في مرمى النيران وعلى تخوم الموت

عاين- 1 نوفمبر 2023

أشهر من القتال الضاري بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، كانت كفيلة بإحالة مناطق واسعة من هذا البلد إلى رماد، بينما أحدثت ما يؤسف له في حياة المدنيين المُجبرين للصمود على خطوط النار إذ صار التصالح مع الموت عنوانًا لنشاطهم اليومي، كما أن الحرب المدمرة رسمت واقعًا اليمًا لحركة المواطنين بين المدن المختلفة. وفقًا لما رصده مراسل لـ(عاين) خلال جولة شملت إقليم كردفان وأم درمان.

لم يكن الطريق إلى إقليم كردفان آمناً مثلما كان في العهد السابق لاندلاع الحرب. المسافرون من الولايات الوسطى إلى هناك عليهم التضحية بثلاثة أيام على الأقل من وقتهم نظير الوصول، بجانب التخلي عن هواتفهم الذكية وتحاشي حمل مبالغ نقدية والاحتفاظ فقط بما يكفي أجرة الحافلة نظراً للانتشار الكثيف لعصابات النهب.

في مدينة ربك عاصمة ولاية النيل الأبيض التي وصلتها بغرض استغلال حافلة الى الأبيض، كانت محطة المواصلات ممتلئة برجال مسلحين بـ(طبنجات) -مسدسات- يرتدون أزياء مدنية ويقومون بتوقيف عشوائي للمسافرين ويقتادون بعضهم إلى مبنى مجاور للتحقيق وتفتيش الأمتعة في قبضة أمنية وتضييق مهين بحق المدنيين الراغبين في التنقل.

داخل البص السفري، كان الخوف والرعب يسيطران على محيا الركاب، وترتفع وتيرة القلق عند الاقتراب من نقاط التفتيش التي ينصبها الجيش في مناطق سيطرته لما يتخللها من ترهيب واذلال وتعطيل، بينما يخيم الصمت على الرحلة وكأن ما بداخلها أموات بعد أن اختفت المؤانسة وأحاديث السياسة التي طالما تميز بها السودانيين في ترحالهم.

لم يكن السير ليلاً ممكناً لما ينطوي عليه من مخاطر أمنية، فكان لزاماً على المسافرين قضاء ليلتهم الأولى في مدينة “تندلتي” بولاية النيل الأبيض وهي آخر نقطة يسيطر عليها الجيش بشكل محكم، قبل أن تستأنف الرحلة صباحاً لتبدأ معها حالة من الخوف الهستيري حيث من المقرر دخول المنطقة الصفرية الفاصلة بين الجيش وقوات الدعم السريع والتي تشهد اشتباكات باستمرار.

جثث على الطرقات 

عند وصولنا الى منطقة (ود عشانا) التي تفصيل بين مدينتي تندلتي بولاية النيل الأبيض وأم روابة في ولاية شمال كردفان وهي أكثر الأماكن خطورة، اشتم المسافرين رائحة الموت، فجثث الموتى ملقاة على جانب الطريق ورتل من السيارات محترقة وأخرى معطلة، وأصوات الرصاص تُسمع من حين لآخر لترتفع معها وتيرة الرعب في لحظات عصيبة غاب معها الأمل في حياة جديدة وكان الكل يتحسسون طريقهم نحو الموت.

بعد أن كُتب لنا النجاة وتجاوزنا المنطقة، كنا على موعد مع فصل جديد من الرعب وذلك عند دخول حافلتنا الى مناطق سيطرة قوات الدعم السريع. رأيت ملامح الخوف ارتفعت على محيا المسافرين، بينما بدأ جميعهم في إزالة بطاقات الاتصال (شرائح) عن هواتفهم ومحاولة إخفاء ما تبقى لهم من مبالغ نقدية تحت مقاعدهم وهم يستعدون الى عملية نهب وشيكة.

في أولى نقاط التفتيش الخاصة بقوات الدعم السريع في مدينة أم روابة صعد مسلح يرتدي بزة عسكرية وغطاء الرأس والوجه المعروف محلياً بـ(الكدمول) إلى البص وظل يحدق بغضب للمسافرين وقام باختيار عشوائي لبعض الركاب وأنزلهم للتفتيش بطريقة متعالية، قبل أن يطلب مبالغ نقدية من سائق المركبة نظير العبور.

لم يمض وقت طويل، وصلنا إلى البوابة الرئيسية لمدينة الأبيض من الناحية الشرقية (العبور) تم إنزال جميع الركاب من الرجال عن الحافلة وتم تفتيشهم بشكل دقيق بواسطة مسلحي قوات الدعم السريع، كان أحدهم يبعث تطمينات للمسافرين بأن لا أحد يستهدفهم وأن ما يحدث مجرد اجراء روتيني الغرض منه التأكد من عدم وجود عناصر الأمن والجيش وسط الركاب ولا يوجد سلاح على المركبة.

كان تعاطي الركاب مع تلك التطمينات متحفظاً نظراً لما يسمعونه من مخاطر على هذا الطريق فلم يخيب ظنهم السيء مطلقاً، فعلى بعد بضعة مترات من البوابة الرئيسية خرج مسلحون من خلف جبل وكثبان رملية واعترضوا طريق حافلتنا بغرض النهب، ففي بادي الأمر دخلوا في تفاوض مع السائق وطلبوا منه أن يجمع لهم الأموال من الركاب طوعا عوضا عن الصعود وأخذها عنوة، فوافق الجميع كونه خيار أفضل وقد حدث، حيث كنا أكثر حظاً من سابقينا الذين تم انزالهم ونهبهم تحت تهديد السلاح وضربهم بالسياط والعصي ومؤخرة السلاح وفق ما رواه لي احد معارفي كان من بين الضحايا.

تحيط قوات الدعم السريع بمدينة الأبيض من ثلاثة اتجاهات الشرق والغرب والجنوب وفي كل هذه المحاور يبعد تمركزها عن عمق المدينة بأقل من 4 كيلومترات.

في مدينة الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان تغيب ملامح الحياة، إذ أغلقت جميع المرافق الحكومية ومراكز الشرطة والمؤسسات القضائية والعدلية والمصارف، بينما يتمركز الجيش داخل قيادته الواقعة في الجانب الجنوبي الشرقي للمدينة و يجاورها المطار الدولي، ولم نلاحظ أي مظاهر انتشار عسكري في مركز المدينة، وتعمل الأسواق الرئيسية بحذر شديد حيث يكون أصحاب المتاجر مستعدين للهروب في أي لحظة نتيجة عمليات اقتحام يقوم بها مسلحي الدعم السريع من وقت لآخر عمق المدينة.

تحيط قوات الدعم السريع بمدينة الأبيض من ثلاثة اتجاهات الشرق والغرب والجنوب وفي كل هذه المحاور يبعد تمركزها عن عمق المدينة بأقل من 4 كيلومترات، بينما قام المواطنين بإغلاق الطرق داخل الأحياء السكنية خشية هجمات عسكرية، وتشهد المدينة انقطاع في خدمة الكهرباء لأكثر من شهرين وتواجه الاتصالات والانترنت صعوبات بالغة وسط تدهور في القطاع الصحي.

تهمة بسبب لون البشرة

من الأبيض إلى مدينة الدبيبات بولاية جنوب كردفان اشتدت الرحلة قسوة على المسافرين حيث نصب مسلحي الدعم السريع ما يقارب الـ70 نقطة تفتيش يتوجب على المركبات الوقوف عندها جميعا ودفع جبايات عبور حيث يطلب المسلحين في كل بوابة مبلغ 10 آلاف جنيه من سائق الحافلة مقابل العبور، فكان لزاما علينا الصبر لأكثر من 7 ساعات على كرسي الحافلة من أجل قطع المسافة بين هاتين المدينتين والتي تقدر بنحو 100 كلم فقط.

في كل هذه النقاط يصعد أكثر من شخص مدجج بالسلاح الى الحافلة و يتفحصون الركاب بعناية، وفي أغلب الأحيان يتم إنزال الركاب على أساس ألوان بشرتهم. وشاهدت من تم انزالهم من حافلة الركاب على أساس لونهم  ومواجهتهم بتهم عدة من قبل مسلحي قوات الدعم السريع على طول الطريق من الأبيض وحتى مدينة أبو زبد بولاية غرب كردفان.

صرخ أحد مسلحي قوات الدعم السريع في وجهي مستفسراً عن عملي أبلغته أنني تاجراً في إحدى الأسواق لأن مهنة صحفي قد تشكل تهديداً لحياتى فتعمدت إخفاءها، فخاطبني بلهجة حادة قائلاً: “نحنا عندنا حساسية من لونك دا لأنه مؤكد ينتمي للجيش أو جهاز الأمن”.

مسلحو الدعم السريع يسألوننا في كل نقطة تفتيش عما إذا كان من بيننا أحد يسكن مدينة كادوقلي او جنوب كردفان، وتبين لي لاحقا أنهم يعتقدون بأن سكان ولاية جنوب كردفان مرجح عملهم بصفوف الجيش السوداني مما يدفعهم للتدقيق بشأنهم.

لم يشكل لون البشرة تهمة عن عناصر الدعم السريع فحسب، والجيش ايضاً يدقق أفراده  مع المواطنين المسافرين، وأوقف افراد منه شاباً كان يرافقني على متن السيارة وسألوه من اسم قبيلته والولاية التي ينحدر منها.

نواصل..