السودان.. توسيع تعذيب المعتقلات لقمع التظاهرات
تقرير: عاين 16 مارس 2019م
بات التعذيب المميت داخل المعتقلات وضرب المتظاهرين والمتظاهرات أحد الاساليب الممنهجة التي تستخدمها الأجهزة الأمنية السودانية لارعاب المعارضين وقمع الانتفاضة السودانية المستمرة لأكثر من ثلاثة أشهر. تصاعد حالة العنف مع تمدد الثورة واستمرارها، كما فاقم من حجم الانتهاكات فرض قوانين الطوارئ التي أعلنها رأس النظام منذ 22 من فبراير الماضي وتبيح للشرطة والأجهزة الامنية ممارسة الاقتحام والتفتيش والمراقبة وغيرها من الانتهاكات وتوفر لهم الحماية القانونية وفقا لقوانين الطوارئ.
تحصلت شبكة (عاين) علي مشاهدات وتجارب شخصية للعديد من النماذج والشخصيات الذين تم الاعتداء عليهم ضربا وتعذيبا في لحظات القبض أو عقب اعتقالهم داخل الزنازين.
صعق بالكهرباء
تقول المعتقلة المفرج عنها وفاق قرشي أنها كانت في مشوار عادي لمحل تجاري في منطقة الرياض بالخرطوم، وقبل خروجها من منزلها تشير وفاق الى انها اجرت احتياطاتها الامنية الكاملة بتغيير هاتفها ومسح كل مكالمات مواقع التواصل الاجتماعي مع رفقائها السياسيين واصدقائها الثوار لجهة أنها فاعلة في حراك الشارع السوداني وتنتمى الى تنظيم طلابي سياسي معارض وكل عناصره هدف للاجهزة الامنية. وتقول “هناك اتصلت شقيقتي وصديقة ثانية، وهما ايضا تنتميان لنفس التنظيم واحدة منهما كانت معتقلة لمدة 15 يوما وهاتفها كان بحوزة الأمن.
وتزيد قرشي اللحظة التي استعددت فيها للخروج من المحل التجاري بعد أن لم اجد ما اريده فيه، فتح باب المحل علينا أربعة أشخاص الأول يحمل عصا كهربية والثاني يحمل جهاز مربع صغير في يده لم تحدد بالضبط ماهي مهمته فطلب مني احدهم بعد ان نادني باسمي مرافقتهم” . وتابعت “سالت انتو منو.. رد أحدهم انتي بتعرفيني كويس”.
وتشير الى حدوث جلبة بيننا ورجال الأمن داخل المحل، قبل أن تبدأ عمليات اقتياد قسرية الى العربة المرتكزة بالخارج وسط رفض من شقيقتي وصديقتها بأن أخرج معهم، لحظتها قلت لاحدهم “لو المسالة دي بقت ضرب وجرجرة من الملابس احسن نتضارب عديل لانو مافي داعي للهبيش دا”.
وتروى وسط هذه المشادة الكلامية والعراك دخل اثنين اضافيين من رجال الأمن واخذوا في سحبنا بالقوة إلى خارج المحل، حينها أنا سقطت على الأرض وشقيتي من فوقي وأخذوا في صعقنا بالعصا الكهربية مع ركل بالارجل ونحن على الارض وعلى هذه الحالة جرونا على مدرج المحل مع ضرب وصعق بالكهرباء ورفعونا نحن الاثنين الى العربة بعملية مهينة لدرجة انني توقعت كسر سلسلتي الفقرية لجهة أن شقيقتي من فوقي ورفعونا بعد أن أمسكوا بنا من الرجلين واليدين على طريقة المرجيحة، هذا الى جانب عملية دفع قوية على حافة العربة التاتشر .
تعذيب بالبرد
تحركت السيارة التي نحن عليها الى جانب بوكس وعربة صالون بسرعة جنونية من منطقة الرياض الى معتقلات جهاز الامن بموقف شندي في الخرطوم بحري، وهناك تم تحويلي الى دائرة الأمن السياسي قطاع الطلاب، وبدأت سلسلة تحقيقات طويلة كان الغرض منها بالنسبة لانهاك واستمرت هذه التحقيقات حتى وقت متاخر من المساء قبل أن يتم تحويلي الى زنزانة في مبنى مجاور معروف بـ(الثلاجات)، وكانت الزنزانة عبارة عن غرفة صغيرة باردة جدا، وبعد ان أمرتني السجانة بالدخول إليها أتت بقطعة كرتونة وطلبت مني الاستلقاء عليها في درجة برودة عالية الأمر الذي لم يمكننى من النوم طوال الليل. وتزيد: “في زنزانة مجاورة كنت اسمع بوضوح صياح معتقلات أخريات وشكواهم من البرد ومطالبتهم المستمرة بإغلاق مكيف الهواء الموجود في الزنزانة وطلباتهن لاغطية، واتذكر ان احدى المعتقلات أصيبت بنوبة برد نقلوها إلى خارج الزنزانة ولا اعلم ان تم نقلها للمستشفى ام لا”.
على مدى ثلاثة أيام تستمر صباح ومساء عملية التحقيقات الطويلة، وتبادل ضباط الأمن الأدوار في الاساءة احيانا والتعامل بلطف في أحيان أخرى. عدد كبير من الضباط الذين حققوا معي أساءوا بشكل مباشر إليّ وشقيقاتي وفي كل مرة نوصف باننا “بنات قليلات ادب”.
وتشير الى انها وبعد قضاء ثلاثة أيام بـ (التلاجات) تم نقلها الى سجن النساء في ام درمان، وقالت “علمت هناك أنه ونحو 40 سجينة سياسية قضين ما يقارب السبعة أيام تحت الشمس وان العريشة التي انضميت للاقامة بها معهن تم تشييدها على رؤوسهن وهن معتقلات.
حفلة الجلد
لحظة القبض علي “شيخ الدين السر” في ضاحية بري بالخرطوم كانت أكثر عنفا من “ف،ق” ويقول السر الذي أفرج عنه لاحقا، في حديث لـ(عاين) أنه جرى اعتقاله بعد مطاردة عنيفة في احدى شوارع منطقة بري.
ويزيد ” لحظة الاعتقال انهال عليّه عدد كبير من القوات الامنية ضربا بالعصي والهروات في أجزاء متفرقة من جسدي. كنت وقتها أتفادى الضرب عبر اليدين لاي لكمة او جلدة سوط في مدى نظرك، لكن تأتيك السياط من الخلف ومن أماكن لا تتوقعها بالنظر الى العدد الكبير من رجال الأمن الذين يقومون بعملية التعذيب.
ويضيف السر، “في خضم ذلك كنت حريصا على اطاعة اوامره حتى يتوقف الضرب وكانت كل امنيتي ان اصل الى سيارة الاعتقال، لكن هناك ايضا تواصلت العملية، وأدخلوني الى حافلة نصف نقل بها عدد كبير من المعتقلين والمعتقلات يجري ضربهم وشتمهم طوال المسافة من منطقة بري الى مقر أمني بالعمارات”. ويمضي السر في سرده مؤكدا “هناك ايضا استلمنا أفراد آخرون وبدأوا ايضا في عملية الضرب قبل أن يتوقف الامر في المساء عندما بدأوا عمليات التحقيق وبعدها نقلونا إلى موقف شندي المكتظ بالمعتقلين وقتها وآخرون يجرى ضربهم في ساحة داخل المبنى ويجلس معتقلون تحت الشمس في نفس الساحة على الأرض.
تعذيب حتى الموت
اكثر عمليات التعذيب التي كانت صادمة للسودانيين هي التي جرت في منطقة خشم القربة بولاية كسلا، وما تبعها اغتيال المعلم بالمدارس الاساسية احمد الخير تحت التعذيب. وبعد مظاهرات منددة لزيارة الرئيس البشير لولاية كسلا أوائل فبراير الماضي شنت الأجهزة الأمنية في المنطقة حملات اعتقالات ومداهمات واسعة على منازل النشطاء السياسيين، واعتقلت تسعة منهم واقتيادهم الى مقر امني في البلدة وتبادل أفراد القوات الامنية في المقر عمليات الضرب بالعصي واللكم بالأيدي على جميع اجزاء جسم المعتقلين وفق شهادة احد المعتقلين لـ(عاين).
ويشير أحد الشهود الذين تم تعذيبهم إلى أن عملية التعذيب استمرت حتى وقت متأخر من الليل قبل أن يودعونا زنزانة صغيرة بعد أن تمكن منه الإعياء وبدأ يظهر على جميعنا تورم في الوجه والرأس وأجزاء متفرقة من الجسم. وعند ظهيرة اليوم التالي، حضرت قوة قوامها نحو 35 فردا من قوات الأمن على ظهر 4 سيارات صغيرة مكشوفة “لاندكروزر” ودخلت على الباحة الرئيسية للمبنى ومن ثم نده علينا بواسطة أفراد القوة التي اعتقلتها وعذبتنا طوال الليلة السابقة.
ويضيف “اخرجونا من الزنزانة إلى الساحة الخارجية الى المبنى وبدأوا يتناوبون علينا ويمارسون صنوفا من عمليات التعذيب بالجلد بالهراوات والعصي البولسية وكل معتقل كان يضرب من خمسة أفراد أمن على الأقل بعد أن وزعوا علينا افراد الأمن الموجودين اصلا بالمقر الأمني الذي اقتادونا اليه”.
ويشير الشاهد الذي فضل حجب اسمه، إلى أن عملية التعذيب تمت نهارا في ساحة المبنى وعلى المكشوف، وجزم بأن كل سكان المنازل حول المقر الأمني شاهدوها وسمعوا انين المعتقلين أثناء عملية التعذيب. وأكثر اللحظات قسوة -بحسب الشاهد- كانت عندما اجبر المعتقل المعلم بمدارس المنطقة احمد الخير 36 عاما على خلع بنطاله ومن ثم ادخل احد افراد الامن في مؤخرته هراوة بوليسية سالت بعدها الدماء من مؤخرته الى جانب دماء كثيرة أخرى تتدفق من اجزاء عدة من جسمه، وهذه العملية نفسها قام بها فرد آخر لمعتقل ثاني اسمه (امجد) لكنها لم تكن بالقسوة التي تمت للمعتقل الخير.
ويقول الشاهد، أنه وعند مغيب الشمس كنا نحن جميعا على الأرض في حالة اعياء تمام وبيننا من هم في حالة غياب عن الوعي، قرر رجال الأمن نقلنا الى مدينة كسلا رئاسة الامن والمخابرات هناك، وينوه الى ان جميع المعتقلين التسعة لم يكن فيهم معتقل يقوى حتى على صعود العربة الامنية الصغير، ولجأ افراد الأمن إلى حملنا بالقوة كل اثنين من المعتقلين او ثلاثة على ظهر عربة ووجوهنا على صندوق العربة المكشوف.
في الطريق الى مدينة كسلا القريبة من منطقة خشم القربة، يقول الشاهد انه وفقا لما نقله له المعتقل “امجد” الذي كان في سيارة واحدة مع المعلم احمد الخير، بان أحمد كان لمسافة يتحرك وملقى الى جانبي في العربة يصدر أنينا وهو يتألم لكنه للحظة صمت تماما ولم يتحرك وجحظت عيناه. وهنا بحسب ما يروي الشاهد، نادى امجد على أفراد الأمن الذين كانوا على ظهر العربة معهم، فقام أحدهم بمعاينة ورفع وجهه إلى الأعلى وحينها نادى على سائق العربة بالتوقف الى جانب الطريق وعلى الملازم امن قائد المجموعة معاينة المعتقل بنفسه.
ويقول بحسب ما نقل له امجد، امر ضابط الأمن بصفع احمد على وجهه او سكب قدرا من الماء عليه لانه في غيبوبة والماء يساعد على الافاقة منها وأمر سائق العربة بمواصلة المسير وابلغهم انه عندما نصل الى مدينة كسلا سيفيق احد على الفور.
وافاد الشاهد، بانه ولحظة وصولنا مدخل مدينة كسلا نزل الضابط لمعاينة احمد لمرة اخرى وبعدها أجرى اتصالات عديدة قبل أن تتحرك العربة الى المستشفى مباشرة وهناك ابلغوهم على الفور بأن المعتقل المعلم احمد الخير عوض متوفى منذ ساعة على الأقل وهى نص مسافة الزمن التى قطعتها السيارات للوصول الى مدينة كسلا.
تعذيب ممنهج
ولم تكن حادثة مقتل الأستاذ أحمد الخير حالة القتل تحت التعذيب الوحيدة التي وقعت ضد مواطنين منذ اندلاع التظاهرات، وبرزت اسماء عديدة مثل الطالب عبدالرحمن الصادق محمد الأمين الذي لقي مصرعه في نهاية ديسمبر الماضي. وهناك أيضا مجاهد عبدالله الذي لقي حتفه داخل معتقل جهاز الامن بمدينة القضارف بشرق السودان خلال التظاهرات التي عمت المدينة في نهاية ديسمبر الماضي. الطالب محجوب التاج محجوب إبراهيم: وهو طالب في المستوى الثاني كلية الرازى الطبية في الخرطوم ولقى أيضا مصرعه تحت تعذيب الأجهزة الأمنية إثر اعتقاله في الرابع والعشرين من يناير الماضي. اضافة الى مقتل اخرين تحت التعذيب بينهم مواطنين قتلا بجنوب كردفان وتم دفن جثامينهم دون علم ذويهم وهما فائز عبد الله عمر آدم وحسن طلقا.
من أبشع أشكال العنف والتعذيب في المعتقلات التي ظهرت ووثق بعضها خلال الفترة الاخيرة، هو اعتقال وتعذيب المئات من طلاب دارفور في الجامعات السودانية وارغامهم على تقديم شهادات عن تورطهم مع المخابرات الاسرائيلية “الموساد” في القيام بأعمال عنف وتخريب واسعة في البلاد بالتنسيق مع حركة تحرير السودان جناح عبدالواحد محمد نور (إحدى الحركات المسلحة التي تقاتل الحكومة في اقليم دارفور) من أجل اسقاط النظام.