ضحايا منسيون في حرب السودان

عاين- 17 ديسمبر 2023

بعد شهرين من اندلاع الحرب في الخرطوم، تفاجأ “أحمد حسين” بإخطار شفاهي من شركة ميكو للدواجن، يفيد بإنهاء خدمته وهو “نبأ وقع عليه كالصاعقة” – كما يروي – نظراً لإنهاء وظيفة ظلت مصدر رزقه الوحيد لما يقارب العقد من الزمان.

لم يكن أمام حسين خيار غير الفرار بعائلته من نيران القتال كغيره من سكان الخرطوم، والتوجه إلى مدينة ربك والإيواء إلى منزل متواضع بعد أن تمكن من استئجاره بمبالغ قليلة كانت بحوزته، ومع تطاول أمد الحرب، وتوقف راتبه أصبح في وضع في حرج مع عجزه عن الوفاء بالإيجار وتكاليف المعيشة المختلفة.

ليس أحمد سوى واحد من آلاف العاملين في القطاع الخاص السوداني تعرضوا للفصل التعسفي والتسريح، بينما أجبر آخرون على الدخول في إجازات مفتوحة بدون مرتب في أكبر “مجازر إنها الخدمة على مر تاريخ البلاد”، وصاروا في مصير مجهول في ظل غياب أمل العودة إلى العمل والحصول على مكافآت مالية في الوقت الحالي أو تعويضات في المستقبل.

حوالي 6 ملايين سوداني يعملون كموظفين في القطاع الخاص، ويمثلون نسبة 70% من إجمالي القوى العاملة في البلاد هم الآن بدون أجور.

وبحسب تقديرات غير رسمية، فإن حوالي 6 ملايين سوداني يعملون كموظفين في القطاع الخاص، وهم يمثلون نسبة 70% من إجمالي القوى العاملة في البلاد، تقطعت بهم السبل وهم بلا أجور بعد المجازر التي ارتكبتها بحقهم كافة مؤسسات الخدمة الخاصة العاملة في ولاية الخرطوم عقب اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع منتصف أبريل الماضي.

يكشف مصدر من بنك فيصل الإسلامي لـ(عاين): إن عشرات العاملين مما كانوا يشتغلون في فروع المصرف بالعاصمة الخرطوم وإقليمي دارفور وكردفان تسلموا خطابات مكتوبة تفيد بفصلهم عن العمل مع وعد بسداد مرتب 6 أشهر مقابل الفصل التعسفي حسب ما ينص قانون العمل السوداني، لكن لم يتم الالتزام بسداد هذه المستحقات حتى اللحظة.

ويقول موظف كان يعمل في قسم الاستثمار بأحد فروع بنك فيصل بالعاصمة الخرطوم لـ(عاين) مفضلا حجب اسمه: “تم إخطاري رسمياً بإنهاء خدمتي بعد دخول الحرب شهرها الثاني، ومنذ ذلك الحين لم نتقاض أي مستحقات، ولم يتم حتى إبلاغنا بموعد صرفها، فالمصرف يتجاهلنا تماماً، ونقود حاليا حراك للضغط عليه بغرض صرف قيمة الفصل التعسفي والنظر إلى التأمين الاجتماعي والحقوق الأخرى لاحقاً”.

ميناء ابو عمامة اراء حول مشروع الميناء - مواطني ولاية البحر الأحمر

 

“برر البنك عملية الفصل بأنها جاءت نتيجة للحرب وتداعياتها، وأنه يرغب في خفض المصروفات، لكن في تقديري المصارف لم تتأثر بالصورة التي تجعلها عاجزة عن الوفاء بمستحقات العاملين، فهي تباشر نشاطها في الولايات الآمنة بذات العملاء، وكان الأولى تقدير الحالة الإنسانية للموظفين المفصولين والوفاء بجزء من تعويضاتهم المالية” يضيف الموظف.

مصير مشترك

يواجه الموظفون في بنك الخرطوم المصير نفسه، لكن هذا المصرف خير موظفيه العاملين بفروع ولاية الخرطوم بين تقديم إجازات مفتوحة بدون مرتب، حتى يتسن لهم الاحتفاظ بوظائفهم عقب عودة الاستقرار، أو تقديم الاستقالة أو الفصل نهائياً عن الخدمة والحصول على مكافأة 6 أشهر. وبدأ هذه الإجراءات مطلع هذا الشهر، وما تزال مستمرة، وذلك حسبما نقله مصدر مطلع بالمصرف لـ(عاين).

ولا يختلف الوضع كثيراً في العديد من شركات القطاع الخاص التي ذهبت في اتجاه تشريد العاملين لمواجهة صدمة الحرب وما ترتب عليها من تدمير وخسائر مالية كبيرة. وسلمت شركة دال وهي أحد أكبر المؤسسات الخاصة التي يتركز نشاطها على المنتجات الغذائية، عمالها وموظفوها خطابات بفصلهم عن الخدمة بعد دخول القتال شهره الثالث؛ مما قاد إلى تشريد آلاف الأشخاص، وفق مصادر من الشركة تحدثت مع (عاين).

ويقول أحمد حسين من شركة ميكو للدواجن إنه يواجه مصاعب معيشية كبيرة، فقد أخطرته الشركة بالتوقف عن العمل، دون أن ترسل له أي مستحقات طوال 5 أشهر ماضية، حيث وجد نفسه الآن عاجزاً عن دفع أجرة المنزل والوفاء بتكاليف المعيشة، ويواجه شبح الإخلاء إلى الشارع، وليس أمامه أي وسيلة للكسب المالي حالياً.

ويضيف خلال حديثه لـ(عاين) “اعتقد أن العشرات من زملائي يعيشون نفس معاناة، فالرواتب نفسها كانت ضعيفة مقارنة بتكاليف المعيشة المرتفعة، ولا تفي لاحتياجاتنا في الشهر، ناهيك أن نستطيع تحملها طوال هذه المدة. إذا قامت الشركة بسداد مستحقاتي وتعويضي ربما أستطيع تأسيس مشروع صغير يساعدني على الكسب المادي وإعانة عائلتي”.

ولم يكن قاسم عبد الله الموظف في إحدى شركات الإنتاج الغذائية في ولاية الخرطوم (تحفظ عن ذكر اسم شركته أملا في العودة) بأحسن حال، فقد تم فصله نهائياً عن العمل بعد شهرين من اندلاع الحرب، ومنذ ساعتها ظل متجولاً بين مدن السودان بحثاً عن الأمن ومصدر جديد يقتاد منه رزقه، لكنه لم يوفق حتى الآن ليستقر به المقام في أحد مراكز إيواء النازحين في مدينة سنار.

ويقول عبد الله لـ(عاين): “وعدت الشركة بدفع مستحقاتي الخاصة بالفصل التعسفي وهي مرتب 6 أشهر، ولكنها لم توفي حتى الآن، وأرسلت لي حافزاَ محدوداً مع بداية اندلاع الحرب، ولا ندري ما مصير بقية مستحقاتي فلدي تأمين اجتماعي أيضا حال تم صرفه سيكون مفيداً في تأسيس حياة جديدة ومشروع بديل للكسب المادي، ولكن لا أرى أملاً في ذلك”.

القوة القاهرة

تذهب مؤسسات القطاع الخاص إلى تبرير عمليات الفصل والتقليص للعاملين إلى ما لحق بها من خسائر جراء الحرب وتوقف أنشطتها، وبحسب وزيرة الصناعة المكلفة في السودان محاسن علي يعقوب، فإن 90% من المصانع في ولاية الخرطوم تأثرت بصورة كبيرة جراء القتال الجاري بالعاصمة، وذلك وفق ما أدلت به خلال ملتقى عقد في مدينة القضارف مطلع ديسمبر الحالي.

يقول الخبير النقابي محمد علي خوجلي إن كافة قوانين العمل السودانية تمت إجازتها في أوقات السلم، لذلك لا تتضمن ما يعرف بنظرية “القوة القاهرة” وهي نشوب حادث مفاجئ لا يمكن توقعه، ويجعل تنفيذ الالتزامات (الحقوق والواجبات) مستحيلة، ويتمثل ذلك في الحرب والنزاعات المسلحة وهو ما ينطبق على ما نعيشه الآن، فنحن أمام قوة قاهرة فعلية.

ويشرح خوجلي خلال مقابلة مع (عاين) أن بعض العاملين نزحوا ولا يستطيعون أداء وجباتهم، بينما يمنع تدمير المنشأة صاحب العمل من الوفاء بالتزاماته وهي وضعية معقدة. ويضيف أن “المادة 55 من قانون العمل السوداني تعطي صاحب العمل حق فصل أي عامل دون إبداء أسباب شريطة دفع تعويض يعادل راتب 6 أشهر. بينما يجوز فصل جميع العاملين وفق شروط حددها بهلاك كلي أو جزئي للمنشأة أو حلها أو تصفيتها أو توقف بعض خطوط الإنتاج”.

“لم يتضمن قانون العمل السوداني أي بنود تتحدث عن إجازات بدون مرتب للعاملين في القطاع الخاص، وما يتم حالياً يعتبر مخالفة قانونية وأصحاب العمل يدركون ذلك”

الخبير النقابي: محمد علي خوجلي

ولم يتضمن قانون العمل السوداني أي بنود تتحدث عن إجازات بدون مرتب للعاملين في القطاع الخاص، وما يتم حالياً في هذا الخصوص يعتبر مخالفة قانونية وأصحاب العمل نفسهم يدركون ذلك، وفق الخبير النقابي.

ويشير إلى أنه بخلاف قانون العمل الذي هو بحاجة إلى تعديل فيما يلي مسائل الفصل من الخدمة، فإن الاتفاقية الدولية لحماية المدنيين للعام 1949، والتي صادق عليها السودان والبروتوكول الثاني لسنة 1977م نصت على استمرار أجور العاملين في زمن النزاع المسلح وعدم المساس بقوانين العمل أي لائحة تنظيمية أخرى في أثناء الحرب، وتطبيقها كما هي.

ضامن أساسي

ومن واقع ذلك فإن قانون العمل السوداني، رغم عيوبه وتناقضه مع اتفاقيات دولية فيما يلي مسألة الفصل التعسفي، فإنه يعد الضامن الأول لحقوق العاملين في القطاع الخاص بمنطوق مادتيه 52 و55 اللتين تحفظان حقوق العاملين في حالتي السلم والحرب، وذلك وفق ما يذهب إليه المحامي المختص في قضايا العمال عبدو مكاوي خلال مقابلة مع (عاين).

ويقول إن “فصل العاملين أو إجبارهم على أخذ إجازات مفتوحة يعد انتهاكاً لحقوقهم خاصة إذا تم ذلك دون موافقتهم، فقانون العمل السوداني نص على أنه يجب على صاحب العمل اتباع الإجراءات القانونية المحددة وتقديم تعويضات مناسبة وفق القانون”.

عامل

كما نصت على ذلك الاتفاقيات الدولية، فقد حددت اتفاقية العمل القسري حقوق العمال في حال فصلهم، وتنص على أنه يجب على الدول الأطراف أن تحمي العمال من الفصل غير المشروع، وأن تكفل لهم حقوقهم في حالة الفصل وضرورة توفير تعويضات عادلة لهم في حال فصلهم بصورة غير قانونية، ونصت على ذلك أيضا اتفاقية حقوق الإنسان، وفق مكاوي.

خطوات فصل العمال وتسريحهم، رغم قسوتها تأتي كخيار وحيد أمام مؤسسات القطاع الخاص في ولاية الخرطوم، ولا يوجد سواه بحسب ما ذهب إليه الخبير الاقتصادي د. محمد الناير الذي يرى أن ما تم كان بمثابة إجراء احترازي لضمان عودة المنشأة العاملين إلى العمل فغالبية المؤسسات لجأت إلى تسريح الموظفين، وليس فصلهم لأنه من الصعب الوفاء بالأجور في ظل توقف العمل لأكثر من 7 أشهر.

“عمليات تسريح عاملي القطاع الخاص سيكون له تداعيات اقتصادية سالبة، وسيرفع من معدلات البطالة في السودان، التي شهدت ارتفاعاً قبل اندلاع الحرب.

الخبير الاقتصادي: محمد الناير

ويقول الناير في مقابلة مع (عاين) إن عمليات تسريح عاملي القطاع الخاص سيكون له تداعيات اقتصادية سالبة، وسيرفع من معدلات البطالة في السودان، والتي شهدت ازدياداً قبل اندلاع الحرب.

ويشير إلى عدم وجود حصيلة دقيقة لخسائر القطاع الخاص جراء الحرب الحالية، ولكنها تقدر بعشرات المليارات من الدولار، ويعتبر القطاع الصناعي الأكثر تأثراً، ويليه القطاع التجاري الذي تضرر بفضل عمليات النهب الواسعة والممنهجة، وفي كل الأحوال تبقى حقوق العمال محفوظة بموجب قانون العمل الذي ينحاز إلى العاملين أكثر من أصحاب العمل، وكان واحد من عقبات الاستثمار في البلاد”.

مسؤولية الدولة

ومع تعثر أصحاب العمل، تقع مسؤولية أجور العاملين في القطاع الخاص بحسب النقابي محمد علي خوجلي، على الدولة في حال تعثر أصحاب العمل ولا مجال لأن تتهرب من هذه المسؤولية، فهناك سوابق يمكن التأسيس عليها في الحالة الراهنة وهي قيام الحكومة الديمقراطية في العام 1988 بدفع رواتب عمال مصنع النسيج السوداني، وجاء سلطة الانقلاب بقيادة المخلوع عمر البشير بعد عام، وواصلت في دفع هذه الاستحقاقات.

ويلفت خوجلي الانتباه إلى أن مطالبات العمال لا تتم على نحو فردي، ويمكن أن ينشأ حوار ثلاثي بين العمال والدولة وأصحاب العمل، ويمكن أن تبادر الدولة بمسألة دفع الاستحقاقات أو حتى حوافز ودعم اجتماعي من خلال الاستفادة من موارد موجودة من خلال بنكي العمال والادخار وجهاز الاستثمار التابع للضمان الاجتماعي، وطلب تمويل من وكالات الأمم المتحدة والمطالبة بفك تجميد دعم من صندوق النقد الدولي بقيمة 1.8 مليار دولار أمريكي.