حرب السودان تضع قطاع الاتصالات على حافة الانهيار
عاين- 6 سبتمبر 2023
وضعت الحرب الدائرة في السودان قطاع الاتصالات بالبلاد على حافة الانهيار الكامل، و تقلصت نسبة تغطية بعض الشركات إلى أقل من 20%، وسط مخاوف من تأثيرات اقتصادية كارثية.
وتراجع مستوى خدمات الاتصالات والانترنت في كافة أنحاء البلاد وسط تباين في نسب التدهور من منطقة لأخرى، وتعد العاصمة الخرطوم واقليمي دارفور وكردفان الأكثر تأثراً إذ تنقطع الخدمة بشكل كامل في كثير من المناطق، الأمر الذي دفع المواطنين للعودة إلى وسائل بدائية للتواصل الرسائل البريدية “الجوابات”، بينما أغلقت البنوك أبوابها في وجه العملاء وتعثرت التطبيقات المصرفية مثل “بنكك، وفوري” وغيرها.
وبعد انقطاع طويل لخدمة الاتصالات والإنترنت عن عاصمة ولاية جنوب دارفور “نيالا” لم يجد “عمر أبكر” المقيم في مدينة الضعين شرقي الإقليم غير كتابة رسالة خطية “جواب” وإرسالها الى عائلته في نيالا مع قوافل البضائع المتجهة الى المدينة عبر الطرق البرية يستفسرهم خلالها عن أحوالهم، وهي مهمة كان يقوم بها في غضون دقيقة واحدة عبر مكالمة هاتفية.
ويقول عمر في مقابلة مع (عاين): “كنت قلق للغاية على عائلتي مع وصول أنباء بشأن تزايد العنف جراء الاشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع، فبعثت لهم رسالة خطية حثثتهم خلالها على الخروج من المدينة، وبعد انتظار دام اسبوعاً وصلني منهم رد خطي ايضاً، قبل أن يحزموا حقائبهم ويصلوا بسلام الى مدينة الضعين”.
ويشير أبكر، إلى أنه شاهد الكثير من السكان في الضعين يبعثون رسائل خطية إلى أقاربهم واصدقائهم العالقين في مدينتي نيالا وزالنجي اللتين تنقطع عنهما خدمة الاتصالات والانترنت بشكل كامل، مع القوافل السفرية بغرض الاطمئنان على أوضاعهم في ظل احتدام الحرب.
تدني التغطية
و تقلصت نسبة تغطية بعض شركات الاتصالات في السودان إلى أقل من 20%، نتيجة تحول مقر مزودات الخدمة الرئيسية المتمركزة في العاصمة الخرطوم إلى ثكنات عسكرية وتدمير العديد من محطات الربط الشبكي (أبراج الاتصالات) جراء المعارك الحربية، وفق ما قاله عضو نقابة تكنولوجيا المعلومات الاتصالات المهندس “أشرف عبد الرحمن” لـ(عاين).
“سيصبح السودان بلا اتصالات قريبا إذا لم تتحرك الشركات بسرعة وتقوم بتفعيل سياسة الأزمات، وتأسيس مزودات خدمة في الولايات الآمنة”.
المهندس: أشرف عبد الرحمن
وينبه أشرف، إلى أنه من الممكن أن يصبح السودان بلا اتصالات قريبا إذا لم تتحرك الشركات بسرعة وتقوم بتفعيل “سياسة الأزمات”، فينبغي عليها المسارعة في تأسيس مزودات خدمة في الولايات الآمنة، فهو شيء مكلف مادياً ويتطلب وقت لكنه ضروري لإنقاذ الموقف.
وتعمل في السودان 4 شركات اتصالات وهي زين، سوداني، أم تي أن، للهاتف السيار، إضافة إلى شركة كنار للهاتف الثابت، وجميعها مزود للجمهور بخدمة المكالمات الصوتية والانترنت.
وتشير إحصاءات غير رسمية إلى أنه من بين سكان السودان المقدر عددهم بحوالي 43.33 مليون نسمة، يستخدم منهم 13.38 مليون نسمة الانترنت، فيما يستخدم الموبايل “الهاتف المحمول” 32.83 مليون شخص بما يعادل 76% من مجموع السكان، في حين تبلغ نسبة التغطية بخدمة الاتصالات في البلاد 60%.
وكانت خدمات الاتصالات والانترنت رديئة حتى قبل اندلاع حرب الخامس 15 أبريل نتيجة لعدم استجابة الشركات للكم الهائل من المشتركين بتوسعة البنية التحتية من محطات ربط شبكي وغيرها، لكن وضعها وصل مراحل متأخرة عقب اندلاع القتال، فقد انقطعت الخدمة بشكل كامل عن مناطق واسعة بإقليم دارفور وكردفان وجزء من العاصمة الخرطوم، وصارت ولاية الجزيرة ونهر النيل المتاخمة لمناطق القتال مهددة بالمصير نفسه.
وتقول منظمة “نت بلوكس” التي تُعنى برصد الوصول الى شبكة الانترنت في العالم ومقرها العاصمة البريطانية لندن خلال تقرير صدر في 23 أبريل الماضي واطلعت عليه (عاين)، إن “بيانات الشبكة تظهر انهيار شبه كامل للاتصال بالإنترنت في السودان، حيث تبلغ نسبة الاتصال الوطني حاليا 2% مقارنة بالمستويات العادية”.
الخرطوم تعاني
التدهور المريع في خدمة الاتصالات والانترنت تفاقم محنة الحرب على السكان في الخرطوم، فلم يتمكنوا من طمأنة معارفهم وأقاربهم خارج العاصمة في أغلب الأحيان فيزداد القلق المتبادل في ظل غزارة الأخبار السيئة التي تتناقلها الوسائل الإعلامية بتزايد وتيرة العنف والمعارك العسكرية بين الجيش وقوات الدعم السريع.
ويقول علي الطيب، وهو أحد السكان العالقين في ضاحية امبدة غربي العاصمة السودانية لـ(عاين): “نواجه صعوبات كبيرة مع رداءة الاتصالات وفي بعض المرات تنقطع بالكامل لمدة ثلاثة أيام باستمرار وتزيد عن ذلك في بعض الأحيان، فلا نستطيع التواصل مع أقاربنا ومعارفنا حتى نطمئن على بعضنا البعض وفي ظل احتدام المعارك نعيش في حالة قلق مستمر”.
ويعود انقطاع الاتصالات في العاصمة السودانية الى تذبذب التيار الكهربائي والذي يؤدي بدوره إلى خروج محطات الربط الشبكي “الأبراج” عن الخدمة، فضلا عن تعرض العديد من المحطات الى التدمير مع صعوبة وصول فرق الصيانة لاشتداد المعارك وغياب المسارات الآمنة، وذلك حسبما نقله مصدر بإحدى شركات الاتصالات لـ(عاين).
وفيما يقول المواطن علي الطيب:”نفقد الاتصالات مع كل انقطاع للتيار الكهربائي بمنطقتنا وهذا أمر يتكرر مع كل معركة أو قصف مدفعي أو بالطائرات حيث تتعرض الأسلاك والاعمدة للتلف ولا توجد أي جهة تتولى عملية الصيانة، ويقوم السكان بجمع المبالغ من بعضهم البعض ودفعها لمهندسي الكهرباء مقابل إصلاح العطل”.
ويضيف:”نحن نعيش باستمرار في هذه الحالة وتستقطع من قوتنا لإصلاح التيار الكهربائي حتى نتمتع بخدمة الكهرباء والاتصالات والانترنت، فبالرغم من ردائتها إلا أنها تجعلنا في حالة تواصل مع أهلنا لنطمئن على بعضنا البعض”.
مصاعب المصارف
وإلى جانب تأثيراته الواسعة على عملية التواصل الاجتماعي، تسبب ضعف الاتصالات في مصاعب اقتصادية كبيرة على السكان الذين أصبحوا يعتمدون بشكل أساسي على التطبيقات المصرفية عبر الهاتف المحمول في عمليات سحب وإيداع وإرسال الأموال وذلك بعد أن تسببت المعارك العسكرية في اغلاق البنوك في الخرطوم ومناطق واسعة في إقليمي كردفان ودارفور.
ويقول ميرغني محمد – أحد المواطنين العالقين في أمدرمان في مقابلة مع (عاين): “حياتنا صارت متوقفة على تطبيق بنكك التابع لبنك الخرطوم، فبدونه لن نستطيع الحصول على الغذاء، حيث نحصل بموجبه على الاعانة من اقاربنا ميسوري الحال خارج الخرطوم والمغتربين”.
“هناك تذبذب كبير في خدمة تطبيق بنكك وفي بعض الأحيان تنقطع بشكل متواصل لثلاثة أو أربعة أيام، فمن دونه لن نستطيع الحصول على الأموال لشراء الغذاء، فلا توجد فروع بنكية تعمل حتى نصرف المبلغ من النافذة، وبالتأكيد نعيش مخاوف كبيرة من انقطاع هذه الخدمة”. يضيف ميرغني.
ويعيش السكان في إقليمي دارفور وكردفان أوضاع مماثلة لما يجري في الخرطوم حيث خرجت المصارف عن الخدمة في غالبية مدنها بما في ذلك المناطق التي لم تشهد معارك عسكرية، وذلك نتيجة لانقطاع خدمة شبكة الانترنت والاتصالات خاصة شركة “سوداني” مزود الخدمة الأساسي لقطاع المصارف في البلاد.
وبحسب الصحفي المقيم في ولاية شرق دارفور محمد صالح البشر، فإن مواطني مدينة زالنجي يضطرون للسفر الى منطقة “سرف عمرة” التي تبعدهم بنحو 200 كم، من أجل التعامل مع تطبيق الموبايل المصرفي لأخذ الأموال من ودائعهم البنكية، ويدفعون 50 ألف جنيه سوداني عن كل فرد مقابل تذكرة السيارة التي تقلهم.
ويقول صالح في مقابلة مع (عاين):”يستمر هذا الوضع المأساوي منذ ثلاثة أشهر.. المواطنون قليلي الحيلة لا يستطيعون الحصول على ودائعهم المصرفية لدى البنوك التي أغلقت أبوابها، بينما تتعثر التطبيقات المصرفية نتيجة سوء الاتصالات والانترنت الذي عطل كذلك عملية التواصل بين المواطنين”.
فقدان مزود
يكشف عضو نقابة تكنولوجيا المعلومات الاتصالات المهندس، “أشرف عبد الرحمن”، عن فقدان السودان مزود خدمة اتصالات عالمي بسبب هذه الحرب، بينما استباحت القوات العسكرية مقار مزودات الخدمة ومواقع الربط الشبكي و”الداتا سنتر” لشركات الاتصالات الأربع والتي تقع في عمق العاصمة الخرطوم وتشهد معارك ضارية، بجانب تضرر موقع الأقمار الصناعية (ام حراز) جراء القصف وهو ما أدى لتدهور الخدمة في العاصمة والولايات فهي جميعها تتغذى من مزودات الخدمة المركزية.
ويوضح خلال مقابلة مع (عاين)، أن البنوك وتطبيقات الصرف الالكترونية مثل “بنكك” تتغذى من مزود خدمة منفصل مقره في ضاحية السجانة جنوبي الخرطوم وليس له علاقة بشبكة الإنترنت، فهذه المنطقة تشهد معارك عسكرية واسعة ويصعب على اتيام الصيانة الوصول إليه ومن هنا تتوقف الخدمة من وقت لآخر.
ويقدر أشرف، نسبة أداء شركة زين كبرى شركات الاتصال في السودان، بالخرطوم بـ15%، وفي إقليم دارفور بلغ الأداء 5% الى أن تراجع ووصل مرحلة فقدان التحكم على مراقبة مواقع الربط الشبكي 0%، كما تراجعت نسبة تقييم الأداء في شمال ولاية الجزيرة ووصلت 10%، وذلك نتيجة توقف أعمال الصيانة.
ويشير عبد الرحمن، إلى أن تدهور خدمات الاتصالات ألقى بأعباء إضافية على المواطنين الذين يعانون من تردي الأحوال الأمنية، ويعود ذلك بشكل رئيسي الى اتساع رقعة المعارك وتوقف عمليات الصيانة وانقطاع التيار الكهربائي وتعذر نقل الوقود لمولدات الاحتياطي.
ويشير مصدر بشركة ام تي ان، تحدث لـ(عاين) إلى أن نسبة تغطية الشركة تراجعت من 60% الى 20% من أنحاء السودان، وذلك نتيجة لتدمير العديد من محطات الربط الشبكي و”سويتشات” رئيسية في العاصمة الخرطوم، لافتاً الى عدم قدرتهم على إجراء الصيانات الدورية والطارئة نسبة لاحتدام المعارك العسكرية.
تأثير اقتصادي
ولم تتوقف تداعيات أزمة الاتصالات عند حد معاناة المواطنين في تواصلهم الاجتماعي ومعاشهم، لكنها تمتد لتلقي بانعكاسات سلبية على الاقتصاد السوداني الكلي، وفق الخبير الاقتصادي إبراهيم أونور.
ويقول أونور في مقابلة مع (عاين):”في الفترة الأخيرة تحول الاقتصاد السوداني إلى رقمي تتم غالبية معاملاته بوسائل الدفع الالكترونية، فتوقف الاتصالات والانترنت خلف خسائر كبيرة يصعب حصرها بشكل دقيق، فالفترة التي أعقبت الحرب شهدت اقتصاد ركودي لذلك ربما تكون الخسائر غير مباشرة سوف تظهر تداعياتها مستقبلا”.
“تدهور الاتصالات أدى الى شلل جزئي في نشاط الدولة خاصة القطاع المصرفي والمالي الذي يواجه انقطاع شبه كامل بسبب حرب 15 أبريل ونخشى من الوصول إلى شلل كامل حال استمر الصراع”. يقول الخبير المصرفي محمد عصمت، في مقابلة مع (عاين).
ويشير إلى أن أهم تأثيرات الحرب على القطاع المصرفي والمالي هو فقدانه لما تبقى من ثقة الجمهور به، فتذبذب وتوقف خدمات الاتصالات لعب دوراً كبيراً في عدم تسهيل عملاء المصارف من الوصول الى أموالهم المودعة في مناطق واسعة من السودان عدا بنك الخرطوم من خلال تطبيقه الالكتروني الذي استطاع أن يسد فراغاً كبيراً.
ويضيف عصمت:”خروج عدد كبير من المصارف من تقديم خدماتها وتوقف تطبيقاتها الالكترونية، كان أحد أسبابه هو ما طرأ على قطاع الاتصالات من تذبذب وهي خدمة بالطبع لا توفرها إلا شركات الاتصالات العاملة في البلاد”.