الدراما السودانية.. نيران الحرب تحرق جسد الإبداع 

عاين –23 يوليو 2024

لم تترك الحرب المستمرة في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع لأكثر من عام، للمسرحيين والدراميين غير ذكريات أعمال إبداعية غزت المشهد في عقود سابقة للدمار والخراب، فقد شل القتال الحالي حركة هذا الفن إن لم يكن أوقفه بالكامل، بينما تتقطع السبل بالدراميين بين نازحين ولاجئين يعانون شظف العيش كعامة السودانيين.

تغيب رسالة الفن المسرحي والدرامي المتسامحة والتي تنشد السلام، بشكل قسري باستثناء بعض الأعمال المحدودة في مخيمات إيواء النازحين، لتترك فراغ واسع سده خطاب العنف والتقتيل والكراهية، وهو أمر يُغضب الدراميين أكثر من الواقع المعيشي السيئ الذي يواجهونه بسبب الحرب الحالية، وفق ما رواه بعضهم لـ(عاين).

وفي مخيمات الإيواء في شرق السودان، تسيطر حكايات الحرب وأهوالها على مجالس الدراميين والمبدعين، فكل له قصة عناء خاصة من الهروب الأول من الأعمال القتالية عبر رحلات نزوح قاسية، إلى واقع أكثر مأساوية في مراكز إيواء النازحين، بعد أن تعطلت حركة الإنتاج الدرامي والمسرحي وهي مصدر كسب مالي وحيد للممثلين.

ورغم الواقع المرير، يكافح الدراميون والمسرحيون في تقديم بعض الأنشطة في مراكز الإيواء لرسم الفرحة في نفوس ضحايا الحرب، مع إعطاء أمل في غد مشرق حافل بالسلام والاستقرار.

ويستعيد الممثل والمسرحي محمد نور الدين ذكريات نزوح صعبة عاشها وهو يفر من منزله في العاصمة الخرطوم بعد اندلاع الحرب، ففي شهر سبتمبر الماضي، أي بعد حوالي 5 أشهر من بداية القتال، قرر الهروب عقب تراجع الوضع الأمني في منطقته مع تصاعد الاشتباكات وتساقط الرصاص والقذائف على نحو عشوائي وصعوبة الوصول إلى الأسواق؛ بسبب انتشار الارتكازات العسكرية.

مشهد من مسرحية جدران، الصورة من صفحة الكاتبة والمخرجة ماجدة نصر الدين على فيسبوك

ويقول نور الدين في مقابلة مع (عاين): “ليس هناك شخص كان يتوقع استمرار الحرب كل هذه المدة، وكان الجميع يظنها أن تنتهي خلال أسبوع أو أسبوعين بالكثير، لذلك قررت عدم مغادرة منزلي مبكراً متشبثا بأمل توقف وشيك للقتال، لكن تدهور الوضع لاحقا، وصرت عالقا في ضاحية الفتيحاب بمدينة أم درمان، وتعرضت منطقتنا لقصف الطيران والمدفعية، ففي سبتمبر تمكنت من الخروج”.

تجربة قاسية

ويضيف “خلال تلك الفترة اُعْتُقِلْت بواسطة قوات الدعم السريع التي تسيطر على منطقتنا وقتها، واتهموني بالانتماء إلى الاستخبارات العسكرية للجيش، وتعرضت للجلد المبرح، مع إطلاق الرصاص تحت قدمي، وتهديدي صراحة بالقتل، فكانت تجربة قاسية للغاية، ظننت أنني لن نخرج منها حيا وسالما، لكن أُفْرِج عني بعد التأكد مني هويتي، ولم نستطع البقاء في منزلي بعد هذه الحادثة، فغادرته مجبراً”.

وصل محمد نور الدين إلى مدني عاصمة ولاية الجزيرة، وبدأ مع آخرين تنفيذ أنشطة فنية في جامعة الجزيرة وبعض مراكز الإيواء لتخفيف وطأة الحرب على النازحين، لا سيما الأطفال عبر ما يعرف بـ”مسرح العرائس” والذي كانت تجري فعالياته في مركز دار عزة بمشاركة عدد من المبدعين، لكن الحرب تمددت إلى ولاية الجزيرة في ديسمبر الماضي، ما اضطره إلى خوض رحلة نزوح ثانية أوصلته إلى مدينة كسلا شرقي البلاد.

يتوزع دراميون على مخيمات إيواء في القضارف وكسلا وبورتسودان شرقي البلاد وهم في وضع إنساني سيئ ونقص في الغذاء كغيرهم من النازحين.

وفي كسلا واجه نور الدين ورفاقه وفق ما يروي، مصاعب معيشية أكبر وضغوطات نفسية واسعة، فلم يتمكن من مواصلة مسرح العرائس؛ نظرا لارتفاع أسعار المواد المستخدمة في هذا الفن وهو لا يملك أي مصدر كسب مالي في الوقت الحالي، فاضطر للتوقف رغم أهمية النشاط الذي كان يقوم به في التخفيف النفسي عن المتأثرين بالصراع، ويقول: “نتمنى توقف الحرب عاجلاً، فأنا ضدها ومع تحقيق السلام”.

وقطعت الحرب طريق انتعاش كبير شهدته الدراما والمسرح عقب الثورة الشعبية التي أنهت حكم الرئيس المعزول عمر البشير، ووفرت مناخ ملئ بالحريات، ليحدث القتال الحالي ما وصف بالانتكاسة، وتسبب في معاناة مضاعفة للدراميين والمسرحين الذين يعتمدون في معاشهم بشكل أساسي على استمرار الإنتاج.

عرض مسحري في مركز إيواء نازحين بمدينة ود مدني- الصورة من صفحة المسرحي قدير ميرغني على فيس بوك

ويقول الممثل قدير ميرغني، إنه اضطر للنزوح من منزله في مدينة أمدرمان بعد اشتداد الحرب وتساقط الرصاص على نحو عشوائي على بيته، فوصل إلى مدينة الدويم بولاية النيل الأبيض، ومنها إلى ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة في رحلة شاقة، لكن لم يمض طويلا حتى نزح مجدداً كغيره من آلاف السودانيين.

ولم يستطع قدير تناسي ما حدث لهم من تعامل سيئ ومهانة وإذلال من قبل قوات الدعم السريع التي اعتادت إرهاب المواطنين الأبرياء، ففررت من هذا الواقع، واستقريت في مدينة كسلا.

إنتاج السلام

وشدد ميرغني خلال حديث لـ(عاين)، أن الحرب أثرت في أوجه الإبداع والفن، فالمسرح يعيش في أجواء السلام والمحبة والجمال، أما الخوف فهو لا ينتج مسرحاً، بل يخلف شخصاً غير سوي، فوسط الموت والهلع من المستحيل تقديم فن وعمل إبداعي، لأن الفنان يكون مهموماً بشكل أساسي بأسرته وجيرانه ومعارفه.

رغم ظروف الحرب يخطط المسرحي قدير ميرغني، إلى تقديم أعمال مسرحية في مراكز إيواء النازحين لمحاربة خطاب الكراهية الذي أصبح منتشراً في محاولة لتحصين الأطفال والجيل الجديد من هذا الخطاب.

ورغم تلك الظروف يخطط قدير وزملاءه الدراميين، إلى تقديم أعمال مسرحية في مراكز إيواء النازحين لمحاربة خطاب الكراهية الذي أصبح منتشراً في السودان خاصة من جانب طرفي الحرب، فهم يريدون تحصين الأطفال والجيل الجديد من هذا الخطاب.

ويضيف: “بعد اندلاع حرب 15 أبريل بين الجيش وقوات الدعم السريع اضطرت جميع الفرق المسرحية إلى الهروب من أجل حماية عائلتها، وهي تعاني ظروف نزوح صعبة يستحيل معها أن تقدم أي أعمال إبداعية، ولكن مع ذلك يجب أن يجتهدوا في تقديم الأعمال الدرامية؛ لأنها الوسيلة الأكثر نجاعة في بث الوعي والتشجيع على السلام والمحبة، وتعالج العديد من المشكلات الحياتية، فالحل دائما في الفن”.

ويتوزع الدراميون على مخيمات إيواء في القضارف وكسلا وبورتسودان شرقي البلاد وهم في وضع إنساني سيئ ونقص في الغذاء كغيرهم من النازحين، بينما تمكن آخرون من مغادرة السودان إلى دول الجوار وهم لا يقلون عناء عمن هم ما زالوا عالقين في داخل البلاد.

 ويرى قدير ميرغني أن الدراميين والفنانين في المنافي وداخل السودان يجب أن يكافحوا للبقاء في العمل الإبداعي بشتى السبل، لأن رسالة الفن يجب ألا تتوقف خلال أوقات الحرب، فهي مهمة لتوعية الناس والتفكير في المستقبل، ومحو آثار الحرب عن المجتمعات التي تأثرت بخطاب الكراهية والعنصرية، فحتما ستقف الحرب، لكن يجب العمل على معالجة تداعياتها الاجتماعية الكبيرة.

فئة مستضعفة

من جهته، يقول نقيب الدراميين السودانيين، الرشيد أحمد عيسى في مقابلة مع (عاين): إن “الدراميين يعتبرون أحد أهم شرائح المجتمع التي تعكس حياة الناس، ولهم دور طليعي في التوعية والتنوير، وعندما اندلعت الحرب كانوا الفئة الاجتماعية الأضعف فهم لا يملكون أي شيء للدفاع عن أنفسهم، فتقطعت بهم السبل بين لاجئين ونازحين، يعيشون على حد الكفاف“.

الحرب تدمر كل شيء، وهي نهاية المنطق، وبداية الشر المطلق، والدراميون  نزحوا بالمسرح معهم، ورغم الكفاف والفقر، لم يتخلوا عن شعبهم

نقيب الدراميين، الرشيد أحمد عيسى

ويضيف عيسى: “خلال الفترة الأخيرة شهدنا صعوبات كبيرة في الإنتاج الدرامي على المستويات كلها في كثير من الأحيان، لا ينال الدراميون حقوقهم، فهم مثل الأطباء نزحوا بسلاحهم الذي يمثل الانتماء والتعبير عن الشعب، والمسرح لم يتوقف في إعادة تأهيل الإنسان، والدراميين الذين نزحوا، قدموا أعمالاً درامية في دور الإيواء للنازحين”.

وتابع: “الدراميون، هم أول من شجب انتهاكات الدعم السريع، وأن الحرب تدمر كل شيء، والحرب نهاية المنطق، وبداية الشر المطلق، يقول “أنا أحد المتضررين منها، أصبت فيها، واستشهدت زوجتي في مدينة ود مدني، أنا عايز الحرب تتوقف، وأن تتوقف إراقة الدماء والدمار، فالفنان الحقيقي مع السلام، وليس تلك التصنيفات التي تضع الفنانين في خانة أو مكان محدد، نحن مع جيش بلادنا، وليس هناك إنسان عاقل ضد جيش بلاده”.

نقيب الدراميين السودانيين، الرشيد أحمد عيسى: الصورة من صفحته على فيس بوك

ولم يسلم نقيب الدراميين السودانيين نفسه من ويلات النزوح وطريقها الوعر، إذ قال “أنا مكثت في الجريف مدة ستة أشهر، بدأت ملامح المجاعة تظهر، في ارتفاع الأسعار المبالغ فيها، وهي من الأسباب التي أجبرتنا على الخروج، وهناك أمراء حرب، مليشيات متمردة مستفيدون من الحرب، نؤكد أن المحاسبة والعدالة قادمة، والانتهاكات لن تسقط بالتقادم، واستمرارها يعني مزيدا من قتل الأبرياء، نحن قمنا بواجبنا على أكمل وجه، ولسنا مع استمرار الحرب”.

يوضح الرشيد رغم الحرب، الدراميين مستمرون في أعمالهم الفنية، والمدن كلها التي نزحوا إليها، كانت لهم بصماتهم الواضحة في مراكز الإيواء، وبدأوا في توثيق أحداث الحرب، وتقديم أعمال مسرحية تحكي وتروي قصص هذه الحرب، وتقديم الورش التأهيلية خاصة مع الأطفال وكبار السن.

 وأضاف عيسى: “الدراميين نزحوا بالمسرح معهم، رغم الكفاف والفقر، لم يتخلوا عن شعبهم، والأدوار التي قاموا بها تظل محفورة في ذاكرة الشعب السوداني، وعلاقتهم بالمسرح مستمرة حتى تنتهي الحياة”.

وتتجاوز الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في السودان الشهر الـ15، وما تزال مستمرة بتداعياتها المدمرة لكافة المجالات الحيوية في البلاد، والتي من بينها العمل الدرامي والمسرحي.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *