“أحداث النيل الأزرق”.. ضالعون بأجندة سياسية 

22 يناير 2023

“هجموا علينا صباحاً داخل قريتنا، لم نجد طريقاً للهرب. كانوا يحملون الأسلحة الرشاشة والسواطير، وأشعلوا النيران في منازلنا.. بعض المعتدين تم احضارهم بسيارات إلى  المنطقة وهم ليسوا نظراء في الصراع”. تتذكر- سميرة زكريا- بعد أشهر من عمليات اقتتال أهلي دامٍ شهدته ولاية النيل الأزرق جنوب شرقي السودان.   

 تسترجع “سميرة” التي تحولت إلى نازحة مع عائلتها، سنوات من الوئام والعيش المشترك قبل أن يطالهم القتل والتشريد. وتقول لـ(عاين) من مخيم متواضع يجمعها مع مئات النازحين بولاية سنار المجاورة لولاية النيل الأزرق “أصبحنا الآن نازحين نعتمد على الإغاثة”. لا تعرف النازحة عائشة مصطفى هي الأخرى، سبب الإقتتال، وتقول “ما حدث أن الهجوم تم علينا ليلاً، قتلوا جيراننا واضطررنا للهرب إلى مدينة الدمازين ومن ثم إلى مدينة سنار… نريد العودة لمنازلنا”.

وانفجرت أحداث العنف قبل 5 أشهر في يوليو من العام الماضي، وعرفت المكونات الأهلية  المتصارعة في النيل الأزرق التعايش منذ عشرات السنين، ما يشير إلى وجود أياد خلف اندلاع الصراع والاستفادة من زعزعة الأمن لخدمة أجندة سياسية- وفق لما يقول سكان محليون.

"أحداث النيل الأزرق".. ضالعون بأجندة سياسية

بدأت الأحداث بشكل جماهيري بعد احتقان استمر لأكثر من عام وتوترات داخلية بين مكونات السلطة الزرقاء وقبيلة الهوسا بسبب طلب الأخيرة لحق الأمارة في الولاية، ووصل الصراع الى اشتباك بين القبيلتين ليخلف قرابة الألف قتيل وأكثر ألف جريح من الطرفين حسب تقارير منظمات عالمية، لتصبح ولاية النيل الأزرق صاحبة النسبة الأعلى في النزوح في العام 2022 بوجود أكثر من 127 ألف نازح وفقا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.

بينما تحصي إدارة الصحة بولاية النيل الأزرق 443 قتيلاً، بينما وصل عدد الجرحى إلى 678 مصاب وتم تحويل 100 حالة إلى مستشفيات خارج الولاية، بينما وصل عدد النازحين إلى 67 ألف شخص- أحدث احصائية رسمية.

ويقول مدير الصحة بالولاية، د. فتح الرحمن بخيت، لـ(عاين)، إن الإحصائيات الرسمية ليست كاملة نسبة لعدم التبليغ بالنسبة لكل الحالات. وكشف أن الإصابات إلى وردت إلى مستشفيات الولاية توزعت نوعيتها بين إصابات بالأسلحة النارية الخفيفة والأسلحة البيضاء مع نسبة ضئيلة للإصابات جراء الأسلحة المتوسطة والثقيلة.

بعد مرور أشهر على القتال العنيف، مظاهر التوتر العالية ما زالت بادية على المنطقة التي تجوّل بها مراسل (عاين) لأيام، فـ الوجوم يخيم على المدن والبلدات التي شهدت عمليات العنف وما خلفه الصراع من دمار واسع في المنازل والممتلكات.

أثر القتال والدمار والحرائق منطقة قنيص شرق الواقعة غرب مدينة الروصيرص، تدمير لمئات المنازل وتشريد أهاليها، وصورت كاميرا عاين، آثار الاقتتال وآلاف النازحين من الطرفين. كما تشهد مدينة الدمازين توترا عاليا ووجوما يخيم على المدينة، حركة الناس في الأسواق والشوارع بدت حذرة، ما يشير إلى انعدام عنصر الأمن الذي كانت تتمتع به مدينة الدمازين، وسط انتشار عسكري مكثف للمحافظة على وقف القتال القبلي وإيقاف وقوع المزيد من الخسائر في الأرواح والممتلكات.

"أحداث النيل الأزرق".. ضالعون بأجندة سياسية
أعداد النازحين حسب مصفوفة تتبع النزوح التابعة لمنظمة الهجرة الدولية بولاية النيل الازرق حسب التحديث التاسع في الفترة من 20 يوليو حتى 17 نوفمبر 2022م

نزوح

الآلاف من ضحايا الصراع من مواطني النيل الأزرق يعيشون حتى الآن في معسكرات متفرقة بمناطق مختلفة من الإقليم ومدن مجاورة، في ظروف حياتية صعبة تفتقد لأبسط مقومات الحياة، خاصة في ظل وجود مئات الجرحى وسط النازحين يحتاجون للرعاية الطبية المستمرة- بحسب ما رصد مراسل (عاين) الذي تجول في عدد من المخيمات.

 وتتركز أغلب تلك المعسكرات في مدارس أساس وثانوي في مناطق قنيص والدمازين ومدارس المدن السكنية، بينما نزح عدد آخر إلى مدن في ولايات مجاورة منها سنار وسنجة وربك والقرى القريبة منها.

ويعتمد النازحون على الإغاثات التي تأتي متقطعة من بعض المنظمات مثل أنقذوا الأطفال وأطباء لا بحدود واليونيسيف وغيرها مع وجود دعم محدود أيضا من وزارة الرعاية الاجتماعية بالإقليم. ويشتكي سكان المعسكرات من أن أغلب الإغاثات التي تأتي من منظمات عالمية تكون محكومة بأجل وتنتهي بفترة محدودة لتخلف وراءها نقص حاد في الغذاء والدواء والرعاية.

وتقول مسؤولة الرعاية الاجتماعية بأحد معسكرات النازحين، حسنى عبد القادر ، إن النازحين الآن في حاجة إلى ملابس الشتاء من البطاطين والنواميس وغيرها، بالإضافة للإعانات من المواد الغذائية بجانب الأدوية الخاصة بالأمراض المزمنة.

 وأضافت عبد القادر لـ(عاين)، أن المنظمات المساهمة كثيرة إلا أن عدد النازحين أكبر ويحتاج لعدد أكثر من منظمات الإغاثة قبل أن تناشد جميع المنظمات والمبادرات الخيرية بضرورة وصول تلك المساهمات للتقليل من معاناة النازحين. 

“أحداث النيل الأزرق”.. ضالعون بأجندة سياسية

 

صراع سياسي

 على الرغم من تصدير الصراع في الإقليم على أساس قبلي، إلا أن متابعات (عاين) تكشف وجود صراع سياسي خفي قاد المكونات الإجتماعية إلى الاقتتال. يُحمل مواطنون في الاقليم الأجهزة الأمنية مسؤولية الاحداث لجهة تأخرها وتقاعسها في التدخل الأمني بعد تكرار حوادث العنف بالمدينة ووقوع آلاف الضحايا، حيث أدخل الجيش تعزيزات عسكرية بعد شهرين في نهاية أكتوبر الماضي لحفظ الأمن دون حلول جذرية.

ويثير الاستخدام غير المألوف والكثيف للأسلحة النارية في الأحداث الأخيرة بمدينة الدمازين والمدن والقرى القريبة منها أسئلة السكان في الإقليم عن مصدر هذه الأسلحة وإذا ما كانت هنالك جهات سياسية نافذة تمول قادة النزاع بين المجموعتين الأهليتين.

ويحكي النازح صلاح الدين إدريس، وهو قيادي أهلي -وكيل شياخة مدينة كرمة-، إحدى المدن السكنية المتضررة من الاشتباك الأهلي، عن التسامح والتعايش السلمي الذي كان يحظى به المواطنون قبل الأحداث، ويقول لـ(عاين)، “الحياة كانت تتسم بالتشارك في التجارة والزراعة والهدوء والسلام”.

لم يتوان إدريس في اتهام حكومة إقليم النيل الأزرق بالضلوع في إشعال الأحداث رغم الوصول لهدنة في البداية، ويضيف: “حكومة الإقليم التابعة للحركة الشعبية بقيادة مالك عقار، بدأت في التجنيد على أساس قبلي من طرف واحد وإمداد السلاح للاستفادة من الغالبية في الصراع السياسي والمعركة الانتخابية القادمة”.

وقطع إدريس، بأن المشكلة القائمة “مصطنعة ولها جذور سياسية وأن المشاكل القبلية دائما قابلة للحل بين الأطراف، ولكن الصراع الدائر الآن تديره وتحركه أطراف خارج أرض الواقع”. اتهام الحركة الشعبية بقيادة مالك عقار بالتورط في الأحداث، ينفيه أمينها العام في ولاية النيل الأزرق، الشيخ الدود. ويتهم هو الآخر الأجهزة الحكومية بالتقاعس عن تنفيذ توجيهات حاكم الإقليم التابع للحركة الشعبية.

ويقول الشيخ لـ(عاين):” السلاح بالتأكيد يتم توفيره من الأجهزة الحكومية”. ويتابع ردا على اتهامهم بتسليح احد اطراف القتال: ” نحن لم نضمن حتى الآن تنفيذ اتفاق جوبا فكيف يمكننا تسليم سلاحنا لجهات لا علاقة لها بالجيش الشعبي؟”.

وفي سياق تقاعس القوات الأمنية، كشف تصريح سابق لمحافظ محلية ود الماحي، عبد العزيز الأمين، أن القوات الأمنية التي كانت متواجدة بالمحلية تم سحبها قبل اندلاع الأحداث بوقت قليل، وقال إن سحب قوات الاحتياطي تم بطلب من حاكم الإقليم بغرض استبدالها بقوة أخرى الأمر الذي لم يحدث، وأكد أن العملية تمت مباشرة وبدون التشاور مع إدارة المحافظة.

“أحداث النيل الأزرق”.. ضالعون بأجندة سياسية

تحريض واتهامات

ولفتت الإدارة الأهلية للمكونات الاجتماعية في النيل الأزرق، الأنظار في الفترة الماضية والاتهامات المتواصلة لها في تأجيج الصراع بدلا عن تهدئته، حيث تداول ناشطون خطابات لكل زعماء الإدارة الأهلية بغرض التحريض على الإقتتال.

بعد شهر  من الأحداث، قادت بادرت قوات الدعم السريع  للوساطة وتجميد الصراع القبلي، وتوصلت إلى كتابة وثيقة هدنة لوقف العدائيات تمهيدا لقيام مؤتمر صلح في ديسمبر الفائت، غير أنها لم تصمد سريعا قبل حدوث خرق للهدنة بأحداث ود الماحي التي راح ضحيتها قتلى من المواطنين ونزوح الآلاف، وسط اتهامات مدنية للجهات العسكرية بالضلوع في إشعال الصراع مجدداً.

في الخامس عشر من يناير الجاري، وقعت المكونات المتصارعة في الإقليم، وثيقة اتفاق إطاري للصلح والتعايش السلمي بحضور  قائد الجيش عبد الفتاح البرهان الذي تعهد بـ”التعامل الحاسم وحراسة الاتفاق بالسلاح“.

"أحداث النيل الأزرق".. ضالعون بأجندة سياسية
النازحون من ولاية النيل الإزرق إلى مدن أخرى جراء الاقتتال الاهلي بحسب منظمة الهجرة الدولية.

ونص الاتفاق على احترام الموروثات الثقافية والتاريخية للمكونات والالتزام  بالحواكير ومرجعيتها التاريخية لشعب النيل الازرق، وقال البرهان خلال مخاطبته حفل توقيع الاتفاق من مدينة الدمازين: “الاتفاق خطوة أولى تحتاج للاستكمال وإن جهود اللجنة العسكرية ومجلس السلم والمصالحات ستستمر وصولاً إلى اتفاق نهائي يعالج جميع الاشكاليات”.

ووسط آمال العودة الطوعية للمُهجرين واستعادة روح التعايش والتسامح القبلي بين المكونات الأهلية بالولاية، يظل مواطن النيل الأزرق هو الضحية الأولى للأجندة السياسية وتوظيف الإدارة الأهلية في خدمتها في خضم تبادل الاتهامات بين الأطراف.