«استغاثة مزارعي السودان».. الحرب وشبح الجوع
عاين- 6 يوليو 2023
يرفع المزارعون السودانيون أصواتهم عالياً مطالبين بإنقاذ الموسم الزراعي الصيفي الذي يمثل موردا غذائياً مهماً بعد أن بات مهدداً بالفشل التام جراء حزمة من التحديات أبرزها غياب التمويل الحكومي بجانب أزمات أخرى أفرزتها الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل الماضي.
أصوات الاستغاثة التي أطلقها المزارعون لم تجد من يسمعها حتى الآن، بينما يمضي الوقت سريعاً ولم يتبق من الموعد النهائي لإكمال العملية الزراعية سوى أيام قليلة حيث لن تصلح زراعة أي محصول في الموسم الصيفي بعد حلول منتصف يوليو الجاري، وهو ما يعطي مؤشرا قويا بفشل محتمل للموسم الزراعي الحالي.
لم يتمكن مزارعون في مشروع الجزيرة أواسط السودان، وولايتي القضارف وسنار من الحصول على تمويل مالي لدخول الموسم الزراعي، كما لم يحصلوا على المبيدات والاسمدة والبذور المحسنة حتى اللحظة بعد أن فشلت الشركات الخاصة المعنية بتوفير مدخلات الزراعة والتي تتركز غالبية مكاتبها ومخازنها في الخرطوم من ترحيل هذه المدخلات لمناطق الإنتاج.
وبحسب معلومات حصلت عليها (عاين) فإن البنك الزراعي الحكومي المتعهد بعمليات التمويل الزراعي، لم يصدر أي تمويل للمزارعين حتى الآن، ففي ولايتي سنار والقضارف تعلل بشح السيولة، بينما أبلغ المصرف المزارعين في مشروع الجزيرة بأنه لا يستطيع تمويلهم في ظل ارتفاع نسبة التعسر والتي بلغت 80% خلال العام الماضي، وأنه يمكن أن يمول فقط الذين تمكنوا من سداد القرض السابق.
تقليص المساحات
ويقول سلمان عبد الهادي – أحد مزارعي مشروع الجزيرة “أكبر مشروع زراعي مروي بالبلاد” إنه في ظل غياب التمويل لن يتمكنوا من زراعة مساحات العام السابق، وبدأوا يفكرون الآن في زراعة مساحة محدودة لا تتعدى 3 أفدنة بغرض تحقيق اكتفاء ذاتي فقط دون التفكير في مسألة الفائض وهذا الأمر سيخلف فجوة غذائية كبيرة.
ويشير سلمان خلال مقابلة مع (عاين) إلى أن مياه الري لم تصلهم حتى اللحظة فما تزال القنوات جافة وهو مؤشر خطير للغاية لأن تحضير الأرض بحاجة الى ري أولى، فيما يقوم المزارعين بفتح الجداول (أبو عشرين) بجهد ذاتي وهي مسؤولية إدارة المشروع في الأصل، وهذا سوف يزيد التكاليف والاعباء على المزارعين، و سيكون الأمر صعباً للغاية في ظل غياب التمويل.
وتصل تكلفة زراعة 3 أفدنة بمشروع الجزيرة الى 350 الف. ولجأ مزارعون إلى بيع أملاكهم من مواشي او سيارات لتغطية هذه التكاليف، وربما يمتنع آخرين عن دخول الموسم الزراعي الصيفي لأنهم لا يملكون هذه المبالغ، وفق عبد الهادي.
ويضيف: “نواجه المشاكل لوحدنا، ولم تقم إدارة مشروع الجزيرة بأي دور حتى الآن. كان عليها توفير البذور والري، لكنها لم تفعل أي شيء واكتفت بوعود فقط بينما يمضي الوقت سريعاً ولا ينتظرهم”.
المشكلات نفسها يعيشها مزارعي القطاع المطري في ولاية القضارف الذين يشكون غياب التمويل بشكل أساسي مع قرب حلول ذروة موسم الأمطار (الخريف)، وفق ما نقله المزارع غالب هارون لـ(عاين).
ويقول غالب: “البنك الزراعي امتنع تماماً عن منح أي تمويل للمزارعين حتى الذين سددوا القرض السابق، وأبلغهم بأنه لا يملك السيولة النقدية الكافية. من دون تمويل كافي لن يتمكن أي شخص من زراعة مساحاته التي كانت في العام الماضي وربما يكتفي بزراعة محدودة بغرض الاكتفاء الذاتي”.
عراقيل الوقود
ويضيف:”هناك مشكلة في الوقود فبالرغم من وفرته، لكن السلطات المحلية تضع العراقيل والتعقيدات، فالحصول عليه يتطلب موافقة أكثر من خمس جهات إدارية وهو تعطيل كبير للمزارعين الذين يسابقون الوقت لإدراك الموسم الزراعي. نحن بحاجة الى تدخل عاجل لأن الوضع لا يحتمل مزيد من التأخير فهناك مناطق زراعية في القضارف يصعب دخولها وزراعتها بعد حلول شهر يوليو”.
ولا يختلف الوضع كثيراً في ولاية سنار التي يواجه مزارعيها مشكلات مماثلة بسبب غياب التمويل. ويقول المزارعين صلاح عبد اللطيف لـ(عاين) “لم نتمكن حتى اللحظة من تحضير الأرض وقد بدأت الأمطار تهطل بكثافة واقترب موعد الزراعة من الانتهاء وذلك بسبب غياب المال. لقد رفض البنك الزراعي تمويلنا”.
“حاولت بيع سيارتي حتى نتمكن من زراعة بعض الأفدنة من الذرة والسمسم، ولكن لا أحد يرغب في شراءها، لذلك لن نستطيع زراعة مساحة واسعة هذه السنة وربما نقف على افدنة محدودة لغرض الاكتفاء الذاتي لعائلتي”. يضيف عبد اللطيف.
ويعتمد أكثر من 60% من السودانيين على الزراعة في معاشهم على مدار موسمين في العام، صيفي وشتوي. ويعد الاقتصاد السوداني تقليديا ويقوم على الزراعة التي تساهم بنسبة 48 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وتمتص 61 بالمئة من القوى العاملة في البلاد. ويملك هذا البلد 170 مليون فدان من الأراضي الصالحة للزراعة، بما يعادل 40 بالمئة من المساحات الزراعية في الدول العربية مجتمعة.
(لازم نزرع)
“يواجه المزارعين عقبات كبيرة، فالدولة لم تقم بدورها في تطهير قنوات الري وحفر جداول أبو عشرين، كما أنهم أصبحوا عاجزين عن تحضير الأرض لأنهم محاربين من وزارة المالية التي بدلاً عن دعم المزارع والتعامل بالسعر التشجيعي، تعمل على زيادة الرسوم والتخلي عن استلام القمح بالسعر التشجيعي الشيء الذي تسبب في خسائر فادحة للمزارعين”. يقول المتحدث الرسمي لتحالف مزارعي الجزيرة والمناقل، عابدين برقاوي لـ(عاين).
ويضيف:”اضطر المزارعين لبيع إنتاجهم من القمح في السوق العادية بأقل من 20 ألف جنيه للجوال، في حين كان ينبغي أن تستلمه الدولة وفق السعر التشجيعي المعلن سابقاً والبالغ 43 ألف جنيه. ومع ذلك نرفع في تحالف المزارعين شعار (لازم نزرع) لأن عدم الزراعة سيقود الى مجاعة محققة في ظل هذه الحرب اللعينة”.
تعثر المدخلات
حرمت ظروف الحرب عشرات الشركات من استيراد مدخلات الإنتاج الزراعي. ويقول موظف في إحدى الشركات العاملة في مجال الأسمدة والمبيدات في ولايتي الجزيرة وسنار لـ(عاين): إن “بسبب الحرب لم نتمكن من ترحيل اسمدة ومبيدات وبذور موجودة في مخازن الشركة بالعاصمة الخرطوم إلى مناطق الإنتاج.. أجرينا العديد من المحاولات لكنها باءت بالفشل، وهي عقبة تواجه جميع الشركات العاملة معهم في هذا المجال، الشيء الذي ينذر بخطر على الموسم الزراعي”.
ويشير الى توقف تام لعمليات استيراد المدخلات الزراعية من مبيدات واسمدة وبذور فهناك العديد من البواخر المحملة تم إرجاعها نظراً لعدم وجود جهة حكومية تعطي الموافقة على إدخال هذه المدخلات فقد تم حرق هيئة الأبحاث الزراعة وغياب إدارة المواصفات وغيرها من المؤسسات الرقابية في السودان.
“بحوزتنا كميات من الأسمدة والمبيدات والبذور المحسنة في مناطق الإنتاج بولايتي الجزيرة وسنار، ولكن المشكلة أن المزارعين لا يملكون الأموال اللازمة لشرائها، فهم لم يتمكنوا من الحصول على تمويل مصرفي هذه السنة علما أن الشركات الخاصة تبيع المدخلات الزراعية عن طريق الدفع المقدم، فربما نشهد كساد بضاعتنا هذا الموسم”. يضيف الموظف الذي فضل عدم ذكر اسمه.
فيما يرى الخبير الزراعي المهندس أيمن دفع الله، أن كل المعطيات الراهنة تشير الى فشل الموسم الزراعي الصيفي والذي أصبح في “كف عفريت” حسب وصفه، وذلك نتيجة حتمية للحرب الدائرة بين الجيش وقوات الدعم السريع والتي سبقتها خيبة أمل المزارعين بسبب الإنتاج المتدني في العام الماضي وضعف أسعار المحاصيل الزراعية.
ويقول دفع الله في مقابلة مع (عاين) إن غياب التمويل هذه السنة سيقود إلى خروج شريحة صغار المزارعين وهي تمثل أكثر من 70 بالمئة عن دائرة الإنتاج، وأيضاً يتوقع إحجام كبار مزارعي القطاع المطري وتقليص الرقعة المزروعة، وذلك لتقليل صرف مليارات الجنيهات في مدخلات الإنتاج والاتجاه لزراعة تقليدية في مساحات محدودة تسد حاجة المزارع وانعامه فقط، نتيجة المهدد الأمني على الأصول الثابتة والمتحركة.
تحذيرات من مجاعة
من جهته، يرى الخبير الاقتصادي محمد الناير أنه من الممكن تدارك الأوضاع وإنقاذ الموسم الزراعي الصيفي لأن 95% من المشاريع الإنتاجية تقع في مناطق آمنة في الجزيرة والقضارف وسنار، مما يجعل المسؤولية على عاتق السلطات الولائية في ظل غياب الحكومة المركز ويجب عليها التحرك بشكل عاجل لتفادي فشل الموسم الزراعي.
ويقول الناير في مقابلة مع (عاين)، إن فشل الموسم الزراعي الصيفي يؤثر سلباً على الأمن الغذائي في السودان الشيء الذي يزيد معاناة المواطنين، وينبغي على الحكومات الولائية تفعيل دورها واستنفار فروع البنك الزراعي وبنك السودان لإيجاد حلول للمزارعين حتى يتمكنوا من مباشرة الموسم الصيفي.
ويضيف “من الممكن إنقاذ الموسم الزراعي وإنجاحه، لكن سيصطدم المزارعين لاحقاً بعقبة التسويق نسبة لخروج العاصمة الخرطوم كأكبر مستهلك للمنتجات الزراعية المختلفة، فضلاً عن توقف عمليات التصدير الشيء الذي يزيد الأوضاع سوءاً”.
“الحرب تسببت في تدمير البلاد وجعلت مناطق الإنتاج مكتظة بالسكان، والمخزون الغذائي يمضي نحو النفاد، لذلك ناشدنا المزارعين خلال بيان صدر مؤخراً بضرورة التغلب على هذه العقبات والسعي لإيجاد مدخلات لزيادة الإنتاج، ومن هنا نناشد المنظمات الطوعية لمدنا بالمبيدات والاسمدة ورفع الأصوات عالية دقاً لناقوس الخطر، كما نناشد صندوق الإنماء الأفريقي ومنظمة الأغذية العالمية لنجدتنا”. قول المتحدث الرسمي لتحالف مزارعي الجزيرة والمناقل، عابدين برقاوي لـ(عاين).
يحث برقاوي وزير المالية على ضخ الأموال للبنك الزراعي لتمويل المزارعين وعدم المطالبة بالديون السابقة “لأننا نعيش ظروف استثنائية وبحاجة الى إجراءات استثنائية أيضاً، ففي حال عدم الاستجابة سيشهد السودان مجاعة جديدة تضاهي المجاعات التي حدثت في عقود سابقة من تاريخ هذا البلد”.
تتبع مؤشرات فشل الموسم الزراعي، تحذيرات دولية من خطر نقص الغذاء في السودان والذي فاقمت منه الحرب المشتعلة في البلاد. وتقول منظمة الأغذية والزراعة “فاو”، أن الأزمة الحالية في السودان أدت إلى تفاقم حالة انعدام الأمن الغذائي المتردية أصلًا. وتوقعت المنظمة الدولية في تقرير حديث لها اطلعت عليه (عاين)، ازدياد الجوع في جميع أنحاء البلاد مع اقتراب موسم الجفاف من يونيو إلى سبتمبر.
كما يتوقع برنامج الاغذية العالمي، أن تدفع الاضطرابات 2.5 مليون شخص آخر إلى الجوع – مما يؤدي إلى تضخم المجموع الإجمالي إلى 19 مليونًا ، أو 40 في المائة من سكان البلاد.