مرضى سودانيون يغامرون طلبًا للعلاج في جنوب السودان
عاين- 10 يونيو 2024
لم يعد أمام كلثوم حسين من خيار غير الانخراط في رحلة قسرية من إقليم دارفور إلى دولة جنوب السودان في سبيل إيجاد علاج لابنها الوحيد الذي يصارع آلام مرض في بطنه لأكثر من عام، وذلك بعد أن قضت الحرب على المرافق الطبية في الإقليم، بينما لا تستطيع التوجه إلى ما تبقى من مشافي في شرق البلاد؛ بسبب قيود يفرضها الجيش.
كان الابن الوحيد لكلثوم، ويدعى “مصعب” صاحب الـ14 عاماً، يتلقى العلاج في مستشفيات الفاشر، لكن بعد تصاعد التوترات العسكرية نتيجة المعارك بين الجيش وقوات الدعم السريع، اضطرت إلى المغادرة لمستشفى الضعين بولاية شرق دارفور الذي بدوره يعاني فقراً في الخدمات الطبية، وشح الأدوية، مما حدا بالأطباء نصحها بالتوجه إلى مشافي جوبا عاصمة دولة جنوب السودان.
كان لزاماً على كلثوم حسين خوض مغامرة كبيرة في رحلة سفر بالطرق البرية الوعرة، تقطع خلالها أكثر من ألف كيلومتر وهي المسافة من الضعين إلى جوبا، وإلى جانب تكلفتها المالية الباهظة، فإنها ربما تكلف الحياة، حيث وُثِّق العديد من حالات الوفاة لمسافرين نتيجة الإجهاد.
وليس نجل كلثوم سوى واحد من مئات المرضى في إقليم دارفور، وجدوا أنفسهم أمام وجهة واحدة لتلقي العلاج وهي دولة جنوب السودان وبالتحديد العاصمة جوبا، فكانوا في السابق يذهبون إلى الخرطوم لطلب الخدمات الطبية المتقدمة، وتقوم مشافي الإقليم بالخدمات العلاجية البسيطة، ولكن بعد اندلاع الحرب خرجت معظم مستشفيات دارفور عن الخدمة، بينما تواجه التي تعمل نقصاً في الأدوية والكوادر الطبية.
وتعمل 4 مشاف رئيسية في إقليم دارفور في الولايات التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع في ولايات شرق ووسط وجنوب وغرب دارفور، لكنها تعاني نقصاً في الأدوية والكوادر الطبية التي اضطرت للنزوح، كما توجد مصاعب في الحركة والتنقل لانعدام وسائل الموصلات بين ولايات الإقليم نتيجة تدهور الأوضاع الأمنية وانتشار أعمال النهب المسلح.
تأزم الوضع
تأزمت الأوضاع الصحية في دارفور بعد انتقال الأعمال العسكرية إلى مدينة الفاشر التي كانت تشكل ملاذا أخيرا لسكان الإقليم وللمرضى الباحثين عن الخدمات العلاجية، فقد خرجت كافة مستشفيات الفاشر عن الخدمة، بما في ذلك المستشفى الجنوبي ومستشفى الأطفال، مع تصاعد أعمال العنف بين الجيش والحركات المسلحة المتحالفة معه، وقوات الدعم السريع التي تسعى للسيطرة على آخر معاقل القوات المسلحة في الإقليم.
وتروي كلثوم حسين في مقابلة مع (عاين)، إنها بعد محاولات عديدة تمكنت من الخروج برفقة ابنها المريض من مدينة الفاشر التي تحاصرها قوات الدعم السريع، ووصلت مستشفى الضعين بولاية شرق دارفور، فوجدته يعاني تردياً في الخدمات الطبية، فشرعت في السفر إلى دولة جنوب السودان بعد أن نصحها الأطباء بذلك، رغم الأخبار السيئة الواردة بشأن الطريق البري ووعورته.
وتقول:”يشتد القتال في الفاشر وكل أفراد أسرتي محاصرين هناك نأمل ألا يصيبهم مكروه، ولكن كل تفكيري وهمي في الوقت الحاضر منصباً في كيفية الحصول على ابني الوحيد الذي يصارع الألم لأكثر من عام، فنحن نكافح حالياً من أجل الوصول إلى عاصمة دولة جنوب السودان جوبا، عشما في أن نجد العلاج اللازمة ودعماً من المنظمات الإنسانية المعينة”.
ويسلك المسافرون من الضعين إلى دولة جنوب السودان طرق برية وعرة مرهقة، إلى جانب انتشار عصابات النهب المسلح على الشريط الحدودي، وسماسرة الطريق الذين يمارسون شتى أنواع الابتزاز على المواطنين المسافرين للاستحواذ على المبالغ المالية المحدودة التي يحملونها معهم في رحلتهم القاسية.
وأدت الحرب المحتدمة في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل من العام 2024م، إلى انهيار شبه كامل في القطاع الصحي، حيث خرجت أكثر من 75 بالمئة من المؤسسات الطبية عن الخدمة، بينما تعاني التي ما زالت تعمل من شح في الأدوية ونقص الكوادر الطبية التي اضطرت للنزوح داخلياً، ولجأ بعضهم إلى الخارج.
خيارات صعبة
المريض الذي لم يحالفه الحظ في خوض مغامرة السفر إلى دولة جنوب السودان، سيضطر للبقاء والصبر على آلامه في إقليم دارفور، لأن محاولة التوجه إلى ولايات السودان الشرقية ينضوي عليها مخاطر أكبر نتيجة للإجراءات والقيود الأمنية التي يفرضها الجيش على القادمين من غرب البلاد، وذلك بحسب ما قاله ممثل لجنة الطوارئ الصحية في ولاية شرق دارفور محمد عيسى لـ(عاين).
ويضيف: “رغم التكاليف المالية الباهظة والرحلة الشاقة، إلا أن المرضى جميعهم في إقليم دارفور يفضلون السفر إلى دولة جنوب السودان، عوضاً على الولايات السودانية الشرقية خوفاً من الاستهداف بموجب الإجراءات التي يفرضها الجيش”.
وتابع: “يتوافد المرضى بإقليم دارفور إلى مستشفيات الضعين بولاية شرق دارفور، لكن نعاني ضعفاً في الإمكانيات، لذلك نحولهم إلى مشافي مروي وبورتسودان، لكنهم لا يذهبوا ويفضلوا دائماً السفر إلى دولة جنوب السودان”.
ونتيجة الحرب المستمرة انهارت الخدمات الصحية في مستشفيات مدينة الضعين التي تستقبل آلاف النازحين والمرضى نسبة لتصاعد الأعمال القتالية في عاصمة الإقليم الفاشر وما يزال التوافد متواصلاً، الأمر الذي شكل ضغطاً كبيراً على الخدمات الطبية المتردية حتى من قبل اندلاع الحرب الحالية، حيث يوجد نقص حاد في الأطقم الطبية والأخصائيين الذين اضطروا للنزوح، بجانب نقص في المعدات والأجهزة الطبية، وفق المسؤول الحكومي محمد عيسى.
وفي منطقة أبيي الحدودية وجد بعض المرضى القادمين من إقليم دارفور حاجتهم من العلاج، لكن المئات من أصحاب الحالات المرضية المستعصية، كانوا أمام خيارين. إما مواصلة الرحلة الشاقة إلى العاصمة جوبا، أو العودة بآلامهم إلى إقليم دارفور.
المريض عثمان حاج النور كان أحد الذين خاضوا رحلة الاستشفاء الشاقة إلى مستشفيات أبيي، ويروي لـ(عاين) “يتكدس عدد كبير من المرضى القادمين من إقليم دارفور وولاية غرب كردفان أمام مستشفى أبيي، بعد أن صدمتهم إدارة المستشفى بأنها ستستقبل الحالات المرضية الطارئة فقط، كما أنها لن تجري عمليات جراحية والفحوصات المتقدمة، ومن يريدون هذه الخدمات عليهم التوجه إلى مشافي مدينة واو، أو العاصمة جوبا”.
ويقول عثمان الذي يعاني مرض السكري “وصلت إلى منطقة أبيي عبر طريق سوق النعام الحدودي في ولاية غرب كردفان، فمن بين 6 مرضى كانوا معي في الرحلة، توفي اثنان بسبب الرحلة الشاقة التي استغرقت ثلاثة أيام، وتم تحويل 3 منهم إلى المستشفيات في العاصمة جوبا، بينما قررت هو العودة إلى إقليم دارفور بعد أن رفض مستشفى أبيي استقباله، ولم يكن بمقدوره السفر إلى جوبا”.
مغامرات متواصلة
ورغم المخاطر الواسعة في ما وصف رحلات الموت، يستمر المرضى من إقليم دارفور في السفر إلى دولة جنوب السودان بالطرق البرية، وهناك ارتفاع ملحوظ في حركة المسافرين من الضعين إلى جوبا عبر منطقة الرقيبات؛ وبالتالي منطقة ونجوك في مقاطعة بحر الغزال، وذلك بحسب ما نقله محمود إدريس وهو مسؤول في إحدى وكالات السفر في مدينة الضعين لـ(عاين).
وبحسب إدريس، فإن مخاطر السفر إلى جنوب السودان عبر الطرق البرية تصل حد الموت، فهناك حالتان أو ثلاث حالات وفاة تحدث وسط المسافرين في كل أسبوع، ومع ذلك معدل السفر مرتفع ربما لقلة حيلة المواطنين في إقليم دارفور.
ويقول: “هناك ارتفاع كبير في قيمة التذكرة، والتي وصلت مبلغ 100 ألف جنيه إلى منطقة الحدود بين دولتي السودان وجنوب السودان، وتُسَيَّر رحلة واحدة أو اثنان بشكل يومي من الضعين إلى دولة جنوب السودان، فهذه الأيام تشهد زيادة في حركة المسافرين إلى جوبا، ربما بسبب اضطرابات الفاشر، وأيضاً يرغب الجميع في المغادرة قبل حلول موسم الأمطار الذي سيغلق الطرق البرية مع الجنوب”.
ويوجد آلاف المرضى عالقون وسط نيران القتال، وليس بمقدورهم حتى الدخول في مغامرة السفر البري إلى دولة جنوب السودان، لأنها تحتاج إلى مبالغ مالية طائلة، الشيء الذي لم يتوفر لغالبية سكان الإقليم المضطرب الذين توقفت أعمالهم نتيجة توسع رقعة الصراع المسلح، فلم يكن أمامهم غير الاستسلام والصبر على آلام المرض.
ونتيجة للدمار الذي لحق بالمستشفيات توفي العديد من المرضى السودانيين خاصة الذين يعانون الأمراض المزمنة، وتقدر وكالات الأمم المتحدة الأشخاص الذين توفوا بسبب عدم قدرتهم على الوصول إلى الرعاية الصحية يعادل أضعاف الذين قتلوا برصاص الحرب، بينما تقول الحكومة السودانية أن خسائر القطاع الصحي جراء الصراع المسلح تصل نحو 11 مليار دولار أمريكي.
وتتفاقم معاناة سكان إقليم دارفور في الوصول إلى الرعاية الطبية مع احتمالات تفشي أمراض فصل الخريف، إلى جانب الأمراض المزمنة الموجودة أصلاً، فضلاً عن احتمال تزايد حالات سوء التغذية خاصة وسط الأطفال.