تسريب الامتحانات: مواصلة التدني لنظام التعليم في السودان
وضعت امتحانات الشهادة السودانية مصاعبها المتمثلة في معاناة التلاميذ والاساتذة والاسر، بيد أن أبوابا أكبر من المعاناة والقلق والتوتر قد فتحت هذا العام دون أمل منظور في وجود حل لها. مصدر القلق هو تسرب جزء من الامتحانات لمجموعات من الطلاب الذين جلسوا لها هذا العام، وقرار وزارة التربية والتعليم باعادة امتحان مادة الكيمياء، عقب إقرارها بتسرب الامتحان، دون تقديم متهمين حتى الآن.
الخبر الذي هز وسائل التواصل الاجتماعي واجهزة الاعلام والصحف وأصبح مثار أحاديث الأسر والأسواق والنوادي وخلافها، فتح بابا آخر ليس فقط للتشكيك في نزاهة وزارة التربية ولجنة الامتحانات، بل زاد من مساحات التباعد وانعدام الثقة بين المواطنين والحكومة بأكملها في ظل انتشار فساد غير مسبوق اشار اليه رئيس الجمهورية نفسه أكثر من مرة مؤخرا، متوعدا بمحاسبة المفسدين أيا كانت مواقعهم أو نفوذهم.
شهود عيان وتخبط
الطالب أحمد زهیر، أحد الذين تسربت إليه جميع الامتحانات قبل صبيحة موعدها المعلوم، مؤكدا أن الامر لم يقف فقط عند مادة الكيمياء التي أقرت بها الوزارة. ويروي زهير قائلا في حديث ل (عاين) “كانت جمیع الامتحانات تصلني في وقت متأخر من الليل الذي يسبق الامتحان، شاهدتها جميعها مع اجوبتها النموذجية، وجلست لجميع المواد عدا المواد الاخیرة التي تم التشديد عليها بعد أن شاع خبر تسريبها“.
الطالبة، اثیل مبارك، تذهب في ذات الاتجاه الذي كشف عنه زميلها زهير، مشيرة إلى اكتشافها أن امتحان مادة اللغة الانجليزية قد تم تسريبه أيضا دون علمها المسبق. “جزء كبیر من امتحانات الشهادة السودانية تم تسريبه عدیل، انا جلست لامتحان اللغة الانجلیزیة ولما جيت البيت ابلغتني خالتي بأن الامتحان الذي جلست له ده تم تسريبه، ولما شفت هاتفها وجدت ان الامتحان الذي جلست ليهو ده هو نفس الامتحان الشفتو في تلفونها“.
علي الطرف الآخر من هذه الشهادات، تقف وزارة التربية والتعليم ولجنة الامتحانات مستعصمين بإعادة امتحان الكيمياء دون غيره من المواد. وتمسكت الوزارة في بيان لها أقرت فيه بتسرب امتحان الكيمياء بعدم انكشاف غيره من أوراق الامتحانات. مشددة على قيامها بتحقيقات أثبتت فقط تسرب امتحان الكيمياء.
كثير من الاسر عبرت عن عدم ثقتها في تصريحات الوزارة لا سيما أن إدارتها للازمة اتسم بالكثير من التخبط الربكة، إذ أصرت الوزارة على نفي تسرب امتحان الكيمياء، الأمر الذي عادت لتؤكده خلال 24 ساعة فقط. فيما نشطت الاجهزة الامنية في تعقب معلومات تسرب الامتحانات بغية التستر على الحادثة والايحاء بانحصارها في مادة واحدة في محاولة لتدارك الموقف وتقليل حجة المشكلة. كما تروي أسر أخري عن تعرضها وابنائها للعديد من المضايقات بسبب انتقادهم للوزارة ولجنة الامتحانات وصلت في بعض الاحيان الى التهديدات.
احباط الطلاب
علي الضفة الأخرى، انتابت حالة من الإحباط الآلاف من الطلاب والطالبات الذين لم يحصلوا بالأساس على نسخ من الامتحانات المسربة، بيد أنهم يرغمون على الجلوس لاعادة امتحان الكيمياء.
وتقول الطالبة ر.أ.ع انها لم ترى بعینیها اي امتحان مسرب لكنها سمعت الكثير من زميلاتها بأحد المدارس بحي الخرطوم ثلاثة في العاصمة الخرطوم، يكررن حصولهم على عدة امتحانات من ضمنها الكیمیاء اللغة الإنجلیزیة. وتمضي في حديثها لـ عاين: “ان الحصول على ورقة الامتحان باجاباتها النموذجية لم يكن سرا، لكن الحصول عليه انحصر على ابناء وبنات الأسر المرتاحة“. وعبرت عن إحباطها الشديد من خبر إعادة إمتحان مادة الكیمیاء بعد الجهود التي بذلتها في المذاكرة والاستعداد الامتحان. وتابعت الطالبة: “صاح لا بد من إعادة الامتحان بعد أن تم تسريبه لكن نحن لا ذنب لنا في هذا الموضوع وقمنا بما علینا من مذاكرة واستعدادات، وهناك آخرون حصلوا على الامتحان بكروشهم، فكیف یتم مساواتنا بهم لا بد من إيجاد معالجة للموضوع دا، بعدين سمعنا عن مواد تانیة تم تسريبها وما عارفين دي حيتم معالجتها كيف، الوضع دا خالق ربكة شديدة وسط التلاميذ والأسر“.
ومضى آخرون للتساؤل لماذا يتم اعادة امتحان الكيمياء فقط في ظل تسرب مواد أخرى؟ بل ما هي ضمانات عدم تسرب الامتحان المعاد نفسه في ظل عدم القبض على الجاني الأساسي الذي قام بتسريب تلك الامتحانات؟اسئلة بدون اجابات
تكرار تسرب الامتحانات في السنوات الأخيرة وآخرها في العام 2016، فتح شهية الجميع للاسئلة الصعبة التي تنتظر الاجابات الشافية من السلطات السودانية الرسمية، من هم الجناة ولمصلحة من يتم التسريب وما هي طرق التسريب الامتحانات؟ من الأسئلة التي تنتظر الاجابات دون جدوى حتى الآن رغم تشكيل لجنة تحقيق حكومية برئاسة رئيس النيابة العليا في البلاد.
أول بادرة عرفها السودان لتسريب امتحانات الشهادة الثانوية كان في العام 1972، ولكنها اختفت منذ ذلك الزمن الى العام 2003، الذي شهد تسریب كامل للامتحانات بعد الاعتداء على عربة الامتحانات بمنطقة خور الطينة في دارفور، ثم جاء العام 2016 بتسريب آخر للامتحانات.
أسر وتلاميذ وخبراء في مجال التعليم يجمعون بان وسائط التواصل الاجتماعي واستخدام الهواتف النقالة لعب دورا بارزا في تسهيل تسريب الامتحانات وتداولها بسرعة فائقة تصعب من متابعتها.
وفي هذا الصدد كتب الأستاذ محمود میسرة السراج على صفحته على الفيسبوك التي أغلقها بعد مضايقات كثيرة تعرض لها “يوم 28 مارس 2018 الرابعة صباحا، دوى رنين الهواتف في البیوت السودانیة واشتغلت أجهزة الحاسوب وتم تنشیط خدمة الانترنت على عجل. الذین استیقظوا على رنین الهواتف استلموا نسخة كاملة (12 صفحة) من ورقة امتحان الكیمیاء والذي سيوضع أمام ابنائهم وبناتهم بعد اقل من 4 ساعات في المراكز التي تشهد امتحانات الشهادة السودانية لهذا العام“. وكتب ذات المصدر على حائطه بالفيسبوك “كان غریبا أن یكون أمام كل سؤال اجابته النموذجية، وهكذا استلم (المحظوظون) ورقة الامتحان (محلولة). لم یذهب أحد لصلاة الصبح هذا الیوم. كان أمام الجمیع 4 ساعات فقط ليقوموا بحفظ الاجوبة النموذجية ل12 صفحة من الكیمیاء بأسئلتها مسبقا (بالمل والمسطرة) مسبقا..وبين هؤلاء وهؤلاء يقع الآلاف من الاسر التي لم ترسل لها اصلا نسخ الامتحان التي تسربت وملأت الميديا“.
وحاولت (عاین) الحدیث الى السراج لكنه رفض بحجة أنه لا یستطیع أن یضیف شي علاوة على ما كتبه على الفیس. ليترك الاسئلة مشرعة على أبوابها من يسرب امتحانات السودان.
اعترافات وردود افعال
معارضون وناشطون وأحزاب سياسية، وجهوا انتقادات لاذعة للحكومة واتهموا إدارة الامتحانات بالاهمال والتقصير، مطالبين باقالة الوزيره ومحاسبة كافة المسئولين عن تأمين وإدارة الامتحانات. بل ان بعضهم اتهم نافذين بالتورط في تسريب الامتحانات وربما التكسب من وراء ذلك واصفين الحادثة بالقبيحة التي تكشف جانبا من دولة الفساد العميقة.
وزادت الاستقالة التي تقدمت بها المعلمة هالة التوم من وزارة التربية والتعليم من حنق الاسر والاهالي، وجري تداول استقالتها بصورة واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي. وعزت الاستاذه هالة أسباب استقالتها للأوضاع المتردية والانهيار الأخلاقي الذي أصاب مهنة التعليم.
سارعت الحكومة لتدارك الآثار الكارثية للحادثة التي يمكن أن تثير حفيظة الرأي العام الذي ما يزال يعاني من آثار الازمة الاقتصادية المتفاقمة التي تتجاذبه دعوات الخروج الى الشوارع للاطاحة بالنظام من قبل أحزاب المعارضة جميعها.
أقرت وزارة التربیة والتعلیم بالحادثة بعد نفيها المغلظ، ورضخت وزيرة التربية لاستدعاء البرلمان لها في ذا اليوم، وبعد ساعات قليلة أعلن النائب العام عن تشكيل لجنة للتحقيق حول الأمر، على أن تتخذ كل التدابير في التقصي خارجيا وداخليا لمعرفة من سرب الامتحانات. لكن زيارة وزيرة التربية والتعليم النادرة للبرلمان لم تشف غليل النواب، اذ وصف بعضهم اجاباتها بأنها عديمة الجدوى. وقالت النائبة البرلمانية مریم تكس ل(عاین) “حدیث وزیرة التربیة أمام لجنة التربية بالبرلمان لم يكن بحجم الكارثة” موضحة أن الوزیرة لم تأت بمعلومات قيمة أو جدیدة حول هذا الأمر. وتابعت تكس “خلال اجتماع استمر نصف ساعة لم تأتي الوزیرة بجدید، قدمت نفس المعلومات المنتشرة في الاعلام وكان كلامها متركز حول لجنة التحقیق“.
جهات متعددة
لكن مسؤولين سابقين في وزارة التربیة المحوا الى ان المسؤولیة الجنائیة مشتركة مع جهات أخري مثل وزارة الداخلیة، الأجهزة الأمنیة بالإضافة للقوات المسلحة في بعض مناطق النزاعات. وهذا ما دفع البعض للتشكيك في قدرة لجنة التحقيق على تقديم المذنبين للعدالة بالنظر للحصانات المعروفة الممنوحة لهذه الاجهزة في السودان.
وألمح الخبير التربوي قادم النو إلى وجود أسباب غير تقليدية وراء تسريب الامتحانات هذا العام، اذ ان من قام بتسريبها أقدم على إيصالها للطلاب على أوسع نطاق باستخدام تطبيق الواتس اب. موضحا لـ(عاین): “ان من یرید كشف الامتحان يكون هدفه عادة إما مادي للحصول علي المال أو بحثا عن التمیز لابنه او بنته او مؤسسته أما أن ينشر الامتحان و الاجابات النموذجية في میدیا فهذا شيء آخر“. مشيرا إلى أن “أوراق الامتحانات ترسل بمعزل عن الاجابات النموذجية لان الاجابات النموذجية تحفظ بعيدا و لا تظهر الا عند بدء عملية التصحيح والكنترول“، الأمر الذي يثير احتمالات ودوافع أخرى غير المال والتفوق وراء تسريب الامتحانات
أجانب وتعتيم
آخرون ذهبوا بعيدا عن معمعات السياسية، منبهين إلى استفادة مجموعات من الطلاب الأجانب لقدراتهم التكنولوجية واستخدامهم للمال للحصول على الامتحانات. وأشارت بعض اصابع الاتهام دون دليل واضح لطلاب سوريين ضمن الجالسين لامتحانات الشهادة هذا العام. غذت هذه الشكوك حقيقة القبض علي طلاب أجانب من جنسيات مصرية واردنية نجحوا بالفعل في كشف امتحانات الشهادة السودانية في العام 2016. والقت الاجهزة الامنية القبض بالفعل على عدد منهم وهم في حالة تلبس، لكن لم تذهب الوزارة لاعادة الامتحانات لأن نطاق التسريب كان محدودا داخل قاعة الامتحانات، كما قالت في حينها. كما أثبتت تحريات العام قبل الماضي تورط مسئولون في كشف الامتحانات مقابل المال واحالة بعضهم للتحقيق.
لكن محاولات الأجهزة الأمنية ممارسة التعتيم على القضية برمتها، فتحت ايضا ابوابا أخري للشكوك بوجود مؤامرة سياسية وراء تسريب الامتحانات وتوزيعها مجانا على الطلاب.
(عاین) حاولت الوصول الى الاستاذة ليلى وداعة أبو النور معلمة كیمیاء وهي من بادر بكشف حقيقة امتحان الكیمیاء المكشوف وعلمت من بعض المصادر بأن الاستاذة ليلى لا يمكنها الحدیث لأنها “تتعرض للمضايقة والاستدعاءات من قبل جهاز الأمن وتم مصادرة تلفونها ووضعها تحت المراقبة كما تم فتح بلاغ جنائي ضدها“. وناشد ذات المصدر منظمات حقوق الإنسان بالتحرك للدفاع عن لیلى من قبل لجنة المعلمين وقطاع المحامين ومنظمات المجتمع المدني.