مصابو حرب السودان .. حكايات مع الألم وغياب الرعاية الصحية  

عاين– 1 مايو 2024

لم يجد المواطن السوداني نصر محمد نصر، من يضمد جرحه لأكثر من خمسة أشهر، وهو يلتزم منزله في مدينة نيالا غربي البلاد منذ إصابته جراء غارة جوية نفذها طيران الجيش على حيه السكني.

كُتب إلى نصر (48) النجاة من موت محقق، لكنه كان على موعد مع فصل جديد من مآسي الحياة، إذ تسببت القذيفة المتفجرة في بتر رجله اليسرى، وأحدثت أذى جسيماً على الرجل اليمنى، فصار مقعداُ في بيته، تاركاً أطفاله الـ15 بلا مُعيل، يعانون شظف العيش، ونقص في كافة مناحي الحياة، حسب ما يرويه بحزن لـ(عاين).

ويواجه أكثر من 26 ألف شخص من المدنيين أصيبوا خلال الحرب المستمرة بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ منتصف شهر أبريل 2023م، بحسب حصيلة الأمم المتحدة، المصير القاسي نفسه فهم يعيشون مآسي مضاعفة، تبدأ بصعوبة الحصول على الرعاية الطبية اللازمة؛ بسبب التدمير الذي لحق بالقطاع الصحي.

يرقد محمد نصر ، وهو يواجه معاناة مضاعفة نتيجة جرحه النازف في ظل غياب الرعاية الصحية، إلى جانب نقص الطعام والوضع المعيشي السيئ بعد أن أصبح عاجزاً عن الكسب المالي.

وخرجت 80 بالمئة من المستشفيات والمراكز الطبية في السودان عن الخدمة، نتيجة الصراع المسلح المحتدم بين الجيش وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم، وإقليمي دارفور وكردفان وولاية الجزيرة لاحقاً، وتحولت بعض المرافق الطبية إلى ثكنات عسكرية، ويقابل ذلك نقص في الأدوية والكوادر الطبية.

وتمتد المعاناة إلى أن العديد من الجرحى كانت إصاباتهم بالغة تصل حد العلة المستديمة كبتر بعض الأعضاء الجسدية، فصاروا غير قادرين على العمل والكسب المالي الذي يعينهم على مواصلة حياتهم، إلى جانب التأثيرات النفسية الواسعة على المصابين لما تعرضوا له من أحداث صادمة، ولم يتمكنوا من الحصول على برامج تأهيل نفسي.

ووفق مدير المجلس الأعلى للأشخاص ذوي الإعاقة في ولاية البحر الأحمر، آمنة عبد القادر التي صرحت في وقت سابق، فإن عدد الأشخاص ذوي الإعاقة في السودان تضاعف بسبب الحرب الحالية، وقد أصبح المجلس وهو جهة حكومية، يستقبل أشخاص جدد من ذوي الإعاقة انضموا بعد أن تعرضوا إلى إصابات جراء الصراع.

واقع صادم

يواجه نصر، واقعه الحياتي الجديد من على فراشه، وهو يستعيد اللحظات العصيبة التي عاشها خلال حادثة القصف التي تعرض لها حيه السكني في مدينة نيالا، وما تخللها من مشاهد صادمة، إذ توفي 4 من جيرانه أمام عينه، وتناثرت أعضاهم الجسدية في المكان، وهي أحداث مرعبة ظلت تدور في مخيلته، وتؤلمه أكثر من جرحه النازف.

المصاب: نصر محمد نصر

ويروي نصر خلال مقابلة مع (عاين) جزء من فصول وقائع مأساوية من عمليات القصف العشوائي التي تعرض لها المدنيون في نيالا، ففي إحدى الليالي التي أعقبت سقوط الفرقة 16 مشاة التابعة للجيش في يد قوات الدعم السريع، شاهد طائرة حربية تحلق فوق حيه السكني، وساعتها كان في طريقه إلى المسجد لأداء صلاة العشاء برفقة صديقه، فأخذ ينبه في جيرانه بأن يحتموا بالمنازل خشية من غارة جوية.

وبعد بضع دقائق سقطت قذيفة متفجرة على بعد 3 مترات فقط منه، فقطعت رجله اليسرى، وأصابت اليمنى كذلك، بينما قتلت 3 رجال مدنيين من جيرانه في الحي وامرأة واحدة، ولم يكن هناك سبيل لإسعافه سوى حمله على آلة نقل يدوية “درداقة” إلى مستشفى المدينة، لتبدأ معها معاناته في الحصول على العلاج، ومع نقص الرعاية الطبية اللازمة تعرض جرحه إلى التهاب، فأجريت له عمليتان جراحيتان في أوقات مختلفة، وما يزال يعاني.

يقول إنه يشعر بحزن شديد على أطفاله البالغ عددهم 15 أنجبهم من زوجتين، أحدهما توفيت، فهو يخشى على معاشهم بعد أن فقدوا معيلهم، “لقد صرت عاجزاً عن الكسب، وقد اضطرت زوجتي وبنتي إلى الذهاب لأعمال هامشية لتوفير بعض من احتياجاتنا المعيشية، وهذا الشيء يؤلمني كثيراً، ويجعلني احس بحرج بالغ”.

وتعرضت نيالا ثاني أكبر مدينة في السودان إلى قصف مكثف بالطائرات، والقصف المدفعي المتبادل بين الجيش وقوات الدعم السريع، وفي الغالب تكون هذه العمليات عشوائية وتستهدف المناطق المدنية المأهولة بالسكان، الشيء الذي جعلها تأتي بعد العاصمة الخرطوم في عدد الضحايا من قتلى ومصابين من المدنيين، وفق تقديرات غير رسمية.

جرحى بين نارين

أما في العاصمة السودانية تنتهي رحلات مصابي الحرب من المدنيين عند مستشفيات قليلة لم يطلها التدمير وظلت تعمل، وهي مستشفى بشائر والتركي جنوبي الخرطوم، والبان جديد في شرق النيل، ومستشفى النو في مدينة أم درمان غربي العاصمة، وفي كثير من الأحيان تفشل هذه المراكز في تضميد جراح المصابين نتيجة قلة الأدوية والأطقم الطبية، فتنتهي حياتهم، بينما يعيش الألم من كُتبت لهم النجاة.

وعاش معاذ إبراهيم شاب في العقد الثالث، معاناة بالغة في الحصول على العلاج، إذ أصيب بمقذوف متفجر سقط على أحد الميادين في ضاحية أمبدة الحارة 16 غربي أمدرمان، فكان عليه الخروج من منطقة تسيطر عليها قوات الدعم السريع إلى مستشفى النو الذي يقع في نطاق سيطرة الجيش، وهي رحلة شاقة كاد أن يفقد خلالها حياته نظراً لقيود الحركة التي تفرضها القوات المتقاتلة.

ومنذ 5 أشهر يعيش إبراهيم شتى ضروب المأساة، فقد تسبب المقذوف المتفجر في كسر رجله، واخترق بطعنه كذلك، فخضع لعدة عمليات جراحية، استزفت صحته ومدخرات عائلته، وما تزال معاناته الصحية مستمرة، ولم يجد ما يقف إلى جانبه في تلك الظروف، حتى المشفى تقاضي رسومه كاملة، مع الثناء على مجهودات المتطوعين في مستشفى النو الذين خففوا عليه بعض الألم، حسب ما يقول لـ(عاين).

ويروي: “لقد تحسنت صحتي، وذهب كثير من الألم، لكن ينتابني رعب كبير عندما نتذكر لحظة سقوط المقذوف المتفجر على الميدان، وساعتها كنا نلعب كرة القدم، وتسبب في مقتل 4 أشخاص جميعهم من أسرة واحدة، وأصيب بعض أصدقائي معي، فكانت الدماء تملأ المكان وأشلاء الضحايا متناثرة حولنا، وهي مشاهد صعبة لا نستطيع نسيانها”.

مبالغ طائلة للنجاة

ولكي ينقذ المدنيون المصابون جراء الحرب في أمدرمان حياتهم، يتوجب عليهم دفع مبالغ طائلة إلى مستشفى النو الوحيد المتبقي في المنطقة، تتراوح بين 150 – 700 ألف جنيه سوداني حسب مستوى الإصابة، ومع ذلك لا يحصلون على الرعاية الطبية الكافية، بينما يواجه الذين يعجزون عن دفع الرسوم المالية مصير الموت، وفق ما نقله مصدر بالمشفى لـ(عاين).

غرفة علاجية بمستشفى النو في ام درمان

أما في مدينة الجنية غربي السودان التي شهدت مذابح ومواجهات دامية على أساس عرقي، بدت مأساة الجرحى مضاعفة، فالذهاب إلى المستشفى لطلب العلاج قد يكون سبباً للموت نتيجة استهداف من المكونات المتقاتلة، وهي كحالة نصر الدين محمد الذي أصيب بالرصاص في قدميه وتهشيم جزء منها، فاضطر للبقاء لأيام، دون أن يتلقى أي رعاية.

وبعد أيام من المعاناة تمكن نصر الدين الذي تحدث إلى (عاين) من الوصول إلى المستشفى، وأجريت له عملية جراحية، لكن بعد يوم واحد اضطر لمغادرة المشفى بسبب تدهور الوضع الأمني في المدينة، فظل في المنزل لمدة شهرين دون أدوية، فلم يجد طبيب يغير له الشاش على الجرح؛ مما أدى إلى مزيد من تدهور وضعه الصحي.

ومع تراجع وضعه الصحي غامر بالسفر إلى مدينة نيالا بعد أن سمع بأن أحد مشافيها يقدم رعاية طبية جيدة، وقبل أن يكمل برنامجه العلاجي هناك تعرضت مناطق قريبة من مشفاه إلى قصف مكثف بالطائرات، فاضطر للمغادرة خشية من استهداف جديد، وعاد إلى بيته في الجنينة وصار مُقعداً، بينما تولى أشقاءه مسؤولية إعالة أطفاله الثمانية.

وبينما يواجه آلاف من مصابي الحرب مآسيهم في صمت لقلة حيلتهم، وجد بعض الجرحى طريقهم إلى خارج البلاد طلباً للعلاج، وفي سبيل ذلك تخلصوا من كل مدخراتهم وتحويشة عمرهم، وهذه مثل حالة يقين مرتضى 25 عاماً التي غادرت إلى مصر في رحلة شاقة عن طريق المعابر البرية، وذلك بعد أن استعصى علاجها داخل السودان.

وتعرضت يقين التي تحدثت لـ(عاين) إلى إصابة بشظايا مقذوف متفجر في الرجل خلال قصف مدفعي عشوائي استهدف مستشفى الرومي في أمدرمان بعد شهرين من اندلاع الحرب، وساعتها كانت حبلى تتابع مع طبيب النساء والولادة، فتسببت الإصابة في قطع أحد شرايين رجلها، فمكثت في مستشفى النو لعدة أيام، فلم تجد العلاج اللازم، فغادرت إلى الولاية الشمالية وبالتالي مدني، وأجريت لها عملية جراحية، لكن التهب جرحها وساء وضعها الصحي.

وبعد أشهر أنجبت طفلها تحت ظروف صحية بالغة السوء، وأصيبت بجلطة دموية، فاقمت من معاناتها، مما دفعها وزوجها للتفكير في المغادرة إلى مصر، لكن الحصول على التأشيرة ليس سهلاً، ومع تراجع وضعها الصحي اضطرت للسفر إلى القاهرة عن طريق البر في رحلة شاقة، فاقمت من حالتها، وازداد جرحها عمقاً.

وتقول: “أجريت لي عملية زراعة شريان طبيعي، وتحسنت حالتي الصحية، لكن تتقطع بناء السبل الآن، فالحياة مكلفة للغاية، فنحن أنفقنا كل ما عندنا من مبالغ، فقد تخلصنا من القدامنا والخلفنا بسبب السفر إلى مصر. لا ندري ماذا نفعل، نفكر في العودة إلى السودان رغم اضطرابه، لكننا لا نملك المبالغ اللازمة”.

مصاعب نفسية

وإلى جانب ألم جراحهم النازفة، يعيش مصابو حرب السودان من المدنيين تحت وطأة آثار نفسية واسعة لما تعرضوا له من صدمات، فجميعهم يواجهون مرض “عصاب ما بعد الحادث” والذي تكون أعراضه بحسب استشاري علم النفس في مركز أمنية للتدريب وتنمية المهارات النفسية، دكتورة ابتسام محمود – القلق والإحساس بالخوف واستدعاء الذكريات الأليمة والمروعة مع صعوبة في النوم والأكل، وعدم القدرة على التواصل مع الآخرين.

مستشفى في العاصمة السودانية الخرطوم- عاين

وتقول ابتسام في مقابلة مع (عاين) إن الأمراض النفسية تأتي نتيجة لعوامل وراثية، أو طفولة قاسية فيها حرمان، أو التعرض لصدمات جراء الحروب والصراعات، فالذين عايشوا ظروف القتال تقع عليهم تأثيرات نفسية كبيرة، بينما حدث انتكاسات للذين تعافوا من أمراض نفسية، وقد وثقت العديد في عيادتي الخاصة، كذلك تُلقي الإصابات بتبعات نفسية واسعة، لا سيما المصابين بأمراض عضوية مسبقاً”.

وتشير إلى أن برنامج العلاج النفسي للذين تعرضوا لمثل هذه الصدمات يجب أن يبدأ خلال شهر من الحادثة، وربما لم يحصل كثيرون عليه نتيجة استمرار الحرب.

وتختم حديثها “جميع المصابين والمتأثر بالحرب بحاجة إلى برنامج الدعم النفسي الاجتماعي والرعاية النفسية الأولية، والتي يقوم بها فريق عمل مختص ومدرب بعد عمل دراسة للمتأثرين كلهم، وذلك يبدأ بجمع الأسر في مناطق آمنة ولم شملهم، فهي لا تقل أهمية عن العلاج الطبي وأي برنامج علاجي آخر”.