في طويلة.. النازحون يواجهون أسوأ أزمة إنسانية

عاين– 24 أبريل 2025

في طريق النزوح من مخيم زمزم جنوبي مدينة الفاشر، إلى محلية طويلة في ولاية شمال دارفور غربي السودان، واجهت هاجر محمد إبراهيم شبح الموت هي وأطفالها خلال رحلة قاسية استمرت ثلاثة أيام سيراً على الأقدام، وكتبت لها النجاة، وهي تكاد لا تصدق ذلك، بعدما توفرت كل الأسباب لوفاتها.

وفي أرض النجاة “طويلة” تصطدم هاجر ونحو 450 الف نازح من زمزم والفاشر فروا بعد الهجمات الأخيرة وفق الأمم المتحدة، واقع أكثر قسوة حيث تنعدم سبل الحياة، فهناك مساحة آمنة بلا أكل وشرب وإيواء وعلاج، وهم يواجهون مصيراً مظلماً، وسط تحذيرات من كارثة إنسانية في المنطقة حال لم تحدث تدخلات سريعة.

نزفت أقدامنا دما بسبب المشي، والأمباز أنقذ حياة أطفالي خلال رحلة فراري من مخيم زمزم إلى طويلة

نازحة

عايشت هاجر هجوم مكثف شنته قوات الدعم السريع يوم الجمعة مطلع أبريل الجاري. “كانت ليلة مظلمة تضيئها الطائرات المسيرة والمدافع، والنيران التي اشتعلت في المنازل المشيدة بالمواد البلدية، فتسللت بصعوبة من المخيم حيث كان يمنع الخروج برفقة أطفالي، وجالون صغيراً ملئ بالماء، وقليل من الأمباز -متبقي الفول السوداني أو السمسم بعد عصره واستخراج الزيت-” تقول هاجر لـ(عاين) من مقر نزوحها في بلدة طويلة.

لم تكن هذه السيدة تدري إلى أين هي ذاهبة، فقط سارت خلف آلاف المواطنين الفارين من مخيم زمزم، تحت كثافة النيران، وهي تواصل المشي والجري أحيانا حتى تخدشت قدماها هي وأطفالها، وصارت تنزف دماً، في وقت يداهمهم الجوع والعطش، خلطت الأمباز مع قليل وأطعمته للصغار، بينما امتنعت هي عن الشرب حتى لا ينفد، وظلت على هذا الوضع ثلاثة أيام قبل أن تصل إلى تخوم طويلة، وتجد متطوعين ينقذونها.

رحلات قاسية

تلك هي رواية واحدة تعكس رحلات نزوح قاسية خاضها آلاف المواطنين من مدينة الفاشر ومخيم زمزم، إلى محلية طويلة بعد أن تصاعدت الهجمات العسكرية مع مطلع أبريل الجاري، إذ عاشوا خلالها مرارات الفقد والنهب والضرب والإذلال، والجوع والعطش، حيث كان معظمهم فارين سيراً على الأقدام لقطع مسافة نحو 64 كيلومتر.

يقيم آلاف النازحين في طويلة في العراء، وشح الطعام، وسط تردي بيئي نتيجة لعدم وجود حمامات، وهناك جهود بإمكانيات محدودة من المجتمع المحلي وغرفة الطوارئ.

 مراسل عاين

يفترش النازحون في محلية طويلة الأرض تحت ظلال الأشجار، وسط تردي بيئي نظرا لعدم وجود دورات مياه، وهم بلا شيء ينتظرون رحمة السماء، في ظل غياب التدخلات المناسبة لمعالجة أوضاعهم، بينما يقوم المجتمع المحلي ومتطوعون وبعض المنظمات بجهود، لكنها متواضعة مقارنة بمستوى الحاجة- وفقا لمراسل (عاين).

تجتمع الأم طريق النزوح مع الواقع الإنساني المتدهور في طويلة عند الفارين، فما تزال بطونهم خاوية، ويقيمون في العراء وهي وضعية قاسية خاصة على الأطفال والأشخاص كبار السن، وهو ما يحزن النازحة أم كلتوم ويؤلمها بشكل أشد من رحلة الموت التي خاضتها مؤخرا، وتقول لـ(عاين) “أطفالي لا ينامون ليلاً من شدة الجوع، لا يوجد طعام”.

 شاهدت أم كلتوم الأطفال وكبار السن، وهم يموتون في الطريق من الفاشر إلى طويلة، بينما يعاني الأطفال الذين تمكنوا من الوصول من سوء تغذية ووباء في العيون، في غياب تمام للأدوية، وقد تم منح بعض الحالات المرضية من كبار السن علاجات محدودة للأمراض المزمنة، ولم يحصل الغالبية على الرعاية الطبية، وفق رواية هذه السيدة.

تحذيرات أممية

ويصارع النازحون في طويلة الجوع والمرض في ظل ضعف التدخلات، بينما يتواصل التدفق مع استمرار العنف في الفاشر إلى محلية طويلة في جبل مرة، والتي تخضع إلى سيطرة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور وهي محدودة الإمكانيات، مقارنة بالعدد الكبير من النازحين الذي تأويهم، وتشكلت غرفة طوارئ طويلة والتي بدأت في إعداد طعام جاهز وتوزيعه على النازحين.

3 ملايين نازح وصلوا إلى مناطق سيطرة حركة جيش تحرير السودان قيادة عبد الواحد نور 
رئيس السلطة المدنية
وتقدر السلطة المدنية في “حركة جيش تحرير السودان- قيادة عبد الواحد محمد نور”، بأن 3 ملايين نازح وصلوا إلى مناطق سيطرة الحركة. وقال رئيس السلطة، مجيب الرحمن محمد الزبير لـ(عاين)، إن النازحين يتوزعون في مناطق عديدة بجبل مرة.

وفي 20 أبريل الجاري، أعلنت منسقة الأمم المتحدة المقيمة للشؤون الإنسانية في السودان، كليمنتين نكويتا سلامي، عن نزوح 400 – 450 الف شخص من مخيمي زمزم وأبو شوك في محيط الفاشر إلى محلية طويلة والمناطق المحيطة بجبل مرة.

يأتي ذلك في وقت يواجه فيه المجتمع الإنساني في السودان تحديات تشغيلية حرجة ومتزايدة في ولاية شمال دارفور، نتيجةً للنزوح القسري والواسع النطاق للمدنيين جراء هجوم الدعم السريع الأيام الماضية على مخيم زمزم وحصارها لمدينة الفاشر، وفق المسؤولة الأممية.

وأكدت كليمنتين في بيان صحفي يومها تفاقم الوضع الإنساني؛ بسبب ارتفاع مستويات انعدام الأمن الغذائي، مع تزايد انقطاع النازحين عن سلاسل الإمداد والمساعدات، مما يعرضهم لخطر متزايد من تفشي الأوبئة وسوء التغذية والمجاعة.

نزوح الآلاف من مخيم زمزم إلى مناطق طويلة بولاية شمال دارفور

وعاش النازحون الذين وصلوا إلى طويلة تجارب مماثلة في مشوار الفرار، وخرجت أم كلتوم من منزلها بحي جفلو في مدينة الفاشر عند الساعة 12 ليلا يوم الجمعة مطلع أبريل الجاري مع بدء الهجوم على المدينة بطائرات المسيرة المدفعية الثقيلة ومختلف أنواع الأسلحة، وكانت تنوي الذهاب نحو مخيم زمزم، لكن قوة مسلحة منعتهم من الذهاب إليه، نظرا لأنه يشهد معارك كذلك.

تروي لـ(عاين) أنها، ومن معها ساروا بأقدامهم طوال الليل، ووصلوا إلى منطقة سلومة، قبل أن يغادروها في اليوم التالي، إلى منطقة إنجمينا في الطريق نحو طويلة، عندها اعترضهم مسلحون لم يتمكنوا من تحديد هويتهم نتيجة الظلام، فنهبوا المقتنيات القليلة التي بحوزتهم بما في ذلك طعام قليل ومياه شرب يحملونها للأطفال وكبار السن.

كفاح لأجل البقاء

وتقول أم كلتوم: “جردونا من كل شيء حتى الثياب والأحذية، كما نهبوا الدواب والأغنام التي كان يصطحبها بعض الفارين، وأهانوا الكثير من الشباب واقتادوا بعضهم، لقد فقدنا الكثير من الأرواح في الطريق، وهناك من لا نعرف مصيرهم حتى الآن، هل هم أحياء أم توفوا، وهذا يؤلمنا للغاية، لأن الذي مات ودفن يكون مصيره معلوما”.

بعد رحلة الموت التي خاضتها، تكافح أم كلتوم من أجل البقاء وسط انعدام الغذاء ونقص مياه الشرب والرعاية الطبية، وهي تطلق مناشدة إلى الجهات الإنسانية للتدخل العاجل ومساعدتهم بالطعام والأدوية، والمشمعات وشتى مواد الإيواء، كما تمني نفسها بتوقف الحرب والعودة إلى منزلها في الفاشر والعيش في سلام.

ومن فقدوا في طريق النزوح يمثلون الهاجس الأكبر لذويهم الذين وصلوا إلى محلية طويلة، وهي كحالة يوسف علي محمد أبو اليمن وهو معاون طبي بالمعاش، والذي يتألم لفقد شقيقته، وشقيقة زوجته عندما كانوا يفرون من مدينة الفاشر إلى طويلة.

ويقول أبو اليمن لـ(عاين): “كانت شقيقتي وحماتي يتقدمان لنا، وفقدناهما في الطريق من شدة الزحام، كان الناس يسيرون بالآلاف على الأقدام وآخرين على الدواب، فهناك عمليات تفتيش وضرب ونهب للشباب، ولم نعثر عليهما بعد، نتمنى أن تتوقف هذه الحرب”.

الكثيرون ماتوا بسبب الجوع والعطش خاصة الأطفال والأشخاص كبار السن، وندعو أطراف الحرب إلى تحكيم صوت العقل ووقف معاناة الشعب السوداني

 نازح

شاهد إبراهيم عبد الله خاطر، الموت في الطريق من الفاشر، حيث تمكن من مواراة جثمان سيدة كبيرة في السن بيديه، توفيت بعدما هزمها طول ووعورة الطريق، “الكثيرون ماتوا بسبب الجوع والعطش خاصة الأطفال والأشخاص كبار السن”. وفق ما يقوله لـ(عاين).

“هذه المعاناة يجب أن تتوقف، نحن نقيم في العراء حاليا، بلا طعام ولا شراب ولا علاج، نحث الجميع للتحرك العاجل لإغاثتنا، كما نأمل أن يحكم أطراف الصراع صوت العقل، ويوقفوا هذه الحرب يكفي الشعب السوداني مآسي” يضيف إبراهيم.

عطش

وإلى جانب نقص الإيواء يواجه النازحون في طويلة صعوبات في الوصول إلى مياه الشرب نسبة لقلة مصادر المياه في المنطقة، وتقف النازحة بخيتة آدم يعقوب في صف طويل حول مضخة المياه يوميا من أجل الحصول على جالون من المياه.

وتقول بخيتة لـ(عاين): “نعاني بشدة مع المياه، حيث لا توجد أواني لتخزين المياه، وليس لدينا دواب لنقل المياه من البيارة، لقد تركنا كل شيء خلفنا في الفاشر وزمزم، نحن بحاجة شديدة إلى جركانات، ومشمعات، بجانب الطعام والأدوية”.

“الوضع مزر في منطقة طويلة بعد وصول آلاف النازحين إليها مؤخرا، إضافة إلى النازحين الموجودين فيها أصلاً من العام 2023م، ووصل العدد إلى أكثر مليون نازح، هذا بخلاف السكان المحليين فيها، يقول المتحدث باسم منسقية النازحين واللاجئين في السودان” آدم رجال لـ(عاين).

الوضع مزر في طويلة إذا لم تصل المساعدات سريعاً نتوقع أن يموت الناس جوعاً وعطشاً في هذه المنطقة

منسقية النازحين واللاجئين

ويشير رجال، إلى أن المنطقة تواجه تحديات كبيرة، حيث فقد النازحون القادمين من الفاشر وزمزم كل ما لديهم، وخرجوا من منازلهم بلا شيء، حتى الذين استطاعوا حمل بعض الأغراض نهبت منهم في الطريق، وتعرضوا إلى انتهاكات كبيرة، مما جعل الحاجة ماسة لوقفة صلبة مع هؤلاء النازحين لإغاثتهم وتقديم الدعم اللازم لهم.

ويضيف “هناك جهود كبيرة يبذلها المجتمع والسلطات المحلية في طويلة وغرف الطوارئ وبعض المنظمات الإنسانية، لكن الوضع الإنساني يفوق طاقتهم، فالحاجة كبيرة وفي حالة الطوارئ القصوى، مما يتطلب تدخلات لتوفير الغذاء ومياه الشرب والأدوية المنقذة للحياة، ومواد الإيواء مثل المشمعات والناموسيات والبطاطين وملابس الأطفال، والأحذية وغيرها”.

نزوح الآلاف من مخيم زمزم إلى مناطق طويلة بولاية شمال دارفور

وحث آدم رجال المجتمع الدولي بكل أطيافه الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية لأن يتحرك بشكل عاجل لإنقاذ حياة النازحين في طويلة وهم أغلبهم من الأطفال والنساء، ويواجهون ظروفاً مريرة، فهناك مسارات يمكن أن تصل عبرها الإغاثة، ويقول “إذا لم تصل المساعدات سريعاً نتوقع أن يموت الناس جوعاً وعطشاً في هذه المنطقة”.

شبح الجوع والعطش لم يتوقف عن مطاردة النازحين في مخيمي زمزم وأبو شوك في محيط مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، فقد كتب عليهم رحلة نزوح طويلة؛ بسبب الحرب التي اندلعت في الإقليم عام 2003م، وهم يواجهون مصير نزوح ثاني أكثر قسوة من الأول، بحسب ما عبرت عنه النازحة التي وصلت من زمزم إلى طويلة هاجر محمد إبراهيم، وهي تجلس في العراء وتردد سؤالاً إلى متى نظل نازحين؟، “لقد تعبنا”.

ولم تكن هاجر بحاجة إلى أزمة إضافية، فالواقع الذي كانت تواجهه في مخيم زمزم كفيل بإنهاء حياتها، فقد كانت تعمل كعاملة طلبة في المباني، بالكاد تستطيع شراء الطعام، وفي بعض المرات لا تحصل على أي شيء، قبل أن تأتي الهجمات العسكرية على المخيم وتعمق جراءها، فقد حرق منزلها، وأصيب زوجها بجروح، قام أقاربه بإجلائه إلى منطقة أخرى، بينما لجأت هي إلى طويلة لتواجه مصيرا مجهولا مع آلاف الفارين، وهم ينتظرون من يتدخل لإغاثتهم وتحفيف المهم، وفق ما ختمت به حديثها لـ(عاين).

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *