طيران الجيش السوداني.. قصف لا يتجنب المدنيين
عاين- 21 سبتمبر 2023
صباح السبت 9 سبتمبر الجاري، وصل “الأمين محمد” إلى سوق “قورو” بمنطقة مايو جنوبي العاصمة السودانية، ليتلمس رزقه من خلال متجره المتواضع “طبلية” والذي يحوي بعض الحلويات والسلع الخفيفة، وقبل أن يكمل عرض بضائعه على الطاولة سقط مقذوف متفجر بجواره جعله يسبح في دمائه.
مشهد قاسٍ انسحب على 47 مواطناً قتلوا خلال غارة جوية نفذها طيران الجيش السوداني على سوق قورو الشعبي مؤخراً بحسب حصيلة للجنة طوارئ منطقة جنوب الحزام، في مجزرة بشعة يروي فصولها المؤلمة من كُتبت لهم النجاة.
يكاد “محسن قرشي” لا يصدق موت صديقه “الأمين محمد” الذي كان يجلس بجواره في المتجر و يتجاذب معه أطراف الحديث لحظة سقوط المقذوف، وخلال دقائق معدودة افترق الصديقان إلى الأبد.
“عندما سقطت القذيفة غطت الأتربة المكان وتناثرت المتفجرات، كان الأمين يجلس على الكرسي، بينما تسطحت أنا على الأرض وكنت اصيح عليه بأن يفعل مثلي، وعندما رفعت رأسي وجدته سقط مصاباً في بطنه، حاولت إنقاذه لكني اصبت برائش في يدي ورجلي وظل المقذوف يتطاير لمدة زمنية بحوالي 20 دقيقة”. يروي قرشي بأسى لـ(عاين).
يقول محسن، إن “سيدتين كانتا أمام المتجر المقابل لهم تتسوقان وبعد سقوط المقذوف تقطعت جثتيهما إلى أشلاء وتناثرت أجزاءهن حول المكان، وأنه استطاع التعرف عليهن من خلال قطع الثياب التي كن يرتدينها، وهو مشهد تكرر مع الأشخاص الذين كانوا يجلسون في راكوبة بالسوق وبناية تحت التشييد في الجزء الشمالي جميعهم ماتوا بصورة بشعة”.
لم يمض طويلا على واقعة سوق قورو، إلا وفجع السودانيين بمجزرة أخرى ارتكبها الطيران السوداني في مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور قتل خلالها 45 شخصاً على الأقل من المدنيين وجرح العشرات في أبشع حادثتي قصف منذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع منتصف أبريل الماضي، وحصدت إدانات واسعة.
قصف مكثف
وكثف طيران الجيش غاراته الجوية مستهدفاً أماكن سيطرة قوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم ونيالا، لكن دائما ما تُخطئ المقذوفات هدفها وتصيب المدنيين. وقتل نحو 201 مواطناً من المدنيين– احصائية لـ(عاين) جراء القصف الجوي خلال شهري سبتمبر الجاري، ويوليو الماضي، حيث سقط 20 شخصاً في منطقة الكلاكلة القبة إثر غارة جوية يوم 3 سبتمبر، و13 شخصا توفوا في غارة على سوق الحاج يوسف الوحدة يوم 9 سبتمبر، الى جانب 47 شخصا في سوق قورو و45 في نيالا بولاية جنوب دارفور ، وذلك حسب ما أعلنه لجان الطوارئ (جمعيات شبابية تطوعية) في تلك المناطق.
كما استهدفت غارة جوية للجيش السوداني سبتمبر الجاري، سوق للمواشي بمنطقة حلة كوكو بشرق النيل وسقط فيها أكثر من (30) قتيلا بينهم نساء وأطفال.
وعلى الدوام تحصد عمليات القصف العشوائي الإدانات من الكيانات المدنية والحقوقية بوصفها أعمال ترتقي لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لكن الجيش السوداني ظل ينفي باستمرار استهداف المواطنين بقصف الطيران والمدافع، ويتبادل الاتهامات مع قوات الدعم السريع بشأن قتل المدنيين.
كان يوم الأربعاء 13 سبتمبر الجاري الأكثر رعباً على سكان “نيالا” التي تعيش على وطأة قتال متقطع بين الجيش وقوات الدعم السريع، حيث بدأت طائرات من طراز “انتنوف” تحلق في سماء المدينة قبل أن تلقي براميل متفجرة في منطقة سوق الملجة شمالي المدينة ومقذوف متفجر في السوق الشعبي (جنوب)، وفق شهادات وثقتها (عاين).
أوقفت هذه المقذوفات حياة العشرات المواطنين الأبرياء من مرتادي تلك الأسواق، وتسللت لمن هم داخل منازلهم لتقتلهم، تاركة لعائلاتهم حزن الفراق الأبدي كحالة الشقيقين “برعي محمد عبد النبي”، و”تالوت محمد عبد النبي” اللذان ارتقت روحيهما خلال مجزرة نيالا.
تبديد الاحلام
يروي عمهما عبد الرسول عبد النبي لـ(عاين) إن برعي طالب يدرس في المستوى الأخير بجامعة النهود، بينما تخرج شقيقه تالوت من كلية نيالا التقنية وتم قبوله مؤخراً في إدارة الجمارك وحال اندلاع الحرب دون اكتمال إجراءات تعيينه، كان والدهما يعول عليهما لمساعدته بعد أن كافح في تربيتهما وتعليمهما.
يشير عبد الرسول، إلى أن نجلي شقيقه كانا في منزلهما المجاور لسوق الملجة شمالي مدينة نيالا الذي تعرض للغارة الجوية وتوفيا في الحال، ويضيف “أقمنا سرادق العزاء ويملؤنا حزن كبير على فقدهما، لقد واجهنا مصيبة كبيرة ولا نقول إلا ما يرضي الله”.
ويقول: “شاهد الناس طائرة تحلق في سماء سوق الملجة ولكن لا نستطيع تحديد نوعها”. بينما يؤكد شهود تحدثوا لـ(عاين) أن طائرة الانتنوف ألقت برميل متفجر في سوق الملجة، بينما تم ضرب السوق الشعبي جنوب مدينة نيالا بمقذوف متفجر”.
ويروي سعد أحمد – من مواطني نيالا لـ(عاين): أن جزء من شظايا المقذوف المتفجر في غارة التاسع من سبتمبر على السوق الشعبي جنوبي نيالا، سقط في منزل أحد أقاربه يدعى “سرور” ما أدى الى تدميره جزئياً وإصابة احدى طفلاته بجروح مما دفعه إلى النزوح للجانب الآخر من المدينة، وقد قمنا بمساعدته على إيجاد موقع بديل.
وأصيب المواطنين برعب كبير وأصبحوا متوجسين من ارتياد السوق بسبب عمليات القصف العشوائي، وما يزال السوق الشعبي نيالا وهو من بين أسواق طرفية قليلة تعمل منذ اندلاع الحرب، مغلقاً باستثناء بعض الباعة المتجولين ظلوا يغامرون بمواصلة نشاطهم التجاري في الجزء الشمالي من السوق، وفق سعد.
أسلحة فتاكة
وبحسب مصدر عسكري تحدث لـ(عاين) فإن الجيش السوداني استخدم خلال الحرب الحالية طيران حربي من طراز “ميج، وسوخوي، انتنوف”، إلى جانب مدافع 120 و130 والهاون وراجمات 24 ماسورة، وكاتوتشيا، وطائرات مسيرة ومنظومة شواظ، وجميعها محرمة الاستخدام داخل المدن والمناطق المأهولة بالمدنيين.
ويستخدم الدعم السريع مدافع ثقيلة مثل الهاون و120 إلى جانب طائرات مسيرة ومدفع الرباعي (مضاد طائرات)، وسقط على إثر ذلك ضحايا من المدنيين في منطقة شمال أمدرمان، ومدينة نيالا خاص وسط سكان الأحياء المجاورة لقيادة الفرقة 16 مشاة التابعة للجيش السوداني والتي ظلت تستهدفها قوات الدعم السريع عن بعد طيلة الفترة التي أعقبت اندلاع الحرب، وفق المصدر العسكري نفسه.
من واقع تجربة الحرب المحتدمة في السودان ظل الطيران الحربي الأكثر فتكا بالمدنيين من خلال الحصائل المفزعة لضحايا القصف الجوي.
لكن الناطق الرسمي بإسم الجيش السوداني، العميد نبيل عبد الله، يرد بإقتضاب على سؤال لـ(عاين) حول استمرار عمليات قصف الطيران الحربي التي تحول المدنيين إلى ضحايا، ويقول: “هذا اتهام غير صحيح اطلاقا، وتسوق له المليشيا المتمردة -يقصد (قوات الدعم السريع)”. ويتابع: “هذه حيل مكشوفة”.
وبعد حادثتي قصف سوق قورو ونيالا الأخيرتين، تجي حادثة منطقة دار السلام غربي أم درمان في البشاعة التي وقعت في يوم 8 يوليو الماضي وقتل خلالها 37 شخصاً من المدنيين – بحسب لجنة طوارئ امبدة وشهود من المنطقة- لكن وزارة الصحة السودانية تقول أن القتلى 22 شخصاً.
وسبق كل ذلك غارة جوية نفذها الطيران الحربي يوم 7 يوليو الماضي على منطقة المويلح غربي مدينة أمدرمان – أكبر سوق للماشية في السودان، سقط فيها 12 شخصا على الأقل وماتت المئات من الماشية (أبل وابقار) وفق ما أعلنته لجان مقاومة منطقة الصالحة وقتها.
وتروي نسيبة محمد لـ(عاين) أهوال ليلة الثامن من يوليو المرعبة في منطقة دار السلام غربي أم درمان والتي اضطرت معظم السكان الى مغادرة المنطقة وهجر منازلهم. وتشير إلى أن الغارة قضت على 9 اشخاص من أسرة واحدة وتحطم منزلهم، بينما قتلت شابين كانا ينامان أمام مخبز الحي أحدهم انفصل رأسه عن جسده.
“ما زلنا باقون في منزلنا رغم مغادرة معظم جيراننا بعد الغارة الجوية، نشاهد الطيران يحلق فوقنا طوال النهار، بينما تهتز الأرض من أصوات القصف المدفعي. نعيش في رعب كبير ونخشى تكرار تلك المجزرة”، تقول نسيبة.
لم يكن الطيران وحده من يحصد أرواح المدنيين خلال الحرب الحالية، وكان للمدفعية الثقيلة والطيران المسير التابع لقوات الدعم السريع والتي تقصف بشكل عشوائي في المناطق المأهولة من جانب طرفي الصراع النصيب من الفتك بالمواطنين. ووثق شهود لـ(عاين) مقتل 15 مواطناً جراء قصف مدفعي نفذته قوات الدعم السريع على مواقع سيطرة الجيش على ضاحية الثورة (غرب الحارات) في يوم 24 يوليو الماضي، كأبرز حادثة للقصف المدفعي منذ اندلاع الصراع.
جريمة حرب
ويقول الخبير في القانون الدولي محمد صلاح في مقابلة مع (عاين): إن “القصف واحد من أساليب الحرب المكفولة بموجب القانون الدولي لكن وفق شروط ومعايير، فهو متاح لاستهداف الأهداف العسكرية في مناطق لا يتواجد فيها مدنيون وأعيان مدنية بغرض تعطيلها ويحظر تدمير تلك الأهداف بشكل كامل”.
ويشير صلاح، إلى أن القانون الدولي الإنساني بما في ذلك معاهدات جنيف الأربع، والقانون الدولي العرفي تحظر استهداف المناطق المأهولة بالسكان والمستشفيات ودور العبادة بالقصف. ويشدد على حماية المدنيين أثناء الحرب، في مبادئ تضمنتها ايضاً دراسة للجنة الدولية للصليب الأحمر صدرت في العام 2005م.
ويوضح صلاح، أن القانون الدولي الإنساني وضع تعريف للهدف العسكري وهو أن يكون ذو ضرورة وفائدة عسكرية شريطة ألا يكون في منطقة مأهولة بالمدنيين بغرض تعطيله فقط ويشكل التدمير الكامل للأهداف العسكرية نفسها جريمة، كما وضع القانون مبادئ ينبغي مراعاتها في القصف وهي التمييز والتناسب والاستخدام والتي تحدد نوع السلاح المستخدم وحجم الضرر المتوقع أن يحدثه وما إذا كان يناسب الهدف المستهدف.
ويضيف:”صحيح الطيران آلي ولكن هناك تدخل بشري يحدد نوع السلاح المستخدم ووزن الصاروخ وحجم الضرر الذي سوف يحدثه وهنا تقع المسؤولية القانونية، فما حدث من قصف للأسواق والمناطق المأهولة في الخرطوم ونيالا وغيرها كان معلوم الضرر بالنسبة للمنفذ، وهو يندرج تحت جرائم الحرب التي تحدثت عنها اتفاقية جنيف الأولى وأيضا تعتبر من الجرائم التي تستدعي التحقيق وفق النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية”.
وتابع:”يجري التوثيق لكل اعمال القصف وسط المدنيين وهذا سوف يشكل دليل ادانة لأن نوع التسليح لطرفي الحرب في السودان معروف ومن السهل تأسيس أدلة إدانة للمتهمين، لكن السودانيون هم من يحددون شكل المعاقبة إما أن تكون عبر القضاء الدولي أم محاكمة جنائية خاصة داخل البلاد وهو أمر متروك لوقته”.
إدانة ومرافعة
من جهته، يقول المحامي السوداني معزة حضرة لـ(عاين) إن “لم تكن عمليات القصف العشوائي على المناطق السكنية محرمة بموجب القانون الدولي واتفاقيات جنيف الأربع فحسب بل يعتبر جريمة حرب بموجب القوانين الوطنية خاصة القانون الجنائي الذي نص بشكل صريح على تجريم قصف المدنيين”.
ويضيف: “رصدنا محامين وحقوقيين سقوط ضحايا وسط المدنيين جراء عمليات القصف الجوي التي يقوم بها طيران الجيش السوداني وهي جريمة بكل تأكيد، نحن ندين بشدة اعمال القصف العشوائي من طرفي الحرب على المدنيين”.
ويدافع الخبير العسكري، خالد محمد عبيد الله، عن موقف الجيش السوداني، ويقول لـ(عاين): إن “معلومات استهداف الطيران تدرس وتراجع من عدة اتجاهات من الأقمار الصناعية من الخرط المحدثة ثم تعطى درجة أهمية قصوى”.
“الطيران العامل في المعركة الحالية حديث ولا يعتمد على رؤية الطيار بالعين المجردة بل هي احداثيات تترجم لضربة جوية نسبة الخطأ فيها بسيطة جداً.. هناك خطأ طيار وهذا يحدث في أنواع معينة من الطائرات ونسبة خطأ الآلة وهذه حداثة الطيران العامل تجاوزها”. وفقا لـ عبيد الله.