“جذور الصراع” الجزء الاول – مع أبكر ادم اسماعيل
ألتقت (عاين) الدكتور أبكر ادم أسماعيل في حوار عن أسباب وجذور الصراع في السودان، بالتركيز على التطورات التاريخية منذ دخول الاستعمار التركي وكيف شكل الواقع الإجتماعي والإقتصادي. وشرح من خلال شبكة “عاين” عمق أزمات الهوية والطبقية والامتيازات المرتكزة عليهما كعوامل اساسية في تشكيل سودان اليوم الملئ بالمتناقضات. ويصف ابكر الأوضاع التي وصلت إليها البلاد في كافة ضروبها باعتبارها نتيجة لسياسات متراكمة، أدت إلى تفكك النسيج المجتمعي، والذي بدوره أدى وسيؤدي الى مزيد من التفكك فى السودان، واضعاً في ذات الحوار مقترحات لحل الأزمة التي يطلق عليها أزمة سياسية، ترتكز معالجتها في مخاطبة جذور الصراع. ويعد ابكر ادم اسماعيل من أحد رواد الفكر في قضايا الحرب والسلام في السودان، له العديد من الكتابات الفكرية ومثلها من الأدبية، أبرزها كتاب (جدلية المركز والهامش) وثلاثية أعماله الروائية: (أحلام في بلاد الشمس)، (الضفة الأخرى)، و(الطريق إلى المدن المستحيلة)
الدولة الحديثة
يذهب أبكر بان أن أسباب اختيار الدولة الحديثة في السودان من ناحية الزمان كانت في اللحظة التي بدأ فيها شكل من أشكال السلطة الذي سمي الدولة المركزية الحديثة، وظل مستمرا إلى الآن – بغض النظر عن الفاعلين فيه – وأصبح ضمن إطار سلطة تطور المجتمعات التي حوتها الجغرافية السياسية.
قائلاً: “الميزة التي دفعتني للقيام بهذه الدراسة هي أن شكل هذه الدولة عند التأسيس خلق وضعية تاريخية محددة لشكل بناء السلطة، وهذه الوضعية هي التي خلقت جدلية العلاقة بين المركز والهامش”. مضيفا أن مع دخول الاستعمار بدأت تظهر تراتبية اجتماعية سياسية لحيازة السلطة، ووجد الاستعمار مجتمعات غير متجانسة وهي جماعات متنوعة ثقافياً، وفي ذات الوقت جماعات متفاوتة تاريخياُ، لم تصل مرحلة واحدة من التطور التاريخي.
كونفدراليات قبلية
ويمضي ابكر بالقول خلال فترة دخول الاستعمار التركي المصري بقيادة محمد علي باشا كانت هناك جماعات تعيش تحت حكم العشيرة، لكل قبيلة حدودها وليس هناك سلطة جماعة على أخرى. وهنالك ممالك مثل الفونج ، تقلي، المسبعات، الفور وغيرها قبل ظهور الاستعمار. لكنها أشبه بـ(كونفدراليات) قبلية. ويقول ابكر متجاوزا ما آل إليه السودان من انقسامات سياسية “انا اتكلم عن السودان ككل، يبقى دولتين او كم دوله هذا غير مهم بالنسبة لي”. ويزيد ان الجغرافية السياسية الحديثة المصنوعة بشكل أو اخر، بدأت في فترة النظام التركي المصري، وأخذت طابع الدولة الحديثة، وهي قائمة على فرضية مسبقة محددة تفترض وجود أمة هذه “الأمة” تشترط أن يكون لها وجدان قائم على تاريخ، ثقافة ولغة مشتركة. ويتابع أبكر “لكن عندما حملوا هذا الشكل من أشكال الدولة الحديثة بدأ التناقض … أن الدولة سابقة على الامة … وهذه هي الفرضية التي كانت تعمل بها الدولة الحديثة … إن لم تجد امه، تصنعها”. و اضاف إن مشكلة الصراع في السودان عندما جاء الاستعمار عمل عملية دفع قوي جدا وزرع بذور الانقسام الثنائي للمجتمعات السودانية التي لم تكن ضمن دولة واحدة، وعندما بدأت تشكل علاقاتها ظهرت التصنيفات مثل السادة والعبيد.
المركز والهامش
ويواصل ابكر في السرد التاريخي لـ(عاين) بالقول “طبيعي ان مؤسسة الرق تتطلب تقسيم المجتمعات إلى هويات جزئية بغرض تبرير عملية استعباد الآخرين. المبرر ده يا اما انه ذو طابع عرقي او ديني اوغيره!”. ولكن عندما جاء الاستعمار وضع السادة والعبيد داخل إطار سياسي اقتصادي محدد بشكل جديد من أشكال السلطة أكثر فاعلية، خاصة وانه يمتلك من الأدوات ما هو اقوى بكثير مما تمتلكه المجتمعات السودانية سوءا كان الذين لهم دولة أو غيرهم. ويزيد ابكر منذ دخول الاستعمار بدأت إشكالية الصراع في السودان وفقا لما أسماه هو اشكالية (المركز و الهامش)، قائلا: “مش لانو زمان ما كان موجود، لكن لانو الان بقى عندو إطار”. ويشرح ان فرضية (المركز و الهامش) الاساسية تحققت لان السودان جمع مجتمعات مختلفة ثقافياً، كما أن التفاوت تاريخياً بين المجتمعات امر معروف “لانو عندما دخل الاستعمار في ناس كانو عندهم دولة وآخرون يعيشون داخل المشاعية القبيلة الخ…”؛ كاشفاً إن الفرضية داخل المنهج نفسها تقول أنه إذا وجد وضع كهذا لابد أن تظهر جماعة أو عدد من الجماعات تخلق امتيازات في عملية حيازة السلطة والثروة، كما يرى أن هذه المسالة ليست مجانية بقدر ما أنها مرتبطة بالظرف التاريخي الذي خلق هذه الوضعية.
موانع هيكيلة
يرى ابكر ان هنالك موانع هيكلية تشكلت من جماعات هي نفسها شكلت عامل أساسي في تطور الصراع بالسودان. ويقول: “بالضرورة هذه الجماعات صنعت لنفسها امتيازات في المجتمع والذى تحول إلى مانع هيكلي لجماعات أخرى في مسألة حيازة السلطة والثروة”. ويضيف أن الموانع الهيكلية ليست في حلبة الصراع، بقدر ما أنها تصبح امتيازات جماعة ضد جماعة اخرى، وعملية الاستيعاب فيها يتم بشكل جماعي، لأن أسس التفاوت فيها أسس جماعية ليست خاضعة للفروقات الفردية. ويوضح أنه إذا كان المجتمع منسجم ثقافياً، وعرقياً، ودينياً لن يكون هنالك سبب هيكلي يمنع أي فرد في أن يحوز على السلطة.
وتساءل ابكر “اذن من اين تاتي الفوارق:؟. ثم أردف مجيباً ” الفوراق تأتي نتيجة للفروقات الفردية، مثلاً إنسان صوته جميل يمكن ان يصبح فنان، وآخر وفق فارق الذكاء في المؤسسة التعليمية يمكن أن يصعد في سلم الفوقية الاجتماعية، وبذلك تصبح الفرص متاحة للجميع”. واضاف اما الفروقات الهيكلية تأتي عندما تكون هناك امتيازات ذات طابع جماعي وهي كثيرة، أما اثنية ثقافية اقتصادية أو إقليمية إذا كان هناك إقليم له امتيازات على الثاني.
أبعاد التهميش
ويمضي ابكر في الحديث لـ(عاين) متطرقا الى الفروقات الجندرية بالقول “الآن بالرغم من أن عدد النساء والرجال متكافىء لكن عندما تذهب الى هرم السلطة يقل عدد النساء تدريجياً وهذه نسميها ابعاد التهميش“. ويشرح أن في المجتمعات الحديثة هناك شكل طبقي( أغنياء وفقراء) لكن هذه الطبقات في السودان ليست مرتبطة بالعامل الاقتصادي فقط، بل متعلقة بعدة أشياء. والعنصر الأكثر أهمية الذي يعطي السبب للصعود الى اعلى هو العامل الإثني الثقافي الذي خلق مجتمعات ثقافية تبرر هذا الترابط. ويستطرد هذا يعود لطبيعة مجتمعات تسودها علاقات القرابة … وهي بطبيعتها ترتبط بقيم معينة، والجماعات الذين يوجدون في مكان معين … حتى لو لم تربطهم علاقة دم واحدة … هنالك تبرير لهذا النوع من الترابط … هذا يفترض أن من الطبيعي أن يكون لهم دين محدد. وتابع في البداية يمكن لأي جماعة أن تخلق امتيازات ولكن الاستعمار أطلق عليها مصطلحات عديدة مثل البرجوازية الحديثة ، دولة الأمة؛ الدولة الوطنية الخ. وعاد متسائلاً: ما هي الجماعة التي خلقت لها امتيازات في حلبة الصراعات؟. وتابع معرفها بـ بالقول “في دراستي هي الجماعة الاسلامو عروبية. والظروف التاريخية أعطتها هذه الامتيازات وخلقت موانع هيكلية لباقي الجماعات، وفي نهاية الأمر تطور الصراع الى هذه المرحلة في لحظات مرئية واخرى غير مرئية من تاريخ السودان”.
تحالف الاستعمار والإسلام عروبية
ويري أبكر أن جذور الصراع في السودان ترتبط ارتباطا وثيقا بالتوجهات الايدولوجية، التي شكلت تباين في وجهات النظر ادت بدورها الى انقسامات عرفت اصطلاحاً بـ المركز والهامش) ضمن هذه المفاهيم برز وسط المثقفين مفهوم الإسلام عروبية الذي يصفه ابكر بأنه أعطى امتيازات متوالية لمجموعات محددة في السودان قبل خروج المستعمر. موضحاً أن ذات الجماعة التي تولت زمام الامر في السودان كانت تربطها مصالح مشتركة مع المستعمر. الذي كان بدوره يتعامل معها من منطلق السيادة المطلقة!. هذه الجماعات ساعدت المستعمر في عملية النهب فضلاً عن حملات الاسترقاق بـ “مناطق الهامش”. عوامل جعلت المستعمر يسلمهم القيادة من بعده. ويتساءل ابكر: لماذا حازت الجماعة العربية الإسلامية على الامتيازات؟ ويرد على سؤاله “حازت هذه الجماعة على الامتيازات لسبب متعلق بظرف تاريخي معين وهو القرابة الأيديولوجية بين المستعمر والجماعات الموجودة في السودان” مُستذكراً ان الاسباب الرئيسية لغزو محمد علي السودان كانت المال والرجال. “محمد على لما غزا السودان اهم حاجة ليه في الوقت داك هي عملية جلب العبيد”. معللاً حديثة بالاتجاه لخلق مجتمع عبودي عبر توسيع الهوة بين مكونات الشعب – وخلق هويات لتبرير الاستعباد الذي لا يجوز فيه لأحد أن يستعبد أحفاده. قائلاً: “لما جاء من الاستعمار التركي المصري، المسلم لا يجوز استعباده والعربي إنسان حر بل لا يجوز استعباده!!” موضحاً أن محمد على باشا كان من اصول “البانية” ليست له حاضنة إجتماعية وكذلك الثقة في اتباعه المصريين؛ لذلك كان عليه ان يبني قاعدة عسكرية تدين له بالولاء الكامل من الجنود الاقوياء “ضرورة تاريخية” شكلت سبب الاستعباد. واضاف متسائلاً : “ليه محمد على ما قبض الناس الفي النيل الجعليين والشايقية والشكرية وغيرهم ” واستطرد لم يفعل ذلك للعلاقات الموجودة منذ زمن الفونج، لان الانقسام الثنائي كان موجود وتجارة العبيد كانت موجودة بشكل سنوي “بجيبو ناس من دارفور -جنوب السودان -وجبال النوبة وغيرها. محمد علي لا يمكن أن يقبض عرب و يستعبدهم لانهم ببساطة ممكن يمشو الأزهر يطلعو شهادات انه جدهم العباس” البديهي أن محمد على عندما دخل السودان في ذهنه أن السودانيين لا يمكن أن يستعبدوا كلهم! هناك جماعات أخرى هي ما يعرف حاليا ب”الهامش”.
ويخلص ابكر إلى أن أيديولوجيا الاستعمار التي أتت بالدولة الحديثة أعطت دفعة كبيرة للانقسام داخل المجتمع السوداني. “المسألة أصبحت فيها قبض واستعمار لابد تلقى ليك حل للمشكلة دي لذلك استعان المستعمر ببعض أبناء الجماعة ديل”. وهي أس المعضلة الأساسية الموجودة في السودان منذ ذلك الوقت. ومن هنا تشكلت معادلة الاستعمارية باستغلال هذه الجماعة للمساعدة في النهب، وهي استفادت منه و في خلق امتيازات أخرى اقتصادية . هذه الامتيازات مرتبطة بالدين- وفكرة العروبة والاستعمار- التشابه مع مصر. لذلك أصبحوا هم الجماعة السائد على المستوى الداخلي وكل المجتمع السوداني سيادته وعبيده سيادتهم عند المستعمر الذي ذهب مخلفاً ورائه هذه الجماعة.