جولة “الاستنزاف” في حرب السودان.. من يكسب الرهان؟
عاين- 10 يونيو 2025
مع تطاول أمد الصراع المسلح في السودان، توسع الجيش وقوات الدعم السريع في فيما يعرف بـ”حرب الاستنزاف” باستخدام الطائرات المسيرة لضرب العتاد العسكري وخطوط الإمداد، في تطورات تفرض واقعاً جديداً للمعركة التي ربما تتركز في الأجواء خلال الفترة المقبلة، مع مناوشات محدودة على الأرض.
تلك التحولات تجيء في الوقت الذي كان يتطلع فيه السودانيون إلى وقف القتال، لتضرب موعداً مع نمط جديد من الحرب يراهن فيها الطرفان على السلاح المتطور خاصة الطائرات المسيرة كعامل حاسم في هذا الصراع، لتستمر التداعيات الإنسانية على المدنيين في شتى أنحاء البلاد، التي أصبحت بأثرها تحت رحمة الأسلحة الجوية.
ورغم المؤشرات بمزيد من تطاول فترة الصراع التي تسيطر على المشهد العام، إلا أن ثمة من يرى أن مرحلة الاستنزاف في أي حرب هي بداية نهايتها بإنهاك أحد أطرافها أو التوصل إلى قناعة بضرورة التسوية السلمية للصراع، خاصة حال حدوث توازن قوى عبر الطائرات المسيرة أو المدفعية، أو أي نوع آخر من سلاح الجو المتطور، وهو ما بدأ يتمظهر في القتال الحالي بين الجيش وقوات الدعم السريع.
وبعد مضي عامين على اندلاع الصراع، انحسرت المعارك بين طرفي حرب السودان على الأرض، عقب استعادة الجيش السيطرة على وسط البلاد والعاصمة الخرطوم، وأصبحت الاشتباكات في كردفان وبعض المناطق في إقليم دارفور، لكن بعد الطائرات المسيرة الاستراتيجية، صار كل السودان تحت القصف، بما في ذلك الأماكن الآمنة التي يسيطر عليها الجيش، ولم تصلها المعارك البرية من قبل.
وخلال شهر مايو الماضي، صعدت قوات الدعم السريع من وتيرة استهداف مواقع حيوية بالطائرات المسيرة، حيث قصفت مستودعات وقود والمطار وقاعدة للجيش في مدينة بورتسودان شرقي البلاد، والتي تضم مقر الحكومة التي تقودها القوات المسلحة، كما ضربت مخازن وقود ومحطات كهرباء في عطبرة وكوستي وأم درمان والأبيض ومروي ودنقلا وعدد من المواقع، مما أدى إلى تدهور في خدمات الكهرباء ومياه الشرب.
عرقلة الإمداد
وفي المقابل، تركزت ضربات الجيش الجوية على مدينة ومطار نيالا الذي يعتبر بمثابة خط إمداد رئيسي لقوات الدعم السريع، وسط تقارير بتسبب هذه الهجمات في تدمير عتاد حربي وأسلحة متطورة تابعة للدعم السريع.
ويشير الخبير العسكري اللواء د. أمين إسماعيل مجذوب إلى أن قطع خطوط الإمداد يمثل أهم عناصر المعركة العسكرية الحديثة، وهو ما قامت به القوات المسلحة السودانية ضد قوات الدعم السريع، إذ دمرت معبر أدري البري، والمتحركات القادمة من دول الجوار الغربي، وعطلت الملاحة الجوية في مطار نيالا والمهابط الترابية المحيطة بمدينة نيالا، مع تدمير بعض الطائرات المخصص لنقل الإمداد.

وذكر مجذوب في مقابلة مع (عاين) أن قطع الإمداد اللوجستي يقلل من العمليات العسكرية، واتضح ذلك من خلال خروج قوات الدعم السريع من جنوب النيل الأزرق وسنار والجزيرة والعاصمة الخرطوم، نتيجة تباعد خطوط الإمداد الخاصة بها، وليس لديها إمداد محلي داخلي بالمواد البترولية والذخائر والغذاء، كما انعكس لاحقا على
يرى مجذوب، أن قطع خطوط الإمداد اللوجيستي بالعتاد والرجال دفع قوات الدعم السريع إلى الاعتماد بشكل كلي على الطائرات المسيرة لضرب أهداف عسكرية ومدنية كان لها التأثير في بعض الخدمات مثل الكهرباء ومياه الشرب والمستشفيات، وهي تسعى بذلك إلى ضرب استعدادات الجيش وتشريد السكان وخلق ضغط شعبي على الحكومة السودانية لوقف الحرب، لكن اللجوء إلى الحرب الجوية يؤكد أن الدعم السريع يعاني نقصاً في الجنود على الأرض.
ثلاثة أشكال للمعركة القادمة
وتفرض هذه التحويلات في مسار الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع والتي أصبحت عبر الأجواء، تساؤلات بشأن شكل المعركة القادمة والسيناريوهات المحتملة لمستقبل الصراع الذي دخل عامه الثالث.
وبناء على التطورات الراهنة ولجوء طرفي الصراع السوداني إلى الطائرات المسيرة، يتوقع الخبير العسكري اللواء أمين إسماعيل مجذوب ثلاثة أنماط للمعركة القادمة والمستقبلية بين الجيش وقوات الدعم السريع، أولها حرب مدن، وهو كما يحدث الآن في النهود والخوي بولاية غرب كردفان، والدبيبات والحمادي بجنوب كردفان، رغم أنها مدن صغيرة، لكنها ستعيد صورة ما حدث في الجزيرة وسنار والخرطوم.
أما النمط الثاني وفق مجذوب هو التحول إلى حرب صحراوية، فمن المعلوم أن كردفان ودارفور مناطق مفتوحة وصحراوية خاصة الجزء الشمالي من ولاية شمال دارفور، والقتال في الأماكن المفتوحة له مميزاته وخصائصه وتحدياته، بينما يكون النمط أو الشكل الثالث عبر الأجواء من خلال الطائرات الحديثة والمتطورة، وهو ما سيحدث مستقبلاً ما لم يتم إنهاء الحرب بانتصار أحد الأطراف أو التفاوض.
تحييد المطارات
ويقول المحلل السياسي محمد تورشين، إن الحرب السودانية منذ اندلاعها قبل عامين كانت تركز على الاستنزاف والإنهاك، وهو رهان يتوسع مع تطاول أمد الصراع، فقطع خطوط الإمداد ينعكس بشكل كبير على سير المعارك في الأرض.

ويرى تورشين في مقابلة مع (عاين) أنه إذ استطاع الجيش تحييد كل المطارات في نيالا والجنينة وزالنجي، سيعيق حصول قوات الدعم السريع على الدعم والتمويل، كما أن القوة المشتركة المنتشرة على الصحراء يمكنها التأثير في خطوط الإمداد البرية وتدفق الأسلحة من جيش خليفة حفتر في ليبيا إلى قوات الدعم السريع.
ويشير إلى أن قوات الدعم السريع ستسعى إلى توظيف مطارات أخرى كانت تستخدمها قوات يوناميد في السابق مثل مطار جبل سبيريا في نيالا، وفي مطارات بوسط دارفور، وربما تلجأ إلى أفريقيا الوسطى إذا استطاعت إقامة علاقات طيبة معها، لكن في تقديري أن الدعم السريع لديه سلاح وعتاد حربي يكفيه لفترات طويلة، في المقابل سيعمل الجيش على تدميره.
ويضيف: “قوات الدعم السريع استهدف بشكل ممنهج البنى التحتية في مناطق سيطرة الجيش بغرض رسالة للمدنيين بأن حياتهم ليست آمنة وغير مستقرة، بجانب التأثير في الخدمات، وهذا الشيء وضع الجيش أمام تحد كبير للغاية وهو حماية المواطنين وتوفير الخدمات الأساسية لهم، لأن استمرار هذا الوضع سيضع الحكومة أمام ضغط شعبي واسع، وستكون عودتهم إلى منازلهم شبه كارثية، وهو ما تراهن عليه قوات الدعم السريع”.
وتابع:”الاستنزاف مدخلاً للانتصار في الحرب وسيكون مستمراً حتى نهاية القتال، وستكون تداعياتها على المدنيين كبيرة جداً، وستكون المعركة على الأرض في كردفان، وهي الجولة الفاصلة والحاسمة”.