السودان: طفولة تحت النار.. مدارس مغلقة ونفوس منهارة
عاين- 5 يوليو 22025
مع استمرار الحرب في السودان، يتحمّل الأطفال العبء الأكبر، إذ تواجه منظومة الطفولة واحدة من أكبر الأزمات في تاريخ البلاد الحديث. الملايين من الأطفال أصبحوا خارج النظام التعليمي، وتعرضوا لانتهاكات جسيمة تشمل التجنيد القسري، العنف الجنسي، والانهيار النفسي. التقارير الأممية تؤكد أن السودان من أكثر الدول تضررًا من الانتهاكات ضد الأطفال في النزاعات المسلحة، بينما تُظهر تقارير دولية أن 19 مليون طفل خارج المدارس. وفي ظل غياب تدخلات فعالة، تتزايد المخاوف من فقدان جيل كامل لصالح الحرب، والفقر، والجهل، والانقسامات المجتمعية.
الأربعاء الماضي، أكدت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة، فرجينيا غامبا، أن عام 2024 شهد أعلى حصيلة من الانتهاكات الجسيمة ضد الأطفال في مناطق النزاعات منذ نحو 30 عاماً، مشيرة إلى أن الفظائع تمتد من بورنو إلى غزة، مروراً بإقليم دارفور في السودان، ما يضع السودان ضمن الدول التي طالتها الانتهاكات. وشددت غامبا على أن أطراف النزاع، بما في ذلك الحكومات، تتحمل مسؤولية القتل والتشويه والهجمات على المدارس والمستشفيات، ومنع وصول المساعدات.
وفي السياق ذاته، ذكرت مديرة حماية الطفل في اليونيسف، شيما سين غوبتا، أن استخدام الأسلحة المتفجرة في المناطق المأهولة يمثل التهديد الأبرز للأطفال، إلى جانب تصاعد العنف الجنسي بنسبة 35% هذا العام. ودعا التقرير إلى احترام القانون الدولي، وضمان حماية الأطفال في جميع النزاعات، بما في ذلك السودان.
تواجه منظومة الطفولة في السودان واحدة من أكبر الأزمات في تاريخ البلاد الحديث، في ظل انهيار النظام التعليمي، وتوسع الانتهاكات النفسية والجسدية بحق الأطفال، وتصاعد ظاهرة التجنيد القسري.
وتُظهر التقارير الأممية والميدانية أن الصراع المسلح الدائر منذ أبريل 2023، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أنتج بيئة غير آمنة بالكامل للأطفال، وعرّض الملايين منهم لخطر دائم من الفقر والعنف والاستغلال.
التعليم في أزمة
أدّت الحرب إلى إغلاق أكثر من 70% من المدارس في السودان، وفقاً لتقديرات منظمات التعليم والشركاء المحليين، بما يشمل العاصمة الخرطوم وولايات دارفور وكردفان والنيل الأزرق.
ويُعتبر غياب أي خطة رسمية لإعادة تشغيل المؤسسات التعليمية على نحو جيد بعد النزوح والدمار الكامل للبنية التحتية تهديدًا بفقدان جيل كامل فرصته في التعليم، مع ما يترتب عليه من تداعيات طويلة الأمد على رأس المال البشري في البلاد.
وحذّر عضو لجنة المعلمين السودانيين، سامي الباقر، من آثار كارثية على مستقبل الأطفال في السودان، نتيجة استمرار الحرب والانهيار شبه الكامل للعملية التعليمية. وقال الباقر في حديث لـ«عاين» إن نحو 3.6 مليون طفل في سن السادسة – وهو سن القبول بالصف الأول الابتدائي – لم يتمكنوا من الالتحاق بالمدارس، بسبب توقف القبول للعامين الماضيين، ما أدى إلى تراكم دفعات القبول.
وأوضح أن أكثر من 3 ملايين تلميذ من الصفوف الأولى (الأول حتى الثالث الابتدائي) ارتدوا إلى الأمية، نتيجة الغياب المطوّل عن الدراسة، إذ لم تُتح لهم فرصة اكتساب المهارات التعليمية الأساسية. ولفت إلى أن عدد الأطفال خارج المدارس ارتفع من 6 ملايين قبل الحرب إلى نحو 19 مليونًا حاليًا، في واحدة من أكبر موجات التسرب المدرسي في تاريخ البلاد.

وأشار الباقر إلى أن نحو 400 ألف طالب من دفعة 2023 لم يجلسوا لامتحانات الشهادة الثانوية بسبب تدهور الأوضاع الأمنية، بينما سيغيب طلاب ولايات دارفور ومعظم ولايات كردفان عن امتحانات دفعة 2024 المقررة في 30 يونيو. وحذر من أن غياب خطة تعليمية وطنية عادلة يهدد وحدة النظام التعليمي، وقد يفتح الباب أمام التقسيم.
وأكد أن استمرار هذا الوضع سيضاعف معدلات التسرب والفاقد التربوي، داعيًا إلى مشروع وطني يستوعب واقع الحرب، ويُبعد التعليم عن التجاذبات السياسية والعسكرية. وأضاف: “يجب أن يكون التعليم مسارًا للسلام والاستقرار، لا ساحة من ساحات الصراع أو وسيلة لإقرار نتائج الحرب”.
وتؤكد مصادر طبية في ولايات غرب السودان أن الأطفال يعانون من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، دون توفر خدمات دعم نفسي كافية أو مختصين في علم نفس الطفولة.
إلى جانب ذلك، وثقت منظمات حقوقية محلية ودولية، بينها “هيومن رايتس ووتش”، عمليات تجنيد لأطفال تقل أعمارهم عن 15 عاماً في معسكرات تتبع لقوات ومجموعات مسلحة في دارفور وكردفان. وتشير بعض التقارير إلى تدريب هؤلاء الأطفال على استخدام السلاح، بينما تُجبر الفتيات في مناطق النزاع على الزواج المبكر أو يُستغللن في شبكات الاتجار.
مصادر حقوقية تؤكد أن هذه الانتهاكات تجري غالباً خارج الرقابة الرسمية وبتواطؤ من بعض القيادات العسكرية المحلية. وفي ظل غياب استراتيجية حكومية واضحة، تعتمد عمليات إعادة تأهيل الأطفال المتأثرين بالحرب على تدخلات محدودة من منظمات غير حكومية.
يقول محمد عثمان، وهو باحث في قضايا حقوق الإنسان، إن عدم وجود إطار تشريعي لحماية الأطفال من آثار الحرب في السودان يضعف جهود إعادة الإدماج ويهدد بتكرار دوائر العنف. وتشمل عمليات التأهيل المطلوبة التعليم البديل، والدعم النفسي طويل الأمد، ومراكز رعاية متخصصة.
أزمة الأطفال في السودان ليست مسألة إنسانية فحسب، بل أزمة بنيوية تمس مستقبل البلاد واستقرارها. ومع غياب التدخلات الفاعلة، تواجه البلاد خطراً حقيقياً بفقدان جيل كامل لصالح الفقر، والانتهاكات، والجهل.
ويشير الباحث محمد عثمان إلى إن هناك مؤشرات على وجود مقاتلين أطفال ضمن أطراف النزاع في السودان، بما في ذلك في صفوف قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها.
وأضاف في حديث لـ«عاين» أن العنف الجنسي استخدم بشكل ممنهج ضد الطفلات، لافتًا إلى وقوع حالات اغتصاب موثقة في الخرطوم، ومؤخرًا خلال الاعتداءات في شرق ولاية الجزيرة.
وأشار عثمان إلى أن استمرار الانتهاكات الخطيرة ضد الأطفال والنساء مرهون بعدم تعاون أطراف النزاع مع الآليات الإقليمية والدولية المعنية بحقوق الإنسان، بما في ذلك بعثة تقصي الحقائق الأممية. وقال: “إذا لم يتعاون الطرفان مع هذه الآليات، فسنشهد مزيدًا من الانتهاكات تُرتكب بعيدًا عن الرقابة وبدون أي مساءلة.”
ولفت إلى أن غياب المحاسبة مرتبط بضعف الضغط الدولي، مؤكدًا أن تفعيل أدوات مثل العقوبات الدولية قد يكون ضروريًا لوقف الجرائم المرتكبة في سياق الحرب المستمرة.
الدعم النفسي: واقع هش وجهود محدودة
من جهته، قال أستاذ علم النفس بجامعة بحري، عبد الله آدم شوالي إن الحروب تمثل واحدة من أعنف الهزات النفسية التي يتعرض لها الإنسان، وتؤثر بشكل مباشر على الجهاز النفسي، مشيراً إلى أن اضطراب ما بعد الصدمة يُعد من أولى الاضطرابات التي تظهر في سياق النزاعات المسلحة.
وأوضح أن هذا الاضطراب، الذي كان يُعرف سابقاً بـ”كرب الحرب”، يؤدي إلى ضغوط نفسية حادة، ويصاحبه شعور بالقلق والاكتئاب، وقد يتقاطع مع عدد من أعراض اضطرابات نفسية أخرى.
وأشار الشوالي إلى أن الأطفال هم الفئة الأكثر عرضة للانهيار النفسي نتيجة الحروب، وغالباً ما تظهر أعراض اضطراب ما بعد الصدمة لديهم من خلال شكاوى جسدية متكررة مثل الصداع، آلام الجسم، أو المغص، إلى جانب مظاهر التبول اللاإرادي، والخوف المفرط، والميل إلى اللعب العنيف. كما تشمل الأعراض اضطرابات النوم والأحلام المزعجة، إضافة إلى سلوكيات الانطواء والعزلة وعدم الرغبة في اللعب مع أقرانهم.
وشدد الشوالي على أن تعامل الأسرة مع هذه الأعراض يتطلب حساسية عالية ووعياً نفسياً. وأكد أهمية تحكم الوالدين في ردود أفعالهم وعدم إظهار الخوف أمام الأطفال سواء في نبرة الصوت أو ملامح الوجه. كما دعا إلى إتاحة الفرصة للطفل للتعبير عن مشاعره، وعدم تجاهل أسئلته، وتوفير بيئة آمنة تدعمه نفسياً.

وأوصى بإبعاد الأطفال عن المحتوى العنيف في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، والامتناع عن الكذب عليهم، وبدلاً من ذلك تقديم شرح صادق ومبسّط للواقع بطريقة تناسب أعمارهم. واعتبر أن طمأنة الطفل جسدياً من خلال الاحتضان ولفظياً بالكلمات المطمئنة، والحرص على اللعب والتفاعل معه، تمثل عناصر أساسية في الاستجابة النفسية داخل الأسرة.
وأوضح الشوالي، أن فترة الحرب شهدت نشاطاً لعدد من المبادرات والمنظمات التي بدأت في تقديم خدمات الدعم النفسي والاجتماعي للأسر. كما قامت مبادرات يقودها اختصاصيون نفسيون ودارسو علم النفس بإنشاء مساحات آمنة للأطفال في دور الإيواء ومعسكرات النزوح، من خلال أنشطة تركز على التفريغ الانفعالي وتكوين علاقات اجتماعية صحية بين الأطفال.
وبيّن أن عدداً من المنظمات والمبادرات وغرف الطوارئ أسست مكاتب مخصصة للدعم النفسي والاجتماعي، لكنها تواجه تحديات كبيرة في ما يتعلق بتوفير الموارد المالية، وتدريب الكوادر، ومواكبة الأساليب والمقاييس العلمية الحديثة في علم النفس. ورغم تزايد الوعي بأهمية الدعم النفسي خلال فترة الحرب، أشار الشوالي إلى أن الوصمة الاجتماعية المرتبطة بطلب المساعدة النفسية لا تزال تشكّل عائقاً أمام استفادة كثير من المتأثرين من هذه الخدمات.
في ظل استمرار الحرب وغياب الحلول، يواجه السودان خطر خسارة جيل كامل من الأطفال الذين تمزقهم الانتهاكات، والحرمان، والصدمات. وإذا لم تتخذ إجراءات عاجلة وشاملة على المستوى المحلي والدولي، فإن هذه الأزمة ستمتد لعقود قادمة، مهددة مستقبل البلاد بأكمله.