مراسلة لـ(عاين) تروي مشاهد رحلات خطيرة على “درب الأربعين”

عاين- 27 أغسطس 2024

لم تترك نيران الحرب الضارية بين الجيش وقوات الدعم السريع طريقا سالكا بين مدن السوداني المختلفة، فانعدمت المسارات المؤدية من غرب البلاد إلى شرقها وشمالها، فلم يجد السودانيون خيارا غير سلك طرق صحراوية وعرة في مغامرات مستمرة من أجل النجاة، ونقل المواد الغذائية، رغم ما ينطوي عليها من مخاطر واسعة.

ونتيجة للقيود التي تفرضها قوات الدعم السريع على الطرق المسفلتة وانتشار أعمال النهب والابتزاز، اضطر المواطنون في غرب البلاد إلى الهروب بعيدا وسلك طريق صحراوي يعرف شعبيا بــ(درب الأربعين) من إقليمي كردفان ودارفور والمرور عبر منطقة المزروب وغرب بارا وولاية شمال كردفان، ومنها إلى مدينة الدبة بالولاية الشمالية، في رحلات قاسية عايشتها مراسلة لـ(عاين) ووثقت مشاهدها.

تبدأ الرحلات من الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور؛ من ثم المزروب بولاية شمال كردفان، وبعدها سلك طرق يمر عبر دار الكبابيش وصولا إلى غرب مدينة بارا، ومنها إلى منطقة الدبة بالولاية الشمالية التي تضم ملتقى للطرق المسفلتة، والتي تؤدي إلى ولاية نهر النيل وشرق السودان، وشمالا إلى دنقلا، وإلى وادي حلفا وصولا إلى دولة مصر.

مسافرون

بينما تنطلق الرحلات العكسية للراغبين في السفر إلى إقليمي دارفور وكردفان من منطقة الدبة في الولاية الشمالية التي تحولت بعد الحرب الحالية، إلى مركز تجاري ضخم ومنطقة تجميع للبضائع والشاحنات، وتكتظ بالمسافرين، مع وجود عدد كبير من مكاتب الترحيلات والمتعهدين بتسيير الرحلات السفرية لمختلف المناطق في غرب البلاد، وتوفر عدة خيارات في السيارات، فلكل سعره.

رعب البداية

المسافرون إلى غرب البلاد من مدينة الدبة يستفسرون السائق الذي سيقلهم بعربته عن ملامح الطريق والمخاطر المحتملة. يبدو الوضع بالنسبة للسائق ويدعى محمد، عادياً وهو يخبرنا عن المسار الذي نحن بصدد سلكه، فقد صرنا على موعد مع بدء رحلة عبر طريق ترابي على طبيعة صحراوية من الدبة، إلى فيافي وأراضي شاسعة بولاية شمال كردفان، مروراً إلى دارفور غربي البلاد.

في الميناء البري السفري في مدينة الدبة تتمركز العديد من مكاتب الترحيلات وسيارات متنوعة وأسعار متفاوتة، حسب المنطقة ونوع المركبة، إذ يتراوح سعر تذكرة الراكب الواحد المتجه إلى دارفور مقعد داخل السيارة بين 150 – 250 ألف جنيه، أما قيمة تذكرة الراكب خارج السيارة “صندوق” تبلغ 100 ألف جنيه سوداني، وربما تزيد هذه المبالغ حال تدخل السماسرة، وبحسب حجم الأمتعة الخاصة بالمسافر.

يطمئن السائق محمد، الركاب ويقول إنه على دراية تامة بهذا الطريق؛ لأنه كان يسافر عبره منذ صغره مع أجداده، فهو مسار قديم للغاية، وفي الغالب يسلكه المهربون حتى يكونوا بعيدا عن أعين القوات العسكرية والسلطات الرسمية، لكن ظروف الحرب الحالية جعلت المواطنين يهربون عبره في سبيل سلامتهم والحفاظ على ممتلكاتهم، نظرا لانتشار عصابات النهب تحت تهديد السلاح في الطرق المسفلتة، بجانب وجود ارتكازات لقوات الدعم السريع ومجموعات قبلية تفرض جبايات طائلة على السيارات السفرية.

ويشرح السائق ملامح الطريق والمخاطر المحتملة، لكن لحسن الحظ يقول إنه “يملك الخبرة الكافية التي تجعله يتجنب الخطر بسلك مسارات بديلة، فهناك طريق يتجه من الدبة إلى أم سيالة في ولاية شمال كردفان، ومنها إلى الدويم في ولاية النيل الأبيض، وآخر يذهب إلى مدينة بارا، ومنها إلى المزروب والنهود وغبيش، وصولا إلى إقليم دارفور”.

لم تكن تطمينات السائق مقنعة للمسافرين، بينما كانت وتيرة الخوف ترتفع توجهنا من الدبة إلى مدينة بارا بولاية شمال كردفان، بينما كانت سيارتنا تكمل الإجراءات الرسمية لدى الشرطة والأجهزة النظامية توطئة لبدء الرحلة، هطلت الأمطار لمدة ثلاث ساعات متواصلة؛ مما اضطر السائق لتأجيل التحرك إلى اليوم التالي، فقضينا ليليتنا في الميناء السفري، وسط أمواج البرد والرطوبة.

في اليوم التالي تحركت سيارتنا وهي ماركة “لاند كروزر تايوتا”، وعلى متنها 14 راكباً، وبعد مسافة من الدبة وقعت على أنظارنا كثبان رملية مبللة بالسيول، وفي بعض الأحيان تربة لزجة وجد سائقنا صعوبات كبيرة في تجاوزها، ولحظتها استشعرنا خطر الرحلة، وأننا نمضي إلى المجهول، وعلى جنبات الطريق نشاهد المركبات الصغيرة وشاحنات البضائع وهي عالقة وسط المياه والطين.

خطر الجوع

بعد سير نحو 8 ساعات، وعلى بعد 30 كيلومتراً من منطقة المحبس على تخوم ولاية شمال كردفان، اصطدمنا بوديان كبيرة مليئة بالمياه، هنا تجري اختبارات أولية لقياس عمق المياه ومستوى لزوجة التربة للتعرف على إمكانية عبورها، ولم تفلح المحاولات الأولية في عبورنا، ووحلنا في تلك الوديان، وظللت حتى حل الظلام ومن ثم المبيت، قد داهمنا الجوع والعطش؛ إذ إن المياه الراكدة ملوثة وغير صالحة للشرب.

علق ركاب 7 سيارات في وادي مطير، وظلت أجساد المواطنين نهبا لطقس بارد وأرض ذات رطوبة عالية ومبللة بالمياه، وسط انتشار العقارب والثعابين

حل الظلام ونفدت المياه، وكان ركاب عدد 7 سيارات عالقة في هذا الوادي، وظلت أجساد المواطنين نهبا لطقس بارد وأرض ذات رطوبة عالية ومبللة بالمياه، وسط انتشار العقارب والثعابين، وحشرات مختلفة، بينما تملك الجوع الجميع، كانت سيدة تتقاسم كميات محدودة من التمور كانت في حقيبتها، مع إخوتها المسافرين في مشهد تكافلي مهيب.

ومع تطاول ساعات البقاء وسط الوحل في تلك الوديان ونفاد الأكل والشرب، ظننا أننا سوف نموت عطشاً، حيث لا يمكن للمياه الراكدة إنقاذ حياتنا، فهي ملوثة وربما تكون سببا في الوفاة، لكن العناية الإلهية أنقذتنا في اليوم التالي، ووصلنا إلى منطقة المحبس، وهي مركز كبير يضم سوقا واستراحات، وأكلاً ومشرباً بطبيعة الحال، إلى جانب محطات للإنترنت الفضائي “أستار لنك”.

في تلك المنطقة شربنا وتناولنا الطعام، وتمكنا من التواصل مع عائلاتنا وطمأنتها، ومعها عاد جزء من الأمل المفقود في النجاة والحياة. وبعد أن التقطنا أنفاسنا واصلنا الرحلة، ودخلنا منطقة دار الكبابيش في ولاية شمال كردفان، وعندها اصطدمنا بعدد مهول من نقاط التفتيش أقامها أبناء تلك المنطقة وهم مدججون بالأسلحة بعضهم صغار في السن، يطالبون المركبات بدفع مبالغ مالية نظير العبور.

عند نقطة تفتيش قرر سائق سيارتنا العبور مسرعا وعدم التوقف، لكن المسلحين أطلقوا علينا الرصاص الحي

عند الارتكاز الأول قرر سائق سيارتنا العبور مسرعا وعدم التوقف، فأطلقوا علينا الرصاص الحي، وكدنا أن نفقد حياتنا، لكن السائق امتثل لهم في الارتكاز الثاني، وطلبوا منه دفع مبلغ 50 ألف جنيه للعبور، وكانوا يحتجزون إلى جانبنا 4 مركبات أخرى، وبعد مفاوضات طويلة وافقوا على إطلاق سراحنا مقابل 10 آلاف جنيه، وبعدها لجأ السائق إلى طرق أكثر وعورة تجنبا لهذه النقاط الجبائية.

تستمر الأمطار في الهطول، ويزداد الطريق سواء، بينما نحاول نحن التكيف مع مبيت العراء، وفي ليلتنا الرابعة وصلنا منطقة الجمامة وهي بعد دار الكبابيش، ومنها إلى بلدة الكوكيتي، وأخيرا الوصول إلى بارا بعد سير 4 أيام بطرق طينية لزجة ووحل، شاهدنا خلالها شتى ضروب المعاناة، والخوف والرعب.

طريق النجاة

“درب الأربعين” – الطريق الصحراوي، رغم مخاطره يمثل المسار الوحيد للراغبين في الهروب من نيران الحرب المحتدم في دارفور، فمن تكتب لهم النجاة من الرصاص والمدافع، عليهم تحمل رحلة قاسية تستغرق أسبوعاً، وربما شهور نتيجة الواقع الجديد الذي فرضته كارثة السيول والأمطار، ولا تخلو هذه المغامرة بدورها من تهديدات واسعة ربما تكلف الحياة.

“التومة” وهي واحد من سيدات ولاية شمال دارفور التقيتها في إحدى نقاط الطريق، بعدما اضطرت للدخول في مغامرة السفر الصحراوي، هربا من جحيم الحرب في مدينة الفاشر، حيث توفيت ابنتها المصابة بمرض السكري نتيجة تعاطيها دواء الأنسولين منتهي الصلاحية، فلم يكن أمامها حيلة سوى المغامرة مع والدتها وابنتها الأخرى الوحيدة المتبقية لها.

بدأت رحلة التومة من الفاشر إلى مدنية غبيش بولاية غرب كردفان، وقد استغرقت 5 أيام في قطع هذه المسافة، وقضت يومين آخرين للوصول إلى منطقة أم كريدم بولاية شمال كردفان، ومنها توجهوا إلى مدينة الدبة، لكن ظلوا عالقين على الطريق 10 أيام نتيجة وعورة الطريق إثر السيول ووحل مستمر للسيارة التي يستغلونها، ومنذ أن تركتها ربما لا تزال تكافح في سبيل الوصول إلى الدبة، والتي تنوي بعدها السفر إلى مصر.

كانت والدة التومة كبيرة السن، وتعاني بعض الأمراض تصدر آهات الألم مع تطاول أمد الرحلة ووعورة الطريق، بينما تستمر الأمطار في الهطول، والسيول تجري من تحتهم، بينما أنفقت ما يزيد عن مليون ونصف جنيه سوداني، ولم تصل إلى وجهتها حتى الآن، وهو واقع ينسحب على آلاف السودانيين عالقين في قلب المآسي على طريق الصحراء الدبة – دارفور، بعدما سلكوه في رحلات قسرية.