أيام على سيطرة الجيش.. كيف يبدو الطريق إلى ود مدني؟  

عاين- 29 يناير 2024

في إحدى المدارس بمدينة القضارف شرقي السودان، أكمل النازح الخير الطيب عاماً تحت ظروف إنسانية قاسية بعدما أجبره انتقال الحرب إلى ود عاصمة ولاية الجزيرة على الفرار إلى هناك، وهو يتوق للعودة إلى منزله عقب تمكن الجيش من استعادة السيطرة على المدينة في 11 يناير الجاري، لكنه يخشى ما تردد بشأن مخلفات حربية تملأ شوارع وأحياء مدينته.

ولم يكن بوسع الطيب البقاء يوم واحد في مركز إيواء النازحين في القضارف نسبة لتدهور الوضع الإنساني والمعيشي فيه، لكنه آثر الانتظار قليلا، وتحمل هذه المعاناة في سبيل ضمان عودة آمنة، فهو يخاف أن يصاب أطفاله بمخلفات الحرب المنتشرة في شوارع ود مدني التي شهدت معارك ضارية بين الجيش وقوات الدعم السريع.

ويقول في مقابلة مع (عاين): “صبرت لمدة عام كامل على حياة النزوح الصعبة، لقد كنت مزارعاً اكسب مليارات الجنيهات بعد الموسم الزراعي الصيفي والشتوي، ونتصدق للبسطاء والمحتاجين، وفي لحظة فقدت كل شيء، وصرت بلا مأوى وبلا طعام، وبلا خدمات علاجية وطبية، وهي ظروف قاسية نعيشها واريد معانقة بيتي مجدداً، لكن ينبغي الانتظار قليلاً”.

شوارع المدينة مليئة بالسيارات العسكرية المحترقة وبعضها عليها صناديق من الذخائر والمقذوفات المتفجرة

شاهد عاد للمدينة

وشهدت ود مدني معارك عسكرية مؤخراً تمكن خلالها الجيش والحركات المسلحة والكتائب المتحالفة معه، من استعادة السيطرة عليها، بعد أن أكملت عاماً في يد قوات الدعم السريع، وخلال تلك المدة الزمنية تعرضت المدينة إلى تدمير في بعض المرافق الخدمية والبنى التحية الأساسية، إلى جانب نهب كامل للأسواق والمحال التجارية ومنازل المواطنين.

حرائق الحرب

وينقل شاهد وصل ود مدني لـ(عاين) أن شوارع المدينة مليئة بالسيارات العسكرية المحترقة لم تزل حتى اليوم، وبعض السيارات عليها صناديق من الذخائر والمقذوفات غير المتفجرة، كما أن الذخائر متناثرة في معظم الطرق والأحياء السكنية، فمشاهد وأثار الحرب والحرائق تملأ كل الأماكن في المدينة.

ويشير إلى عودة الاتصالات إلى مدني، لكن ما يزال التيار الكهربائي مقطوعاً ومياه الشرب غير مستقرة، إلى جانب إغلاق كامل للأسواق والمحال التجارية باستثناء بعض المتاجر والمخابز تعمل في الأحياء السكنية وشوارع في المدنية، ولن تستطيع تلبية حاجة كل السكان حالاً قرروا العودة بشكل جماعي.

ووفق الشاهد، فإن الخدمات الطبية والعلاجية متردية بعد خروج كافة المستشفيات والمراكز الطبية الخاصة في مدينة ود مدني عن الخدمة، لكن تعمل الجهات المسؤولة حالياً على إعادة بعض المؤسسات العلاجية بشكل تدريجي، كما يلاحظ عمل مماثل لنظافة المدنية من المخلفات وجثامين القتلى التي كانت متناثرة في الشوارع والأحياء السكنية.

صورة حديثة لمستشفى مهجور بمدينة ود مدني- الصورة مواقع التواصل الاجتماعي

ولاحقت الاتهامات الجيش والفصائل المسلحة المتحالفة معه باستهداف بعض المدنيين وقتلهم بتهمة التعاون مع قوات الدعم السريع، مما دفع البعض إلى تأجيل العودة إلى المدينة خشية التعرض إلى أفعال انتقامية، إلى جانب الخوف من مخلفات الحرب، لكن شهوداً أكدوا لـ(عاين) انخفاضاً كبير في حدة التوتر الأمني في المدينة مقارنة بالأيام الأولى لاجتياحها، وأن الأوضاع تمضي نحو الاستقرار.

 وكان مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا” قال إن الأحداث الأخيرة في مدينة ود مدني بولاية الجزيرة، زادت خطر التلوث الناتج عن مخلفات الحرب القابلة للانفجار والذخائر. وحث المكتب الأممي “السكان على توخي الحذر عند التواجد بالقرب من المناطق الخطرة وعدم التقاط أو لمس أي أجسام غريبة”.

كما طلبت قوات درع السودان التي يقودها القائد المنشق من قوات الدعم السريع والمتحالفة مع الجيش أبو عاقلة كيكل، من سكان مدينة ود مدني تأجيل العودة إلى منازلهم لبعض الوقت حتى تُنْظَف المدنية، وهو ما يعزز وجود آثار ومخلفات حربية كبيرة في المدينة تتطلب النظافة لضمان عودة آمنة للمواطنين إلى منازلهم.

قرار بالعودة

ومع ذلك لم يكترث غالبية السكان لهذه التحذيرات، وقرروا العودة إلى منزلهم في مدينة ود مدني هروبا من الواقع الأكثر قسوة الذي يعيشونه في مراكز إيواء النازحين في الولايات الشرقية الواقعة تحت سيطرة الجيش، والتي تنعدم فيها أبسط مقومات الحياة بما في ذلك نقص الغذاء ومياه الشرب والخدمات العلاجية.

خمسة باصات سفرية على الأقل تغادر من بورتسودان بشكل يومي إلى مدينة ود مدني

عامل في ميناء بورتسودان البري

ويقول آدم علي، وهو أحد العاملين في الميناء البري في مدينة بورتسودان لـ(عاين): إن “خمسة باصات سفرية على الأقل تغادر من بورتسودان بشكل يومي إلى مدينة ود مدني، بعض الركاب يدفعون تذاكرهم وباصات أخرى تتحرك بدفع مالي من جهات خيرية، فمعظم النازحين يرغبون في العودة إلى منازلهم، حتى الذين لم يقيموا في مراكز الإيواء.

وشدد أن عودة مواطني ود مدني خففت قليل من الاكتظاظ السكاني في بورتسودان مقارنة بالسابق، وبدأت أسعار إيجار العقارات السكنية في التراجع، وسيحدث ذلك أثر كبير على الملاك، بينما انتعشت حركة السفر في الميناء البري بالباصات السفرية.

ومن مدينة كسلا حزمت كوثر عبد الرحيم حقائبها وهي في طريقها إلى العودة إلى منزلها في مدينة ود مدني، والذي فارقته لمدة تزيد عن العام قليلاً، وهي تنتظر فقط بعض الأموال من أحد أقاربها في الخارج، حتى تتمكن من دفع أجرة الباص السفري.

وتقول في حديثها لـ(عاين):”سأعود إلى منزلي في مدينة ود مدني، فمهما كان الوضع هناك لن يكون أسوأ من الواقع القاسي الذي نعيشه في مخيم النزوح بكسلا، لقد عشنا عاما من الجحيم والمآسي المختلفة من أمراض وجوع، وغياب للرعاية الصحية، كانت حياتنا شبه متوقفة طوال هذه المدة، لذلك علينا مغادرة هذا الوضع طالما توفر الأمن والاستقرار في منطقتنا”.

مخاطر محدودة

وعاشت ولاية الجزيرة أواسط السودان تحت وطأة عنف وانتهاكات بشعة مارسها مسلحو قوات الدعم السريع بحق السكان العالقين في القرى والمناطق الزراعية مع أعمال نهب واسع للممتلكات الخاصة بالمواطنين، وشهدت مجازر في حق المدنيين أبرزها مجزرة ود النورة التي قتل جنود الدعم السريع خلالها أكثر من 130 مواطنا، بالإضافة إلى مجزرتي السريحة وتمبول في شرق الجزيرة.

وربما يتمكن سكان عاصمة ولاية الجزيرة ود مدني من العودة التدريجية إلى منازلهم، لكن ستستمر محنة آلاف المواطنين الذين فروا من قرى شرق وشمال ووسط ولاية الجزيرة إلى الولايات الشرقية، مع عناء النزوح بسبب سيطرة قوات الدعم السريع على مناطقهم.

ويقول الخبير العسكري الفريق خليل محمد الصادق إن البنية التحية الأساسية في مدينة ود مدني لم تتأثر كثيراً بالمعارك مقارنة بما حدث في العاصمة الخرطوم، وجرى من آثار محدودة قابلة للإصلاح خلال فترة وجيزة خاصة محطات الكهرباء وشبكة الربط وشبكات الاتصالات التي عادت بالفعل والمرافق الطبية التي يسير العمل فيها لإعادة تشغيلها، كذلك الأسواق الرئيسية طالها النهب، لكن المباني موجودة، وتأثرت بشكل محدود.

وشدد الصادق خلال مقابلة مع (عاين) أن مخلفات الحرب موجودة في ود مدني مثل الذخائر والمقذوفات غير المنفجرة، وهي ليست بالخطر الذي يمنع عودة المواطنين؛ لأنه مقدور السيطرة عليها، مع ضرورة أخذ الحذر والحيطة في كل الأحوال، لكن المهم في الأمر أن الفرق المختصة تقوم بجهود كبيرة لإزالة هذه المخلفات وإعادة الخدمات الأساسية.

عمليات نهب واسعة طالت اسواق المدينة- الصورة مواقع التواصل الاجتماعي

ويضيف “عودة المواطنين إلى منازلهم في ود مدني ستسهل عملية التخلص من مخلفات الحرب، لأنهم سينتشرون بشكل أوسع في الأحياء السكنية، ويساعدون السلطات المختصة بالإبلاغ عن الأجسام الغريبة وغير المنفجرة، والذخائر ومن ثم التخلص منها بطريقة آمنة وتعود الحياة بشكلها الطبيعي إلى المدينة تدريجياً”.

ويشير إلى أن الظروف المعيشية السيئة للنازحين في مراكز الإيواء داخل السودان وحتى اللاجئين خارج البلاد، ستدفعهم إلى العودة إلى منازلهم بغرض التخلص من أعباء كثيرة، وقد بدأت العودة من دولة مصر والولايات السودانية الشرقية مثل بورتسودان وكسلا والقضارف بكثافة إلى ديارهم في ود مدني.

كسب سياسي

لكن المحلل السياسي صلاح حسن جمعة يعارض بشدة عودة المواطنين إلى منازلهم في مدينة ود مدني في الوقت الراهن نسبة إلى غياب الخدمات الأساسية والآثار البيئية والمخلفات الضارة للحرب، متهماً الجيش بالسعي إلى عودة السكان إلى مدينة ود مدني بغرض تحقيق مكاسب سياسية دون أدنى اعتبارات لسلامتهم الشخصية.

ويقول جمعة في مقابلة مع (عاين) إن العديد من المنظمات الدولية والأممية حذرت من مخاطر مخلفات الحرب في مدينة ود مدني، وينبغي أن يعود المواطن النازح إلى منزله بعد نظافة المدينة، وما يسعى له الجيش توجه خاطئ وعليه تحمل المسؤولية كاملة حال أصيب السكان العائدون إلى المدينة بأي مكروه.

ويرى أن ما شهدته مدينة ود مدني من انتهاكات بحق المواطنين بعد استعادتها بواسطة الجيش، وما شهدته من خطاب كراهية وتخوين، يتطلب عمل كبيراً لمعالجته؛ لأنه أحدث آثار اجتماعية كبيرة، وربما يواجه بعض السكان العائدين سلوكاً انتقامي، أو الاشتباك مع السكان الذين كانوا عالقين خلال فترة سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة، مما يتطلب عملاً كبيراً لضمان عودة امنة لجميع السكان بلا استثناء.