الفيضانات في السودان تحد جديد لحكومة حمدوك
تقرير: عاين 15 سبتمبر 2019م
ارتفع عدد ضحايا الفيضانات التي ضرب السودان هذا العام، حسب الدفاع المدني الي اكثر من ٧٧ شخصا فيما تدمرت اكثر من ١٥ الف منزل في كافة أنحاء السودان. ذلك فيما أطلقت بعض الولايات مثل ولاية النيل الأبيض نفسها منطقة كوارث ودعت الي التدخل الدولي العاجل لإنقاذ الوضع. وتقول منظمة الأمم المتحدة للشئون الإنسانية في أحدث تقريرها ان أوضاع الفيضانات والسيول كارثية وغير مسبوقة، محذرة من تواصل موجات الفيضانات مع ارتفاع معدلات الأمطار في الهضبة الإثيوبية.
ويحذر بيئيون واطباء من تدهور الوضع البيئي عقب موسم الأمطار، مشيرين الي اعلان وزارة الصحة بولاية النيل الأزرق منطقة موبوءة بالكوليرا عقب ظهور أربعة حالات. وتعتبر كارثة السيول والفيضانات إحدى اكبر التحديات التي تواجه حكومة رئيس الوزراء الجديد عبدالله حمدوك الذي يحظي بشعبية واسعة ودعم إقليمي ودولي كبيرين.
دمار وذهول
لا يزال عزيز محمد مذهولاً من الخسارة التي تعرَّضَ لها جرَّاء ما حدث؛ فقد ترك حياته كلها وراءه وصار يجلس بلا اكتراث في منزل قريبه في العاصمة الخرطوم. لم يكن لدى عزيز محمد -وهو مُزَارِع بسيط أتى من قرية متاخمة للضفة الغربية للنيل بولاية النيل الأبيض- أيُّ وقت لجمع أيِّ ممتلكات أو لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من محاصيله التي غمرتها الفيضانات قبل أن يشد الرحال إلى العاصمة الخرطوم. وقال عزيز لشبكة (عاين الإخبارية): “لقد فقدنا كل شيء، حتى أنني لا أعرف أين انتهى المقام ببعض جيراني” .
منذ يوليو الماضي -مثل ما حدث في السنوات الأخيرة السابقة- أدَّت الأمطار الغزيرة إلى فيضانات مُدَمِّرَة في جميع أنحاء البلاد، ولكن هذه السنة كانت أسوأ من سابقاتها، إذ واجه السودان أغزر هطولٍ للأمطار واجتياح للفيضانات منذ عام 2013 ، وقد تزامن ذلك مع تدهور الاقتصاد والتحولات السياسية المتلاحقة مِمَّا حَدَّ من التفاعلات الإنسانية مع الأزمة الماثلة. وحتى تاريخ 2 سبتمبر 2019، قد تضرَّرَ من الأمطار الغزيرة والفيضانات المفاجئة ما يُقَدَّرُ بنحو 346300 شخص في 16 ولاية، وفقاً لمفوضية العون الإنساني الحكومية(HAC) ، ويتجاوز هذا الرقم عدد المتضررين في العام الماضي الذين بلغ عددهم 222200. وقد أبلغت المفوضية عن 78 حالة وفاة مرتبطة بالفيضانات في جميع أنحاء البلاد، ويُعزَى ذلك إلى حد كبير إلى انهيار السقوف والصعق بالكهرباء.
يمثل مستوى مياه هذا العام أعلى مستوى مياه مُسَجَّل في النيل بسبب هطول الأمطار في تاريخ السودان، وفقاً لرئيس وحدة الإنذار المُبَكِّر بهيئة الإرصاد الجوية السودانية، أبو القاسم إبراهيم إدريس الذي تحدَّثَ ل(عاين) قائلاً: “عادة يبلغ معدل تساقط الأمطار 120 ملم في مثل هذا الموسم، ولكن يمكنك أن تتخيل أننا سجلنا معدل تساقط 155 ملم في ليلة واحدة فقط في الجزء الجنوبي من الخرطوم” .
ولاية النيل الابيض تغمرها المياه
شهدت ولاية النيل الأبيض ما يقرب من 3 إلى 4 أضعاف عدد الأشخاص المُتضرِّرين من الفيضانات مقارنة بباقي البلاد. وقد أثَّرت الفيضانات -بحسب مكتب تنسيق الشئون الإنسانية التابع للأمم المتحدة- على أكثر من 66000 شخصٍ في ولاية النيل الأبيض وحدها وفقد الكثيرون منازلهم بالكامل، حيث تضررت أو دُمِّرَت 13300 منزل، ويمثل هذا الرقم ما يقارب من 20 % من جميع المنازل التي دمرتها الفيضانات في سائر أنحاء البلاد.ويقول علي موسى من أهالي قرية قريبة من مدينة الدويم بولاية النيل الأبيض إن حوالي 35 قرية جنوب الدويم قد دُمِّرَتْ بالكامل بسبب الفيضانات. وقال لشبكة (عاين الإخبارية): “لم يتبق أحد في هذه المناطق، فقد تأثرت معظم المحاصيل وبالتالي أغلب السكان هجروا مناطقهم ونزحوا”، وأضاف موسى أن: “الدعم الحكومي للمنطقة كان ضئيلاً”. مضيفاً “أن معظم الناس في النيل الأبيض يعتمدون على الأقارب وبعض المنظمات غير الحكومية لمواجهة الأزمة”.
ويقول عثمان أبو سمية أحد السكان الذين أُجبِرُوا على ترك منازلهم: “إن الحكومة حتى الآن لم تقم بزيارة إحدى أكثر المناطق تضرراً في النيل الأبيض، وهي منطقة أم رمات”. وقال عثمان: “إن الوصول إلى قريتهم في الأيام الأولى للفيضان كان مُتعَذَّرَاً تماماً، مِمَّا سمح بإيصال المساعدات جواً فقط”. وأضاف لشبكة “عاين” الإخبارية “إنَّ الوضع حرج جدا، والناس يعيشون الآن في العراء، ويتعرضون للمطر ويشكون من لدغات العقارب والبعوض ، ويشربون الآن مياه الفيضان بدافع اليأس”.تستضيف ولاية النيل الأبيض أيضاً ثاني أكبر عدد من اللاجئين في البلاد حيث يُقَدَّرُ عددهم بحوالي 235539 لاجئ من جنوب السودان. ولم تتمكن الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة من الوصول إلى بعض مُخَيَّمات اللاجئين التي غمرتها الفيضانات في منطقة السلام، وتشير تقارير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية إلى أنَّ أكثر من 900 أسرة لاجئة فقدت المأوى جرَّاء الأمطار الغزيرة.
في ظل الدمار الذي لحق بالمنازل والملاجئ، تُعتَبَرُ المواد غير الغذائية من الاحتياجات الأساسية للمساعدات الإنسانية، وفقاً لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية. لكن حتى 10 سبتمبر الجاري، وصل التمويل الإنساني إلى 33% فقط من المبلغ المطلوب، أمَّا القطاع الذي لديه أكبر الاحتياجات، وهو قطاع المواد غير الغذائية، فقد بلغ التمويل فيه إلى نسبة ضئيلة جدا لم تتجاوز 1% حتى الآن من التمويل المُستَهدَف. ووفقاً لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، تمكَّنت الجهات الفاعلة الإنسانية من الوصول إلى 34% فقط من المحتاجين في السودان.
رأى عزيز محمد منزله وممتلكاته بأم عينيه تطفو أمامه بعيداً عنه. لكن ما يجعل الوضع لا يُطاق، كما يقول، هو “ليس هو فقدان هذه الممتلكات القديمة ولكن المستقبل الغامض بعد نفوق المحاصيل والماشية في الفيضان؛ لقد تحولنا من الثراء إلى الفقر في بضع ساعات”.
أمطار غزيرة وطعام شحيح
عادةً ما تبلغ الأمطار أوجها في شهر أغسطس، وهو أيضاً ذروة موسم الجفاف حيث يكون الوصول إلى الغذاء منخفضاً في هذا الشهر من الموسم. قد يكون هذا التزامن بين غزارة الأمطار وشح الطعام كارثياً بالنسبة لبعض المناطق الأكثر تهميشاً في البلاد. وقال إبراهيم من هيئة الإرصاد الجوية السودانية: “لقد تجاوزت مستويات هطول الأمطار المعدل المعتاد هذا العام، ولكن هذا ليس جيداً للزراعة حيث أنَّ المزارع تغمرها المياه بالكامل؛ لا يمكن أن يحدث هطول الأمطار للموسم المطري بأكمله خلال شهر واحد كما شهدنا، إنه ليس جيداً للمزارعين أو لأيِّ شخص.”
وقد فاقم مشكلة انعدام الأمن الغذائي التحديات الاقتصادية المستمرة داخل السودان وكذلك الفيضانات الأخيرة. أفاد مكتب الإحصاء المركزي السوداني أنَّ معدلات التضخم ارتفعت من 48٪ في يونيو إلى 52٪ في يوليو. إنَّ انخفاض قيمة العملة إلى جانب النقص في الوقود والحبوب الغذائية يؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية في جميع أنحاء البلاد. تظل الحبوب الغذائية الأساسية في البلاد مثل الذرة الرفيعة في المتوسط أعلى بنسبة 55% عن العام الماضي، وذلك وفقاً لتقارير نظام الإنذار المبكر بالمجاعات (FEWS)-وهي منظمة لمراقبة الأمن الغذائي تمولها الولايات المتحدة. وقد أشارت المنظمة أيضاً إلى ارتفاع أسعار الثروة الحيوانية بنسبة 150% منذ العام الماضي بسبب الفيضانات والمصاعب الاقتصادية.
تقول إشراقة خميس من جمعية الإغاثة وإعادة الإعمار السودانية: “إنَّ الارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية وتعذر إمكانية الوصول إلى الأسواق المليئة بالفيضانات يمثل تحدياً كبيراً في ولاية النيل الأزرق” .وأضافت إشراقة: “لقد نفقت العديد من الماشية وغمرت الفيضانات المحاصيل. ونخشى أن يتسبب هذا في حدوث مجاعة في بعض المناطق في الأشهر المقبلة”. ووفقاً لوحدة تنسيق جنوب كردفان /النيل الأزرق، وهي منظمة تراقب الأوضاع الإنسانية في المنطقتين: فقد دمرت الأمطار الغزيرة على طول نهر يبوس جميع المحاصيل (95%) تقريباً. وقالت إشراقة خميس لشبكة (عاين الإخبارية): “إنَّ عدداً قليلاً من العاملين في المجال الإنساني موجودون على الأرض”. وأضافت: “حتى معسكرات النزوح التي تديرها الأمم المتحدة تعاني، ويحتمي النازحون في المدارس دون أيِّ استجابة إنسانية.”
المستقبل القاتم
تتوقع الأمم المتحدة استمرار هطول الأمطار الغزيرة وتفاقم الفيضانات لا سِيَّما في ولايات: نهر النيل، والبحر الأحمر، والجزيرة، وشمال كردفان، وشمال دارفور، والخرطوم، والنيل الأبيض. وقد طالبّ تحالف المعارضة (قوى الحرية والتغيير) الحكومة بإعلان السودان منطقة كوارث طبيعية، حسبما أفاد راديو دبنقا، ولكن الفترة الانتقالية السياسية – حيث لم يتم تشكيل حكومة جديدة إلا في الأسبوع الماضي- غير مستعدة بشكل جيد لمواجهة الكارثة. وقال رئيس الوزراء المعين حديثاً عبد الله حمدوك في مقابلة مع وكالة رويترز: “إنَّ الفيضانات تحتاج إلى تدخل حكومي فوري مع إيجاد حلول لضمان حماية المواطنين من الحوادث المتكررة”. لكن حتى الآن، كما يقول غازي الريح -وهو متطوع في مؤسسة نفير الخيرية التي تتخذ من الخرطوم مقراً لها- “فإنَّ استجابة السلطات ظلت ضعيفة، ولم يتغير شيء هذا العام، فنحن نقدم الإغاثة الطارئة لهذا البلد -ما نفعله ليس حلاً دائماً”. لكن وفقاً لأحد العاملين بالأمم المتحدة، فإنهم بالفعل شهدوا تحسناً فيما يتعلق بوصول المساعدات الإنسانية بمجرد تشكيل الحكومة الجديدة. “على سبيل المثال، في أجزاء من النيل الأبيض كانت هناك بعض المشكلات في الوصول إلى المتضررين تم حلها الآن، وسنشهد زيادة في عدد الأشخاص الذين يتلقون المساعدات في الأيام المقبلة”.
لقد طال انتظار تقديم المزيد من المساعدات في ظل الحلول طويلة الأجل للفيضانات المتكررة في السودان، خاصة وأنَّ تغير المناخ من المحتمل أن يزيد من معدل الفيضانات في البلاد. وفي هذا الصدد قال إبراهيم: “أعتقد أنَّ هنالك تغير في المناخ، ودورات الفيضانات في ازدياد. في الماضي، كانت هناك بعض الفوارق الزمنية بين الفيضانات ولكن في السنوات الأخيرة نتوقع دائماً حدوث فيضانات سنوياً”.وبالنظر إلى هذا السيناريو، فإنَّ عزيز محمد ليس متأكداً من الوقت الذي سيكون فيه قادراً على العودة إلى قريته والهروب من صخب وضجيج حياة المدينة في العاصمة. وقال: “هذا المكان (الخرطوم) ليس موطني، ولكن بما أنَّ موطني قد غمرته الفيضانات، فإنني قد أضطر إلى اتخاذه موطناً”.