ويطلق عليها ” إبمبم” يرقص النساء مكشوفات الرأس، وتجلد من تغطي رأسها

جدع النار طقس الحصاد الموروث في النيل الازرق

سهرات في جداع النار

يمارس طقس جدع النار في مكان الرقص أو( ميدان اللعب) وهو المكان الذي يرقص فيه “الكشيلي وإبمبم” ، هنالك سهرتان ، السهرة الصغيرة  تبدأ بعد العشاء وتستمر حتي منتصف الليل ، السهرة الثانية تسمي السهرة الكبيرة و تستمر حتي الصباح ، وبعدها يتم جدع النار

جدع النار طقس الحصاد الموروث في النيل الازرق

رجم الأرواح الشريرة

هنالك مساحة كبيرة عرفت ببلوة المك ، وهو المكان الذي يٌدخل فيه المك وأصحاب الألقاب ، بعد جدع النار، يتم فيها تقديم المشورة والنصح للمك كما يتم فيها تأبين الملوك السابقين الذين رحلوا من الدنيا ، بعد ذلك يتجه الناس نحو صخرة جدع النار، فيصطف المك وأصحاب الألقاب نحو القبلة (إتجاه إقامة الصلاة) يحملون أعواد مشتعلة ، ويعدون لسبعة مرات قبل رميها صوب القبلة  بقوة ، والحكمة في ذلك هي رجم الأرواح الشريرة التي صاحبت عملية الزراعة

ويقول الشيخ “أبو شوتال” إن الأمر به إيمانيات راسخة تكمن في أن هذه النيران تُحرق الأرواح الشريرة وتُحيل العوارض الي العام القادم ، وهو ما يحدث بالضبط لكل من لايحضر جدع النار، فبالعادة تصيبهم كوارث، ويضيف ( لذلك أصبح جدع النار حدث مهم لا شي يمنع من حضوره حتى الامراض المُقعدة يُحضر أصحابها لطلب الشفاء ) .

في صبيحة جدع النار يتم الطواف علي الأسر التي فقدت ذويها خلال العام للمواساة ، وفي اليوم التالي لجدع النار يجتمع الجميع لمناقشة  القضايا التي تهمهم ، ثم يقام ضرب طبول (النحاس) وهو المكان الذي يعرض فيه الشباب أمام النحاس

ويقول حسن حمزة ان احتفالات الحصاد ليست حصرياً علي إنسان النيل الازرق فحسب ، فهي متواجده في كافة بقاع السودان ، فعلي سبيل المثال هنالك الكجور في جبال النوبة لها علاقة بالحصاد ، وعدد من الثقافات التي تمثل إنسان دارفور ، وكذلك التراثيات في كل من اقصى شمال السودان وشرقه ، اما في الوسط فهنالك ما يُعرف بالنفير وله إحتفائية خاصة يمتاز بها ، واخيرا أن المشاركة في هذه الإحتفالات أصبحت ثمة عامة يجتمع فيها كل سكان النيل الازرق بغض النظر عن قبائلهم ، وهذا مايفتقره السودان الأن بسبب النعرات القبلية المريضة .