بعيون (لجان المقاومة).. الحرب والثورة السودانية؟
عاين- 24 ديسمبر 2024
في الذكرى السنوية لاندلاع الاحتجاجات الشعبية التي أنهت حكم الرئيس المخلوع عمر البشير في السودان، والتي صادفت يوم 19 ديسمبر الجاري، اصطف عدد من أعضاء لجان المقاومة في إحدى الساحات بمدينة أمدرمان، وأخذوا يرددون شعارات الثورة والتأكيد على أن جذوتها ما تزال متقدة، في مشهد جرى استقباله بمشاعر مختلطة بين الحزن والفرح بين المهتمين في البلاد.
وبالتزامن مع وقفة تأكيد الوجود التي نفذها منسوبو لجان المقاومة الذين من بينهم الناشط الطوعي مؤمن ود زينب، كانت نيران الحرب توالي التهام شعارات الثورة الشعبية، فأعمال القصف المدفعي والجوي تحصد أرواح المدنيين بالقرب منهم في أمدرمان، وكذلك في الخرطوم وإقليم دارفور غربي البلاد، لتنهي أحلام السلام، بينما يواصل مرتكبو هذه الجرائم الإفلات من العقاب؛ مما ينسف آمال العدالة، كما تُنْتَهَك الحرية باعتقالات تعسفية من طرفي القتال.
وتحولت الشوارع والميادين من احتضان المحتجين السلميين للتعبير عن تطلعاتهم في الحرية والسلام والعدالة، لتكون مساحة لحركة الآليات العسكرية والقتال، كتجلٍ للحرب المستمرة في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع لأكثر من عام ونصف، وتكاد تكون قضت على مكتسبات ثورة ديسمبر وما صاحبتها من تضحيات، بحسب ما يراه أعضاء في لجان المقاومة.
وبرزت لجان المقاومة كمحرك أساسي للاحتجاجات الشعبية عقب الانقلاب العسكري الذي نفذه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر من العام 2021م على الحكومة الانتقالية التي كان يرأس مجلس وزرائها د. عبد الله حمدوك، وبعد اندلاع الحرب الحالية انخرطوا في العمل الطوعي لمساعدة النازحين والمتأثرين بالصراع تحت مظلة “غرف الطوارئ”.
خيانة للثورة
ويرى المتحدث الرسمي لإعلان مبادئ ديسمبر، الطيب محمد صالح، أن الحرب الحالية بمثابة جريمة وخيانة لثورة ديسمبر وأهدافها النبيلة، وضربة قاصمة للمشروع الوطني لبناء دولة ديمقراطية عادلة.
ويضيف صالح في مقابلة مع (عاين): “تعرضت لجان المقاومة، التي كانت في طليعة النضال من أجل التغيير، لهجمات ومضايقات من جميع الأطراف المتقاتلة، مهددة أعضاءها بخطر مباشر، فالحرب إعادة السودان إلى مربع الصفر، مهددة بإلغاء جميع المكتسبات التي حُقِّقَت بشقاء وتضحية، فهي جريمة في حق الشعب وثورته”.
ومع ذلك لم تتوقف قوى الثورة مكتوفة الأيدي بعد اندلاع الحرب، فظلت تؤدي أدوار مهمة ومتعددة، رغم التحديات التي تواجهها مستندة على إرث وأخلاق الانتفاضة الشعبية، فتستمر لجان المقاومة في تقديم المساعدات للمتضررين من الحرب بشكل منظم، معتمدة على شبكاتها الواسعة وخبرتها في التنظيم والتوزيع من خلال غرف الطوارئ والتكايا، كما تسعى لحماية المدنيين من أعمال العنف باستخدام استراتيجيات ذكية تراعي الظروف الأمنية الصعبة، وفق الطيب الصالح.
وتابع: “لجان المقاومة تساهم في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان على نحو دقيق ومنهجي، مقدمة الشهادات والأدلة للمحافل الدولية والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان. كما تشارك في المبادرات السلمية، محاولة التوصل إلى حلول للحرب باستراتيجيات تراعي المعطيات السياسية والأمنية والاجتماعية على الساحة السودانية”.
وأفاد بأن الحرب تسببت في خسائر بشرية ومادية فادحة، وأدت إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعية والسياسية، ما يعوق أي محاولة للتوصل إلى حلول سلمية للنزاعات. كما أن الحرب تسببت في تدمير البنية التحتية، وتشريد المدنيين، وتفاقم الفقر والجوع، مخلفة آثاراً سلبية طويلة الأمد تعيق أي جهود للبناء والتنمية والسلام.
ولم تتوقف الحرب عند تبديد أحلام السلام والحرية والعدالة، لكن نيرانها امتدت لتلتهم وحدة وتماسك الشارع السوداني، الذي يشهد حالة من الانقسام في تأييد طرفي القتال، مع ارتفاع لغة الكراهية، وهو ما يعيق العودة إلى الزخم الثوري كما كان عليه الحال خلال الخمس سنوات الماضية التي أعقبت تفجر الثورة الشعبية.
وفي هذا الصدد، يقول عضو لجان المقاومة بالسودان، صهيب عثمان زمراي لـ(عاين): “ألقت هذه الحرب بظلالها الثقيلة على تحقيق أهداف الثورة في الحرية والسلام والعدالة، إذ صعد على إثرها خطاب الكراهية والعنصرية البغيضة التي تفتك بالنسيج الاجتماعي، وتأزم وضعه واستقراره”.
“هذه الحرب لم تضر فقط بالاستقرار، بل تسببت أيضاً في تشريد دعاة السلام والاستقرار والقوى السياسية التي كانت تسعى لبناء وطن مستقر ومزدهر”. يضيف صهيب.
ومثلما أدت دورا في إشعال لهيب الثورة الشعبية بعد انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، يعول كثيرون على لجان المقاومة في إبقاء جذوة الثورة متقدة، وتكون جاهزة لانطلاق جديدة بعد توقف الحرب الحالية، والاستمرار في طريق تحقيق شعاراتها وتطلعات السودانيين في الحرية والسلام والعدالة وصولا إلى نظام حكم مدني، ديمقراطي تعددي.
الأكثر حزناً
وتعتبر الضربة التي سببتها الحرب للنسيج الاجتماعي المترابط في السودان، والذي قوته ثورة ديسمبر المجيدة، أكثر ما يحزن عضو لجان المقاومة وغرفة الطوارئ الطوعية في مدينة القضارف شرقي السودان، مجيب الرحمن عوض، الذي ما تزال هتافات “يا عنصري ومغرور، كل البلد دارفور” عالقة في مخيلته، كأبرز دلالات تماسك ووحدة السودانيين في ذلك الحين، لكن القتال الحالي أدى إلى تفشي خطاب الكراهية بشكل واسع.
ويقول عوض في مقابلة مع (عاين):”الحرب قيدت حريات المواطنين، الذين كان بإمكانهم الخروج في المواكب وتنظيم الوقفات الاحتجاجية، لكن الآن أصبح هذا غير ممكن في ظل القتال المستعر بين الجيش وقوات الدعم السريع. كما تزايدت الاعتقالات لأعضاء لجان المقاومة في الآونة الأخيرة”.
ويضيف: “الحرب أدت أيضاً إلى هروب بعض الأشخاص الذين كانوا قد قُبِض عليهم في قضايا من السجون، وكانت لجان المقاومة تعمل على البناء القاعدي وتوعية المجتمعات بحقوقهم، لكن الآن، كل هذا مُقيّد نتيجة القتال”.
وتابع: “الشباب الذين كانوا نشطين في لجان المقاومة أصبحوا غير فاعلين الآن، وهذه واحدة من النتائج التي أفرزتها الحرب. حُصر دور لجان المقاومة في إصدار البيانات وإدانة الانتهاكات التي تحدث، كما يشارك أعضاء لجان المقاومة في غرف الطوارئ وتوفير الحاجات والعمل في المطابخ المجانية، وهذا لا يحدث بتكليف مباشر من لجان المقاومة، بل يشارك فيه الشباب بشكل طوعي من تلقاء أنفسهم”.
وتمثل الحرب الحالية بالنسبة لكثيرين، واحدة من أدوات الثورة المضادة للقضاء على الحراك الثوري في السودان، بعدما استنفذ العسكريون كل الخطط الساعية لذلك، من قمع المظاهرات السلمية وغيرها، وبعد انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان على الحكومة الانتقالية، قتل أكثر من 130 من المحتجين السلمين برصاص الأجهزة العسكرية، بحسب ما وثقته كيانات حقوقية ولجان المقاومة.
ومع حلول الذكرى السنوية للاحتجاجات التي أطاحت بالرئيس المخلوع عمر البشير، هذه المرة، نظم منسوبي نظام الإخوان المسلمين، وحلفاءهم حملة منظمة على منصات التواصل الاجتماعي ضد ثورة ديسمبر المجيدة والمشاركين فيها، قبل أن يبدوا سعادتهم الواضحة بما يعتقدون أنه القضاء التام على الانتفاضة الشعبية التي أنهت حكمهم قبل سنوات.
نضال مستمر
ويشير عضو لجان المقاومة السودانية عثمان أحمد عبد الله، إلى أن الحرب استهدفت القضاء على الثورة والثوار، فهي تهدد المكتسبات بشكل واضح، فقد أنهت أحلام السلام الذي كان يتوق له الشارع السوداني، ويردده عالياً خلال المواكب الاحتجاجية السلمية، في كل البقاع.
ويقول عثمان في حديثه لـ(عاين) “في ظل الحرب، يتمثل دور لجان المقاومة في العمل الإنساني، حيث تساعد المواطنين في مناطق الحرب وخارجها، وكذلك في معسكرات اللجوء، من خلال التفاعل مع منظمات المجتمع المدني”.
ويلفت إلى أن أهم التحديات التي تواجه أعضاء لجان المقاومة، هي الوضع الاقتصادي إلى جانب التشتت الذي لحق بهم وعدم قدرتهم على تنظيم الاجتماعات المباشرة.
وتحت كل هذه الظروف وسيوف الثورة المضادة المسلطة على رقاب قادلبية الحراك الثوري الذي وضع حدا لإحدى أعتى الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة، يسعى مؤمن ود زينب ورفاقه في لجان المقاومة الذين ما زالوا صامدين تحت نيران الصراع في أمدرمان لمساعدة سكانها، لأن تظل جذوة الثورة متقدة، من خلال وقفتهم الأخيرة في إحدى الساحات، وما وجدته من تفاعل في منصات التواصل الاجتماعي.
ويبقى إصرار القوى الحية على التغيير وإيمانها به، رهان لتجاوز الثورة الشعبية، مطب الحرب الضارية بين الجيش وقوات الدعم السريع، رغم ما أحدثته من تأثير سلبي، والمضي قدما بعد توقفها في تحقيق تطلعات السودانيين في الحرية والسلام والعدالة، والحكم المدني الديمقراطي.
ويؤكد المتحدث الرسمي لإعلان مبادئ ديسمبر، الطيب محمد صالح، على أنهم سيظلون على العهد في مواصلة النضال من أجل وقف هذه الحرب وإحلال السلام؛ ومن ثم بناء السودان على أسس ديمقراطية عادلة، رغم المصاعب والظروف الماثلة.
لكن صالح الذي تحدث لـ(عاين): “يرى أن تجاوز الثورة السودانية لمطب الحرب العنيفة وما سببته من تدمير وقتل وانتهاكات بحق المدنيين والقوى الحية، مرهون بتماسك مكونات الحراك، ودعم المجتمع الدولي والإقليمي لإرادة الشعب السوداني”.