مراسل لـ(عاين) يعايش الحرب لعام كامل ويكتب من جنوب الخرطوم (2 – 2)
عاين- 27 أبريل 2024
لم تتوقف مأساة السكان العالقين في مناطق الحرب بالعاصمة السودانية الخرطوم عند نقص الغذاء، وأعمال السلب والنهب، لكنهم أيضاً يقعون فرائس لانتهاكات واسعة تصل حد القتل، والاعتقال التعسفي وما يتخلله من ضرب وتعذيب، إلى جانب الإخفاء القسري، وهي ممارسات جعلت المواطنين في تلك الأماكن في حالة قلق ورعب دائم.
وجد المدنيون في جنوب الخرطوم أنفسهم محاصرين بالضربات الجوية العشوائية من طيران الجيش السوداني، وانتهاكات وتعديات قوات الدعم السريع التي تسيطر ميدانياً على المنطقة، فكل ما تهدأ الأوضاع الأمنية لفترة زمنية محددة تطرأ حادثة جديدة أكثر بشاعة تعيد أجواء التوتر والخوف وسط المدنيين العزل.
تصل تلك الانتهاكات حد القتل، وفي بدايات شهر أبريل الجاري اقتحم مسلحون إحدى المنازل في منطقة جنوب الخرطوم، وفتحوا الرصاص الحي على من بداخله، فتوفي رب الأسرة على الفور، وأصيب أحد أبنائه برصاصة في فخذه، وتكررت حوادث مماثلة في مناطق مجاورة، وهو ما يقضي على آمال المواطنين الراغبين في العودة إلى منازلهم.
وتنشط قوات الدعم السريع كذلك في حملة اعتقالات تعسفية للمواطنين جنوب الخرطوم وإيداعهم في معتقلات خاصة، وذلك بتهمة ظلت ثابتة وهي الانتماء إلى الحركة الإسلامية “الكيزان” والقوات النظامية، ويُعَرَّضُون للضرب والتعذيب وتقييدهم بالحبال دون مراعاة لكرامتهم الإنسانية أو سنهم أو ظروفهم المرضية.
وفي رحلة بحثهم عن الأموال والسيارات والمقتنيات الأخرى، يقتحم مسلحو قوات الدعم السريع منازل المواطنين في جنوب الخرطوم بشكل متواصل، ويعرضون أصحابها لشتى أنواع التعذيب من ضرب بالرصاص والعصي في محاولة لإرهابهم، حتى يخرجوا ما بحوزتهم من مقتنيات، ونتج عن ذلك وفيات وإصابات بكسور وغيرها، اضطرت أصحابها لمغادرة العاصمة من أجل تلقي العلاج.
وأصبحت مناطق سيطرة قوات الدعم السريع شبه خالية من السيارات التي تخص المواطنين بعد نهبها، ويضطر السكان لنقل الموتى في عربات النقل الجماعي “حافلات” إذ يُوضَع الجثامين على المقاعد للوصول إلى المقابر، أو عبر (التكاتك)، كما أن بعضهم يلجأ مضطراً للاستعانة بسيارات بكاسي يقودها مسلحو قوات الدعم السريع.
معتقلات سرية
وعلى ما يبدو، فإن قوات الدعم السريع أنشأت معتقلات سرية لاحتجاز المواطنين، فهي غير معلومة حتى لعامة منسوبي هذه القوات، فهناك العديد من الأشخاص مختفين بشكل قسري وآخرين اُعْتُقِلُوا في منطقة جنوب الخرطوم، ولا يعرف ذويهم شيئاً عنهم حتى الآن، ولا يدرون حتى ظروف احتجازهم، وعندما استفسروا عنهم وجدوا أن عناصر الدعم السريع في المنطقة ليست لها أي معلومات عن أماكن احتجاز المعتقلين.
وتجري عمليات الاعتقالات للمواطنين عن طريق بلاغات قانونية مزعومة من قوات الدعم السريع في جنوب الخرطوم، على الرغم من عدم وجود أجهزة قضائية أو عدلية تعمل في المنطقة، كما يُعْتَقَل المدنيون من داخل منازلهم بعد اقتحامها على نحو مفاجئ دون مراعاة حرماتها وحقوق سكانها، واقتيادهم بشكل تعسفي إلى جهات غير معلومة.
وبعد أن سيطرت على مقر التصنيع الحربي “اليرموك” ومعسكر الاحتياطي المركزي جنوبي الخرطوم، وسعت قوات الدعم السريع مستوى انتشارها في المنطقة، وصاحب ذلك اقتحام لمنازل المواطنين ونهب السيارات والأثاثات المنزلية والأجهزة الكهربائية المختلفة والأحذية، ومن ثم عرضها للبيع في ما يعرف بـ”أسواق دقلو” بمبالغ زهيدة مقارنة بأسعارها الحقيقية.
في مفارقة محزن تمنع ارتكازات قوات الدعم السريع المواطنين من ترحيل ممتلكاتهم من منازلهم إلى المناطق الآمنة، وتطالبهم بتصاريح مرور وفواتير تثبت ملكيتهم لهذه المقتنيات، في حين تسمح لعناصرها بنقل المقتنيات المختلفة على السيارات والركشات والذهاب بها إلى الأسواق وبيعها، في تقنين لأعمال النهب.
تدهور الخدمات
وإلى جانب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، يعاني السكان في جنوب الخرطوم من تدهور مريع في الخدمات خاصة التيار الكهربائي الذي يشهد انقطاعاً مستمراً عن بعض المناطق لفترة تصل إلى 7 أشهر، وفي أماكن أخرى لشهر وشهرين، وذلك نتيجة لسقوط الأعمدة وإتلاف للأسلاك الكهربائية والمحولات الكبرى جراء الاشتباكات وعمليات القصف العشوائي من طرفي الحرب، وأفلحت غرفة طواري ضاحية الكلاكلة من إعادة التيار الكهربائي بشكل جزئي بالتعاون مع مهندسي الكهرباء.
ومن الأسباب التي قادت إلى تطاول أمد انقطاع التيار الكهربائي في مناطق جنوب الخرطوم، هي قيام منسوبي قوات الدعم السريع بسرقة الزيوت الخاصة بالمحولات الكهربائية، واستخدامها في عمليات غش بخلطها مع الجازولين وبيعها على أساس أنها جازولين، كما أن بعضهم باعها للمواطنين كزيوت طعام، وقد تم توثيق هذه الحالات.
وألقى انقطاع التيار الكهربائي بظلاله على الإمداد المائي، حيث توقفت المحطات والآبار الجوفية لغياب الكهرباء، بينما لم يتسن تشغيل المولدات الكهربائية الاحتياطية نتيجة لشح وغلاء الجازولين، ويضطر السكان العالقون في جنوب الخرطوم الذهاب إلى أماكن بعيدة بحثاً عن مياه الشرب، وآخرين يعتمدون في شرابهم على الشراء من أصحاب العربات البدائية “كارو” بمبالغ طائلة تصل إلى 5 آلاف جنيه للبرميل الواحد، الشيء الذي زاد أعباءهم المعيشية.
ويواجه العالقون تردي في الخدمات الصحية، حيث خرجت غالبية المستشفيات والمرافق الطبية عن العمل بسبب المعارك العسكرية، وتبقت ثلاثة مراكز فقط تُشَغَّل عن طريق المنظمات ومتطوعي غرف الطواري، وهي “مستشفى بشائر، والمستشفى التركي في ضاحية الكلاكلة، ومركز الشهيد بالقطعية”، إذ تشهد ضغط كبيراً وتردد عالياً، كما تعاني نقصاً في الأدوية والكوادر الطبية، والتي يجتهد المتطوعون في تغطيتها.
مرضى يعانون
وتضاعفت معاناة مرضى الأمراض المزمنة لعدم توفر الأدوية وصعوبة الحفاظ على ما هو متوفر منها مثل (الأنسولين) نظراً لانقطاع التيار الكهربائي، بينما ترتفع تكلفة التخزين عن طريق الثلج، والذي ارتفع سعره بشكل مجنون، ويصل سعر اللوح الواحد إلى 20 ألف جنيه في بعض الأوقات.
وهناك بعض المرضى في منطقة جنوب الخرطوم توفوا لعدم وصولهم إلى الرعاية الطبية اللازمة في الوقت الملائم نظراً لبعدها عنهم، كما توجد بعض الحالات كانت تحتاج إلى تدخلات طبية عالية غير متوفرة في العاصمة المنكوبة، فماتوا قبل أن يكملوا إجراءات سفرهم.
ليس الإنسان وحده من يتجرع المآسي في جنوب الخرطوم، لكن الحيوانات والطيور بدورها تعاني الجوع والعطش، فنفقت وتناثرت جثثها في المنطقة لا سيما الكلاب والقطط، وأخرى صارت أجسامها نحيلة بسبب الجوع، وهي تصارع الموت الذي يقترب منها، ومن جهة أخرى أصبحت القطط فريسة للكلاب الضالة، وهو ما زاد مخاوف المواطنين من انتشار داء السعر.
الأشجار بدورها، عانت العطش بعد أن هجرها أصحابها، وفي ظل نقص المياه، مما أدى إلى ذبول وموت العديد منها في جنوب الخرطوم، بينما تبنى مواطنون عالقون حملات سقيا لهذه الأشجار، والتي بعضها مثمرة في محاولة لإنقاذها.
وإلى جانب العطش تعاني الأشجار من القطع الجائر، حيث لجأ بعض المواطنين إلى عمل كمائن لإنتاج الفحم من أجل الكسب المالي في ظل توقف الأعمال، ولخلق بدائل لغاز الطهي الذي يشهد انعداماً كاملاً منذ سيطرة قوات الدعم السريع على المستودعات في منطقة الشجرة جنوبي الخرطوم، حيث توجد أسطوانات غاز معروضة بالأسواق، لكن غالبية المواطنين يرفضون شراءها؛ لأنها من المرجح أن تكون مسروقة من المنازل التي غادرها أصحابها.
مخاوف وتمنيات
دفع السكان في جنوب الخرطوم فاتورة باهظة لهذه الحرب المستمرة منذ منتصف أبريل 2023م كغيرهم من السودانيين في مناطق الصراع الأخرى، وتنوعت تلك المآسي بين القتل والترهيب ونهب الممتلكات والاعتقال التعسفي ونقص الأكل والشرب، وهم يعيشون مخاوف واسعة من استمرار القتال لفترة طويلة قادمة، فتتواصل معاناتهم.
ويواجه السكان في تلك المنطقة مآسيهم في صمت، بينما لم يتسن وصول أي مساعدات إنسانية من المنظمات منذ بداية القتال، ويعزى ذلك إلى انعدام المسارات الآمنة، وتجتهد غرفة الطواري التي يقف عليها متطوعون شباب في توفير بعض الاحتياجات الغذائية عبر مشروعي “السلال الغذائية” والمطابخ التي توزع طعاماً جاهزاً، لرفع جزء من المعاناة عن المواطنين العالقين وسط نيران الحرب.
ورغم قتامة المشهد يمني سكان جنوب الخرطوم أنفسهم بأن تتوقف الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع خلال مدى قريب من الآن، حتى ترفع المعاناة بكافة صورها عن كاهلهم، فهم ينظرون إلى أنهم الحلقة الأضعف في هذه الحرب التي هم ليس طرفاً فيها، لكنهم ظلوا يكتوون بنارها وحدهم، كما تمتد تمنيات المدنيين في تلك المنطقة إلى محاسبة مرتكبي الجرائم الواسعة بحقهم وتحقيق العدالة الناجزة للمتضررين كلهم، فلم يراع طرفا القتال القانون الدولي الإنساني ولا المعاهدات الدولية مثل اتفاقيات جنيف الأربع الخاصة بحماية المدنيين في أثناء الصراع المسلح.