تجويع ممنهج.. مدن سودانية تحت الحصار والجوع
عاين- 6 سبتمبر 2025
مع استمر الحرب في السودان لأكثر من عامين، تزداد الأوضاع الإنسانية سوءا، وأصبح فقدان الأمن والغذاء سمة يومية لحياة الملايين، في وقت شكّلت غرف الطوارئ المجتمعية شريان الحياة الوحيد، لكن حتى هذه المبادرات الشعبية باتت تواجه الخنق بالبيروقراطية والاستهداف بالقمع والعنف الممنهج ضد المتطوعين من قبل طرفي الحرب الأمر الذي عده المتطوعون “تجويعا ممنهجا للسودانيين العالقين في مناطق النزاع“.
تقول السلطات المحلية في بعض الولايات الخاضعة لسيطرة الجيش، لا سيما العاصمة الخرطوم، إن الإشراف الجديد على غرف الطوارئ، عبر إلزام المبادرات بالتسجيل في مفوضية العون الإنساني، يهدف إلى ضمان الشفافية والمساءلة في توزيع المساعدات. الأمر الذي رفضه متطوعون، وعدوه محاولة لتفكيك آخر شبكات الدعم الفاعلة في العاصمة. وقال عدد منهم لـ(عاين): أن “البيروقراطية، والتحكم في من يُسمح له بتوزيع الغذاء والمساعدات بذريعة التخوفات السياسية، تحولت إلى (سلاح تجويع)، أدى إلى تعطيل في وصول المساعدات إلى حرمان آلاف الأطفال والأسر من الغذاء والعلاج”.
وتحذر الأمم المتحدة من أن السودان يواجه أزمة مجاعة غير مسبوقة، حيث يعيش أكثر من 638 ألف شخص في أوضاع كارثية تعادل المرحلة الخامسة من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، خاصة في مخيمات زمزم وأبو شوك والسلام بشمال دارفور، إلى جانب مناطق في جبال النوبة الغربية ووفقاً تقارير أممية صادرة في ديسمبر 2024 وفبراير 2025، فإن المجاعة تفشت بالفعل في خمس مناطق على الأقل مع توقع توسعها إلى مناطق إضافية خلال الأشهر المقبلة، فيما يواجه نحو 24.6 مليون شخص أي ما يقارب نصف سكان البلاد مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي.
الخرطوم شح الإغاثة وتسييس الغذاء
يشير عضو غرفة طوارئ جنوب الحزام علي عمر محمد في مقابلة مع (عاين)، إلى إن قضية الإغاثة في العاصمة، خاصة في جنوب المدينة بمناطق مثل جنوب الحزام والكلاكلة، تُعد من القضايا الأكثر إلحاحًا، وأوضح أن ما يُقدَّم من مساعدات لا يتوافق مع المعايير المعمول بها في المنظمات الدولية، وينوه بأن المساعدات وصلت إلى المنطقة التي يقيم بها مرتين فقط، الأولى في أواخر يونيو، حين وُزِّع كيس أرز بوزن 50 كيلوغرامًا على 16 شخصًا، وهو ما “لا يكفي ليوم واحد”، على حد قوله. أما المرة الثانية، في يوليو، فجاءت على شكل زيت وملح ودقيق وعدس، لكن الكميات كانت ضئيلة للغاية.
ويوضح عمر أن مفوضية العون الإنساني- حكومية- هي المتحكمة في توزيع الإغاثة، عبر مندوبين يفتقرون للقدرة على رفع شكاوى نقص المساعدات، وأكد أن هذا الوضع يفاقم معاناة الأسر، في ظل توقف الكثير من “التكايا” (المطابخ الخيرية) عن العمل بسبب نقص المواد، وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية بشكل جنوني.
وتابع محمد: “هناك تمييز واضح في توزيع الإغاثة بين المناطق: في السلمة والصحافة تحصل أسرتان على كيس أرز بوزن 50 كيلو، بينما في مناطق أخرى تحصل أسرة واحدة فقط على الكيس ذاته، وهناك من ينال كيسين من الدقيق، بينما تكتفي أسر بكيس واحد”.

المتطوعة في العمل الإنساني والمطابخ الجماعية في الخرطوم، رنا الوليد تنوه في مقابلة مع (عاين)، إلى إن السلطات المحلية تتجاهل بشكل واضح التقارير الأممية التي تحذر من المجاعة، بينما تتنصل من مسؤوليتها في دعم الأسر المتضررة، رغم تفشي أمراض مثل الكوليرا وحمى الضنك التي تتطلب حصول المواطنين على وجبات صحية ومتوازنة.
وتضيف رنا: “تكميم أفواه المتطوعين هو شكل من أشكال الحرب، إذ يُسهم في تجويع الآلاف عبر منع أصواتهم من الوصول إلى الجهات الإنسانية الدولية.. والتضييق على المبادرات المجتمعية يزيد عزلة السكان عن أي دعم حقيقي”.
ظهور مجموعات سياسية تعمل تحت غطاء إنساني مثل “كتائب الإسناد المدني – سند”، التابعة للحركة الإسلامية، والتي تسعى إلى السيطرة على التنظيمات القاعدية الشعبية مثل التكايا، واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية
متطوعة في الخرطوم
كذلك، تشير رنا، إلى ظهور مجموعات سياسية تعمل تحت غطاء إنساني مثل “كتائب الإسناد المدني – سند”، التابعة للحركة الإسلامية، والتي تسعى بحسب رنا إلى السيطرة على التنظيمات القاعدية الشعبية مثل التكايا، واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، عبر التنسيق مع مفوضية العون الإنساني في توزيع المساعدات.
وقالت: إن “تحويل الغذاء إلى أداة للصراع السياسي يمثل أحد أخطر أشكال الانتهاكات، إذ يُستخدم التجويع كسلاح لمعاقبة المجتمعات أو إخضاعها”، وتؤكد أن عدداً من المتطوعين الذين انخرطوا خلال فترة الحرب في تقديم المساعدات تعرضوا لأبشع أنواع الانتهاكات من الجهات الأمنية وعدد كبير منهم معتقلين في أماكن غير معروفة حتى الآن.
وتابعت رنا: أن “محاولات التسجيل الرسمية للمبادرات المحلية كثيراً ما تنتهي بالفشل نتيجة المماطلة المتعمدة والتأخير في الإجراءات. وتروي قصة إحدى غرف الطوارئ في الخرطوم التي تقدمت بطلب تسجيل لدى مفوضية العون الإنساني، لكن أعضاءها تعرضوا للطرد من مكاتب المفوضية، حيث جرى التعامل مع مطلبهم بقدر كبير من الاستهتار والتسويف، ما أدى إلى تعطيل عملهم وحرمان آلاف الأسر من المساعدات التي كانوا يخططون لتقديمها”.
الفاشر .. حصار وجوع
تروي فاطمة الحاج، طبيبة في إحدى المنظمات المحلية نازحة من الفاشر إلى خيام النزوح في الدبة شمالي السودان، كيف عاشت آخر ثلاثة أشهر لها داخل المدينة. وتقول إنها كانت تقيم مع أسرتها في الخنادق تحت الأرض، وسط حركة شبه معدومة وانعدام تام للغذاء، بفعل الحصار المفروض على المدينة. وتضيف لـ(عاين): “نحن ضحايا لصراع الأطراف المتنازعة، فالحكومة في بورتسودان تزعم أنها ستنقذ الفاشر، لكن لا يتم أي إسقاط جوي أو تدخل فعلي، بينما الدعم السريع يروج لفتح مسارات آمنة للخروج، في حين تُنهب ما تبقى من الأغذية والأموال”.
سلاح التجويع لا يمس الجيش أو المقاتلين، بل نحن المدنيون وحدنا من ندفع ثمنه، في صمت وتتضاعف قسوته كل يوم
نازحة من الفاشر بمدينة الدبة
وترى فاطمة، أن معاناة المدنيين باتت رهينة حسابات سياسية وعسكرية، حيث لا يكترث أي طرف من أطراف النزاع بالوضع الإنساني سوى لاستخدامه وسيلة لتجريم الطرف الآخر أمام المجتمع الدولي. وتصف التجويع الممنهج بأنه السلاح الأخطر الذي يفتك بالمدنيين بصمت، ويحرم الأطفال والأسر من حقهم في الحياة.
وتشير فاطمة، إلى أن سياسة التجويع التي ينتهجها الدعم السريع عبر حصار المدينة وقصف المساعدات الإنسانية وفرض رسوم باهظة على من يحاولون المغادرة، حولت الطعام والنجاة إلى امتياز لا يملكه سوى القادرين على الدفع. وتؤكد أن هذا السلاح الحربي لا يمس الجيش أو المقاتلين، بل نحن المدنيون وحدنا من ندفع ثمنه، في صمت تتضاعف قسوته كل يوم.
يقول عضو الاتصال بغرفة طوارئ معسكر أبو شوك، محمد آدم، في حديثه لـ(عاين)، إن المخيم فقد خلال الأشهر الأربعة الماضية أكثر من ستين شخصاً بسبب الجوع، معظمهم من الأطفال. ويشير إلى أن غالبية الأطفال الذين ما زالوا على قيد الحياة يعانون سوء تغذية حاد، إذ لم يجد الأهالي سوى علف الحيوانات المعروف بـ”أمباز” وبقايا المحاصيل، يخلطونه بالماء لتقديمه كوجبة وحيدة للأطفال.
ويشير محمد آدم، إلى أن الأهالي يطلقون نداءً عاجلاً للمنظمات المحلية والدولية والجهات المانحة لتوفير سلال غذائية أو مساعدات مالية، تمكنهم من إعداد وجبات تسد الرمق. ويوضح أن غرفة طوارئ واحدة فقط ما زالت تعمل، بالكاد تغطي مئة أسرة، بينما آلاف الأطفال يواجهون شبح المجاعة.

ويتابع: كذلك “أزمة المياه تزيد الوضع سوءاً، حيث يعتمد السكان على مضخات تعمل بالطاقة الشمسية والوقود، لكن الألواح قليلة والوقود باهظ الثمن، إذ بلغ سعر البرميل أربعة ملايين جنيه سوداني، وهو ما جعل الحصول على مياه الشرب أمراً شبه مستحيل”. ويضيف: أن “القطاع الصحي منهار تماماً، فلا أدوية ولا محاليل وريدية أو حتى ضمادات، فيما يموت الجرحى بسبب عجز سيارات الإسعاف عن الحركة لعدم توفر الوقود”.
يعتبر محمد آدم أن الطرق غير الآمنة حول المعسكر ضاعفت المعاناة، إذ يتعرض المدنيون للنهب والقتل والاعتقال على يد قوات الدعم السريع، بينما لا يتوقف القصف اليومي على المخيمات. ويختتم قائلاً: نحن نموت جوعاً، ونطالب العالم بأن يسمع صوتنا. نحتاج إلى مساعدات إنسانية عاجلة، ونطالب طرفي الحرب بفتح الطرق والسماح بدخول الغذاء والدواء، ووقف العنف ضدنا.
كادوقلي والدلنج.. معاناة مضاعفة بعد توقف المساعدات
عضو غرفة طوارئ كادقلي، عاصم محمد يقول لـ(عاين): إن “الأزمة الإنسانية في المدينة انعكست مباشرة على حياة السكان بعد توقف المساعدات، وأضاف تلك المساعدات التي شملت الغذاء والدعم النقدي والمطابخ الخيرية، كانت شريان الحياة للأسر ومع توقفها، انقلبت الموازين، وبدأ الفقر يطرق الأبواب بعض الأسر دفعتها الظروف للتسول، وأخرى تبيت على الجوع.
يشير عاصم، إلى أن الأوضاع تفاقمت، ووصل الأمر إلى تناول نباتات مثل “القش” لسد الجوع وعن أسباب هذه المعاناة قال عاصم: “تتردد أنباء عن جهات تعرقل وصول المساعدات عمدًا، سواء من خلال تقارير مضللة أو عبر منع دخول الشاحنات من قبل أطراف مسلحة”.
يرى عاصم، أن هناك شعوراً واسعاً بأن وقف المساعدات مقصود، ويهدف إلى إخضاع السكان عبر التجويع وحتى بعض التجار يستفيدون من الأزمة بزيادة أرباحهم على حساب معاناة الناس. وتابع عاصم: أن “كادقلي اليوم تعيش قصة صمود في وجه الجوع وسط محاولات محلية متفرقة لمحاربة اليأس، في ظل أزمة إنسانية مركبة لا تلوح في الأفق أي بوادر للحل”.

وتقول الناشطة والإعلامية سجدة كوكو من مدينة الدلنج لـ(عاين): إن “الوضع الإنساني يزداد سوءًا مع استمرار الحصار الذي تفرضه قوات الدعم السريع على مداخل المدينة، ما جعل الغذاء والدواء يصلان عبر طرق التهريب فقط، وبأسعار باهظة لا تقدر عليها معظم الأسر”، وتوضح أن مرور أي شحنة من المواد الغذائية مرهون برسوم وجبايات تفرضها الحواجز المسلحة، وهو ما أدى إلى تضاعف أسعار السلع وحرمان آلاف النازحين من الحصول على أبسط احتياجاته”.
وتروي سجدة، أن أعداد السكان في الدلنج ارتفعت بشكل كبير نتيجة موجات النزوح من القرى والمناطق المجاورة التي شهدت مواجهات مسلحة، وهو ما فاقم أزمة الغذاء منذ بداية حرب أبريل.
وتشير سجدة، إلى أنه وقبل قبل اندلاع الحرب، كانت معظم الأسر مكتفية ذاتيًا من زراعة ما حول منازلها، أو في الحواشات الزراعية، حيث تنتج الذرة والخضروات لتلبية احتياجاتها. لكن بعد الحرب، ومع استمرار الحصار، تحولت المدينة إلى بؤرة للجوع والأمراض، فيما أصبح الناس يعتمدون على وجبات محدودة وغير كافية.
تعتبر سجدة أن التجويع بات سلاحًا رئيسيًا في الحرب بجنوب كردفان، حيث يختنق المدنيون بين خطوط النار الجيش يسيطر على بعض المداخل الرئيسية، بينما تطوق قوات الدعم السريع مناطق واسعة وتغلق طرق الإمداد.