مأزق أمتحانات الشهادة السودانية

عاين- 5 ديسمبر 2024

تتملك الحيرة الطالب السوداني محمد بدوي، مع قرب الموعد المحدد للجلوس إلى امتحانات الشهادة الثانوية، والتي تقرر عقدها في الولايات والمدن التي يسيطر عليها الجيش، بينما لا يزال هو عالقاً في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع جنوبي الخرطوم، ولا يرى سبيلا للجلوس إلى الامتحان الأهم حتى اللحظة.

كافح بدوي خلال الأشهر الماضية في مراجعة دروسه، والتحق بمدرسة نشأت بجهد شعبي في منطقته، في إطار حرصه على البقاء في مناخ أكاديمي ينسيه واقع الحرب القاسي مع عائلته، لكنه بصدد حصد السراب، بعدما أصبح جلوسه إلى امتحان الشهادة السودانية مع رصفائه في حكم المستحيل، وبدأت أحلامه تتبخر، وفق ما قال له لـ(عاين).

وحددت وزارة التربية والتعليم في السودان، يوم 28 ديسمبر الجاري موعداً لانطلاق امتحانات الشهادة الثانوية لأول مرة منذ اندلاع الحرب الحالية، على أن تنعقد في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش، بينما دعت الطلاب المتواجدين في أماكن سيطرة قوات الدعم السريع الانتقال إلى مناطق الجيش للجلوس مع زملائهم في المراكز المحددة.

هذا القرار سيحرم آلاف الطلاب في إقليمي كردفان ودارفور وجنوب وشرق الخرطوم وولاية الجزيرة، وهي مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، من الجلوس إلى امتحان الشهادة الثانوية لصعوبة التنقل الناجمة عن تعقيدات أمنية واسعة، فضلاً عن التكاليف المالية العالية لمثل هذه الرحلات والإقامة، في ظل أوضاع اقتصادية سيئة للمواطنين المتأثرين بالصراع.

فصل دارسي بمدرسة خالد بن الوليد بحي اركويت في الخرطوم

ويعارض أكاديميون وفاعلون في المجتمع المدني بالسودان، استمرار الحكومة التي يديرها الجيش في عقد امتحانات الشهادة الثانوية في مناطق دون غيرها، كونه يهدد وحدة البلاد، ويضع لبنة لتفتيتها، فالشهادة السودانية كانت وما تزال أحد أهم معالم الوحدة الوطنية، بحسب ما تراه لجنة المعلمين السودانيين.

تكلفة باهظة

ولم يكن بوسع آلاف الطلاب في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع الانضمام إلى مراكز الجلوس لامتحانات الشهادة الثانوية في الأماكن الخاضعة إلى سيطرة الجيش، نظرا للأوضاع المالية السيئة، كما أن الذين تمكنوا من الحصول على بعض الأموال الخاصة بالسفر والمعاش، ارتفعت مخاوفهم الأمنية، ويخشون الوقوع في مصيدة الاعتقال بتهمة التعاون مع قوات الدعم السريع، مثلما حدث مع أحد الطلاب مؤخراً في الولاية الشمالية.

ومطلع نوفمبر الجاري حزم الطالب عمر أحمد عبد الهادي، حقيبته من منزل عائلته في مدينة الخوي بولاية غرب كردفان، وتوجه إلى الولاية الشمالية بغرض الجلوس إلى امتحان الشهادة الثانوية، وقبل أن يصل إلى وجهته في مدينة دنقلا اُعْتُقِل بواسطة مستنفري الجيش في منطقة القولد، وقضت محكمة بسجنه 5 سنوات بتهمة التعاون مع قوات الدعم السريع.

الحادثة التي أثارت غضباً واسعاً، دفعت بعض الطلاب من إقليمي كردفان ودارفور، للتراجع عن رغبتهم في السفر إلى مناطق سيطرة الجيش للجلوس إلى امتحانات الشهادة الثانوية، خشية التعرض للاعتقال والسجن بتهمة التعاون مع قوات الدعم السريع، فقط لأنهم قادمون من مناطق سيطرته، وهي كحالة أحمد الطيب وهو طالب من محلية أبوزبد في ولاية غرب كردفان.

ويقول الطيب لـ(عاين): “لقد سمعت بقوانين الوجوه الغريبة المستخدمة في مناطق سيطرة الجيش، ومع ذلك قررت السفر إلى القضارف للجلوس إلى امتحان الشهادة الثانوية؛ لأن لدي أقارب يقيمون بها، وسيكونون لي سنداً خلال فترة بقائي هناك، لكني تراجعت بعد اعتقال زميلنا الطالب عمر أحمد عبد الهادي في الولاية الشمالية”.

ويشعر الطالب أحمد بحزن شديد؛ لأنه لم يجلس لامتحان الشهادة الثانوية، رغم أنه ظل ينتظر هذه اللحظة لمدة تقارب العامين، وقد تبدد حلمهم، ولا يرى مستقبلا أكاديميا لنفسه، حيث لا تتوفر لأسرته الإمكانيات المالية اللازمة لنقله إلى خارج السودان لمواصلة تعليمية، ولم يتبق له غير أمل توقف هذه الحرب ويستأنف حياته العلمية.

رؤية غائبة

ومع حالة التضييق الأمني التي يمارسها الجيش في مناطق سيطرته وصعوبة وصول الطلاب من الإقليم الأخرى، لا تمتلك قوات الدعم السريع أي رؤية لجلوس الطلاب في أماكن سيطرتها لامتحان الشهادة الثانوية، بينما يقترب موعد عقد الامتحان الذي تمضي فيه الحكومة التي تديرها القوات المسلحة، قدما رغم علمها بوجود آلاف الطلاب في مناطق سيطرتها، وهو واقع كارثي وظالم وفق ما تراه المعلمة في المرحلة الثانوية بالسودان خالدة صابر.

وتقول صابر في مقابلة مع (عاين): “العملية التعليمية يجب أن تكون شاملة وعادلة، فهي حق للجميع، ولا ينبغي استخدامها كأداة للابتزاز السياسي، فالواجب الأخلاقي لطرفي الحرب إن كانوا صادقين، الجلوس سويا لمناقشة وقفا لإطلاق النار وفتح ممرات آمنة تمكن جميع الطلاب من الوصول إلى مراكز امتحانات الشهادة الثانوية دون قيود”.

وتضيف: “للأسف طرفي الحرب لن يتفقا على ذلك، مما يشكل كارثة على الطلاب الذين لم يتمكنوا من الجلوس لامتحان الشهادة السودانية، وظلوا خارج البيئة التعليمية، فربما يكونون وقودا للحرب من خلال تجنيدهم للانخراط في عمليات القتال، فهذا تحدي كبير يواجه الأسر والبلاد بشكل عام؛ لأنه يسهم في تغذية الصراع وإطالة أمده”.

المدارس أُغلقت بسبب الحرب بشكل كامل في مدينة نيالا بولاية جنوب دارفور

وتستمر وزارة التربية والتعليم في السودان، في ترتيبات عقد امتحانات الشهادة الثانوية في موعدها في يوم 28 ديسمبر المقبل، كما نشرت جدول الامتحانات للمساقات العلمية المختلفة، مما يشير إلى أن امتحان الشهادة السودانية أصبح واقعا وحقيقة ماثلة.

من جهتها، دعت وزارة التربية والتعليم بولاية الخرطوم، طلاب الدارس الخاصة واتحاد المعلمين ومن المنازل، الجالسين لامتحان الشهادة الثانوية في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع بمحليات جبل أولياء وشرق النيل وأمبدة، بإعادة تسجيل بياناتهم المؤهلة للجلوس للامتحان، وإحضار شهادة إكمال الأساس، وصور من الرقم الوطني وتسليمها إلى إدارة شؤون الطلاب والامتحانات بمقر الوزارة المؤقت في محلية كرري شمالي أم درمان.

امتحان ممكن

ورغم وقوعها تحت حصار شديد من قبل قوات الدعم السريع يرى المعلم آدم محمد أن إجراء امتحان الشهادة الثانوية في مدينة الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان ممكنا، ليس بالأمر بالصعب، وتنخرط وزارة التربية والتعليم حاليا في التجهيزات المطلوبة لعقد امتحان الشهادة الثانوية المؤجلة في موعدها.

ويشير آدم في مقابلة مع (عاين) إلى أن ترتيبات إجراء امتحان الشهادة الثانوية في مدينة الأبيض تمضي كما خُطِّط لها حتى اللحظة، فالمدينة محاصرة منذ زمن طويل بواسطة قوات الدعم السريع، لكن من الداخل فهي آمنة إلى حد كبير، وسيتمكن الطلاب من الوصول إليها على نحو فردي، ونأمل عدم حدوث مستجدات في الأوضاع الأمنية لاحقاً.

وشدد أنه لم تحَدَّد مراكز الجلوس لامتحانات الشهادة الثانوية في الأبيض، ويتوقع أن يكون عددها كبير؛ نظرا لأن الطلاب في كل محليات ولاية شمال كردفان سيأتون للجلوس داخل مدينة الأبيض، ورغم أن الوضع آمن، لكن يتوجب على السلطات الأمنية تبني خطة لتأمين المراكز خلال فترة الامتحانات، ومواجهة أي مهددات قد تطرأ مثل التدوين المدفعي وغيره.

التعليم سلاح حرب 

وقال المتحدث الرسمي باسم لجنة المعلمين السودانيين (كيان مطلبي) سامي الباقر: أن “الطلاب في 14 ولاية من أصل 18 ولاية سودانية لم يتمكنوا من الجلوس لامتحانات الشهادة الثانوية، نتيجة لوقوعها في نطاق سيطرة قوات الدعم السريع، أو تشهد اضطرابات أمنية جراء الحرب، وذلك ينضوي عليه ظلم كبير، فالعملية التعليمية حق لكل السودانيين، ويجب على الحكومة التي يديرها الجيش أن تتحدث بهذه اللغة”.

وقالت اللجنة في بيان نشر أمس الأربعاء، واطلعت عليه (عاين) أن “حوالي ٣٠ الف طالب في ولاية جنوب دارفور لن يستطيعوا الوصول لمراكز الامتحانات، كما يوجد أكثر من ألفي طالب في غرب دارفور مدينة الجنينة حرموا من الجلوس للامتحان في دولة تشاد المجاورة”.
وأشار البيان، إلى أن الحرمان يشمل كذلك طلاب ولاية الجزيرة والجزء الأكبر من ولاية الخرطوم، ولفتت اللجنة إلى أن الإصرار على قيام الامتحانات يضع التعليم كأحد أسلحة الحرب، يستخدم لمعاقبة الطلاب وأولياء أمورهم.

مدرسة في العاصمة الخرطوم- ارشيف

وشدد الباقر في مقابلة مع (عاين) أن رؤية لجنة المعلمين تتمثل في وضع سياسات تعليمية يتم فيها النظر إلى كل الطلاب السودانيين في البلاد وخارجها، ومناطق السيطرة العسكرية للجيش وقوات الدعم السريع أو أي أطراف أخرى، على أساس متساو، ومخاطبهم كطلاب سودانيين دون تمييز، ويُسْتَوْعَبُون في العملية التعليمية بلا قيود.

ويشير المسؤول المكلف بإدارة التعليم في وحدة النصر الإدارية جنوبي الخرطوم، صلاح هارون في حديثه لـ(عاين) إلى أنهم أحصوا 928 طالبا وطالبة في منطقة مايو الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع، ممتحنين للشهادة الثانوية، لكن الامتحان سيتم في المناطق الآمنة بأمدرمان، أو مناطق محايدة حسب القرار الذي ينتظر أن يصدر بشأنهم.

وقال هارون: “بدأنا مراجعة لمقرر الشهادة السودانية للطلاب في مدرسة الزومة الثانوية في جنوب الخرطوم، ولم تعترض قوات الدعم السريع التي تسيطر على المنطقة على عملنا، بل وفروا لنا حماية من المتفلتين في المنطقة، لكن نحن نواجه تحديات مالية لنقل الطلاب إلى مراكز الجلوس لامتحان الشهادة الثانوية في المناطق الآمنة”.

وفي ظل واقع قاتم، دب اليأس في الطالب نفسه في منطقة جنوب الخرطوم محمد بدوي وعائلته، فهو لا يرى طريقا للجلوس إلى امتحان الشهادة الثانوي، وهي حالة يعيشها الطلاب جميعهم في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع.

وتعرب والدته التي تحدثت مع (عاين) عن قلقها الشديد على المستقبل التعليمي لابنها الذي ربما لا يستطيع الجلوس إلى امتحان الشهادة الثانوية هذا العام، فهم لا يملكون أموالاً يدفعونها له للانتقال إلى المناطق الآمنة والجلوس للامتحان، فقد تأثر وضعهم المعيشي جراء الحرب، فبالكاد يتمكنون من الحصول على الغذاء.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *