“نهب وحرائق” .. الحرب تُحيل أسواق كبرى في السودان إلى رماد

26 مايو 2023

لم يكن “يوسف الطيب” – أحد التجار في سوق أمدرمان، يتوقع أن يفقد ثروة مالية جمعها خلال 20 عاماً في أيام معدودة بعد أن تعرض متجره لأعمال النهب المصاحبة للحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.

مع مضي الوقت يسعى “الطيب” جاهداً ليقنع نفسه بالفاجعة التي لحقت به، فقد صار متجره الخاص ببيع المواد الغذائية المختلفة فارغاً تماماً بعد أن نُهبت كافة البضائع التي كانت بداخله ومبالغ نقدية ومقتنيات أخرى ليتلقى خسائر مالية فادحة قدرها خلال مقابلة مع (عاين) بنحو 50 مليار جنيه.

يجسد “يوسف” واقع آلاف التجار السودانيين الذين تعرضت محالهم التجارة في الأسواق المختلفة بالعاصمة الخرطوم الى اعمال نهب واسعة بواسطة عصابات مسلحة خلال الفترة التي أعقبت اندلاع الحرب، لتتبخر معها ثرواتهم تحت نيران الصراع وتعيدهم عقود الى الوراء.

أسواق محترقة

عصفت الحرب بكبرى الأسواق في العاصمة الخرطوم، مثل سوق ليبيا غربي أمدرمان والذي يعتبر مركز رئيسي للملابس والاحذية والعطور المستوردة ويغذي كل انحاء السودان حيث يضم كبار مستوردي الملبوسات والأحذية، بجانب سوق أمدرمان البوستة الذي تعرضت للنهب والحرق على حد سواء. كما طالت أعمال النهب البنوك والصرافات التجارية ومقار الشركات الكبرى والمصانع.

عصفت الحرب بكبرى الأسواق في العاصمة الخرطوم

والتهم الصراع أسواق المحطة الوسطى وسعد قشرة والمركزي في مدينة بحري شمالي العاصمة، بجانب السوق الشعبي الخرطوم وأم درمان، فضلا عن السوق العربي والافرنجي بوسط الخرطوم والتي تعتبر مراكز للاقتصاد السوداني لما يتخللها من نشاط تجاري واسع في مختلف المجالات، عطفاً على مجمعات تجارية ضخمة  بينها عفراء وسيتي بلازا جنوبي الخرطوم والتي جميعها تعرضت للنهب والحرق والاتلاف.

ويقول المحلل الاقتصادي أحمد خليل في مقابلة مع (عاين) إن “اعمال النهب التي تعرضت لها الأسواق داخل العاصمة تعتبر ضربة قوية للاقتصاد السوداني وتتراوح الخسائر المادية لهذه العمليات بين 6 – 7 مليار دولار حتى اللحظة، وإذا توقفت الحرب فإن هذه الأسواق بحاجة الى مدى طويل حتى تستعيد عافيتها وهذا الأمر رهين بمدى قدرة الدولة على تعويض التجار المتضررين”.

“لم تتوقف تداعيات حرق الأسواق عند حد الخسائر المالية على التجار فحسب، ولكن سيؤثر ذلك على الإمداد الغذائي للسكان، إذ أصبحت هناك متاجر محدودة تعمل داخل الاحياء في العاصمة الخرطوم واقتربت بضائعها من النفاد وهذا مؤشر خطير للغاية يزيد المعاناة الإنسانية للمواطنين”. يضيف خليل.

نقل البضائع

ومع تصاعد أعمال النهب، قام العديد من التجار بنقل ما تبقى لهم من بضائع الى منازلهم وجهات آمنة أخرى، وصارت المحال التجارية في الأسواق المركزية بالعاصمة الخرطوم شبه خالية، الأمر الذي يفاقم معاناة المواطنين في الحصول على المواد الغذائية وشتى احتياجاتهم الحياة.

وبحسب معاوية الهادي – صاحب محل تجاري في سوق ليبيا غربي أمدرمان، فإن عمليات نهب السوق ما تزال مستمرة وفي وضح النهار بواسطة مجموعات مسلحة بعضها يرتدي زي قوات الدعم السريع وآخرين بلباس مدني ويمتطون سيارات لاند كروزر وعربات صغيرة “صالون”.

ويقول الهادي في مقابلة مع (عاين) “استهدفت هذه المجموعات غالبية المتاجر في سوق ليبيا حيث يقوم افرادها بكسر أبواب المحال التجارية بالرصاص ويستهدفون فقط المبالغ النقدية ومن ثم ترك المتجر فاتحاً للمجرمين لنهب البضائع التي بداخله في سلوك شبه ممنهج”.

“لم تتوقف تداعيات حرق الأسواق عند حد الخسائر المالية على التجار فحسب، ولكن سيؤثر ذلك على الإمداد الغذائي للسكان”. محلل اقتصادي

ويضيف “قمت بنقل كل بضائع متجري الى منزلي ولن أعود إلا بعد أن يتوقف هذه الصراع ويعم الأمن، بينما قرر بعض التجار الجلوس أمام محالهم التجارية المغلقة ويحملون أسلحتهم النارية لحمايتها من جماعات النهب في مغامرة كبيرة سوف تجعل حياتهم في دائرة الخطر”.

غياب الشرطة

ويواجه أصحاب المحال التجارية في مختلف أسواق العاصمة الخرطوم خطر الموت وهم يدافعون باستماتة عن أموالهم وسط فوضى أمنية عارمة في ظل غياب تام لقوات الشرطة التي توارت عن الأنظار منذ اندلاع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في منتصف ابريل الماضي، مع ذلك راح آلاف التجار ضحية لعمليات النهب والسلب.

ويقول يوسف الطيب، صاحب متجر في سوق أمدرمان إنه “يعيش حسرة كبيرة كونه لم يتمكن من حماية متجره حيث تم نهبه ليلاً وعندما جاء في الصباح وجد كل شيء قد انتهى، حيث أخذت عصابات النهب حصاد عمره الذي كان يستثمره حتى يعول أبنائه ويعلمهم”.

ويضيف: “أشعر بحزن شديد لضياع اموالي ولكن نؤمن بقضاء الله ونسأله ان يخلف لنا من خزائنه مثلما أعطانا اول مرة، فخسارتي الشخصية لا تساوي شيء مقارنة بحجم الدمار الذي لحق بالسودان، وان مبعث الأسى يكمن في ضياع وطن بأكمله إذ بات ينعدم فيه الأمن والغذاء وانتفت كل أسباب العيش فيه”.

وتعرض عبد الله محمد الى خسائر فادحة بعد نهب محله الخاص ببيع الموبايلات في سوق ليبيا غربي أمدرمان وسرقة كافة الأجهزة التي كانت بداخله وهي متنوعة بين الجديد والمستخدم من مختلف الماركات والشركات العالمية، وذلك بعد كسره بواسطة مسلحين حسب شهود أخبروه عندما ذهب لتفقد دكانه صباح يوم السبت الماضي.

“لم يتبق لي شيء سوى الموبايل الشخصي الذي كنت استخدمه، لقد اخذوا جميع ممتلكاتي حتى الوصلات الكهربائية وزينة الهواتف النقالة مع تحطيم زجاج الواجهات… إنها خسارة مادية كبيرة لم أقم حتى الآن بحصرها، ولكن سوف تفوق مبلغ 3 ملايين جنيه سوداني” يضيف محمد في حديثه لـ(عاين).

اتهامات متبادلة

وفي خضم فوضى الأمن، يتبادل طرفا الحرب في البلاد الاتهامات بشأن عمليات نهب الأسواق والمصارف التجارية والحكومية والمواطنين في الأحياء السكنية، حيث يصمم الجيش السوداني على وقوف قوات الدعم السريع وراء هذه الأعمال، بينما تنفي الأخيرة هذه التهم على الدوام، وتؤكد أن مجرمين ينتحلون زيها العسكري يقومون بتنفيذ هذا السلوك الإجرامي.

وبعد أيام قليل من اندلاع القتال في منتصف أبريل الماضي، جرى إطلاق سراح السجناء في كافة سجون العاصمة الخرطوم والذين يفوق عدد 7 آلاف، وتبادل الجيش وقوات الدعم السريع ايضاً الاتهامات بشأن التورط في الإفراج عن السجناء، وساهمت الخطوة في مفاقمة حالة السيولة الأمنية واعمال النهب والسلب في الأسواق.

ويقول الخبير الاقتصادي الدكتور محمد الناير في مقابلة مع (عاين)، “حجم الدمار الذي تعرضت له الأسواق كبير بسبب عمليات النهب والسلب التي تمت بصورة تعتبر دخيلة على الشعب السوداني “.

“أفرزت الحرب خسائر مالية فادحة الصعب حصرها في الوقت الراهن، ولكن في العموم تقدر قيمتها بمليارات الدولارات، وتحتاج الى تعويض لكل المتضررين خلال المرحلة الماضية واللاحقة بعد انتهاء الصراع وتوحيد الجيش وتأسيس السلطة الانتقالية”. يضيف الناير.

وتابع: “نهب الأسواق وكل تداعيات الحرب يمثل ضربة اقتصادية كبيرة، ولكن السودان بلد قوي بموارده الطبيعية و ثروات باطن الأرض، فإذا تم توظيف هذه الإمكانيات بالصورة المثلى بعد توقف الحرب فمن الممكن عودة الحياة الاقتصادية الى وضعها الطبيعي وتجاوز آثار الصراع المسلح”.

سنوات للتعافي

فيما يرى المحلل الاقتصادي أحمد خليل، أن تعافي الاقتصاد السوداني بحاجة الى سنوات طويل وربما عقود نظراً للدمار الكبير الذي لحق به جراء الحرب الدائرة، فقد خرجت الحركة التجارية وهي روح الاقتصاد عن الخدمة تماماً ونهبت الأسواق بما تحتويه من بضائع ذات قيمة مالية عالية”.

جانب من سوق أم درمان- الصورة من موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك

ويشير خليل في حديثه لـ(عاين)، إلى تجار في الأسواق الكبرى مثل سوق ليبيا وسعد قشرة بدأوا التفكير في نقل أنشطتهم التجارية الى مدن سودانية آمنة مثل ود مدني وغيرها ضمن مساعٍ لاستئناف الحركة التجارية والتي باتت في حكم المستحيل داخل العاصمة الخرطوم نتيجة استمرار الاشتباكات العسكرية.

ويقول: “يترتب على نهب الأسواق، توقف عمليات الامداد الغذائي للمواطنين، حيث اقتربت العديد من السلع والمواد التموينية من النفاد وهذا أمر كارثي، ويسهم ذلك في مفاقمة تدهور الأوضاع الإنسانية للسكان الذين لم يعد لديهم أي خيارات سوى الاستسلام وانتظار مساعدات إنسانية قد تصل من الخارج”.

ورغم ذلك، فإن ثمة درس يستفاد من هذه الحرب بالنسبة لـ “خليل”، وهو التفكير في ان يكون هناك أكثر من مركز تجاري توزع في الولايات، وإنهاء الخطأ الاستراتيجي في جعل كل الصناعات التحويلية ورئاسات البنوك والمراكز التجارية داخل العاصمة الخرطوم دون وجود بدائل في الولايات وهو ما أدى الى شلل في الحركة الاقتصادية والفشل في مزاولة العمل.