“خوف وضائقة معيشية”.. روايات الفارين من جحيم حرب العاصمة السودانية
29 أبريل 2023
تحت شمس الظهيرة اللاهبة، (يُمسك حمد إبراهيم) إحدى طفلاته بيد وبالأخرى يحمل حقيبة ثقيلة مرافقا زوجته وطفلته الثانية في رحلة اضطرارية مع آلاف الفارين من جحيم الحرب في العاصمة السودانية.
(حمد) كغيره من المواطنين السودانيين الذين قست عليهم الحرب وأجبرتهم إلى هجر منازلهم والنزوح بعيداً عن العاصمة الخرطوم التي أصبحت شوارعها ساحةً للعمليات الحربية، تجول فيها الدبابات والمجنزرات ليجد المدنيين العُزَّل أنفسهم أمام خيارين إما البقاء ومواجهة عدمية الحرب وما تنتجه من موت وجوع وإفقار، أو النزوح ومعانقة الحياة في جغرافيا أخرى.
منذ الأيام الأولى لاندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع بالعاصمة الخرطوم ظلَّ موقف السفريات بالسوق الشعبي أم درمان يكتظ بالمغادرين من العاصمة إلى ولايات السودان المختلفة، إلا أن أعدادهم صارت آخذة في الازدياد مع تمدد رقعة الاحتراب في أنحاء مدن العاصمة الثلاثة، ومع ظهور أزمة حادة في الوقود تضاعفت أسعار التذاكر للمسافرين إلى أرقاماً أضحت تُعجِز حتى المقتدرين، مما اضطرهم للسفر على متن أي متحرك، حتى وإن كانت عربة شحن بضائع.
اندلعت حرب الجيش والدعم السريع في الخامس عشر من إبريل ٢٠٢٣ في ظل ظروف اقتصادية طاحنة يمر بها السودانيين.
يصيح أصحاب الحافلات والباصات واللواري بأسماء المدن المتوجهين إليها، وأمام كل عربة تسمع مفاوضات الركاب معهم لتخفيض سعر التذاكر، خصوصاً وأن هؤلاء المواطنين يسافرون كأُسرٍ بأكملها، مما يُضاعف التكلفة المالية لنزوحهم.
(نادر عبدالله) وهو صاحب عربة نقل قال لـ(عاين) إن قيمة تذاكر السفر بواسطة الدفار الـ (جامبو) تبدأ من عشرين ألف جنيهاً وتصل حتى الخمسين.
حيث يُكلف السفر إلى مدينة سنار ما بين الثلاثين إلى أربعين آلاف جنيهاً، وولاية القضارف خمسون ألف جنيهاً، وود مدني ما بين ١٥ إلى ٢٠، في حين أن أقل تذكرة قبل اندلاع أحداث الحرب كانت خمسة آلاف جنيه.
ويقول نادر إن “أعداد المسافرين كبيرة جداً وتزداد في فترة الظهيرة، وأن معظم المسافرين يتوجهون إلى ولايات النيل الأبيض والجزيرة وسنار”.
يشتكي مُلَّاك الباصات وحافلات النقل من انعدام الوقود، ويعزون التضخم الكبير في أسعار التذاكر إلى اضطرارهم لشراء الوقود من السوق الموازي نسبةً لعدم توفره في الطلمبات.
يتخوف الفارون من العاصمة من مخاطر الطريق المتمثلة في هواجسهم من مطاردة الرصاص والقذائف لهم نسبةً لوجود ارتكازات للطرفين المتصارعين بطول الطرق السفرية، كما أنهم أيضاً يبدون قلقهم من النهب والسلب الذي طال عدداً من المسافرين في طرق سفرية كثيرة مثل شارع التحدي الموصل إلى ولايات الشمال، وطريق بارا الموصل إلى ولايات كردفان.
(إيمان سليمان)، وهي متوجهة إلى ولاية سنار على متن دفار، اضطرت لهجر منزلها مع بناتها بسبب وقوعه في منطقة الصراع المسلح، قالت بأنهم مجبرين على النزوح، فالوضع الأمني مضطرب والوضع المعيشي صعب، والسيولة المالية منعدمة.
أما (عصام عوض) فيقول إن هناك سببين جعلاه يلجأ للنزوح، وهو خوفه على أبنائه من نتائج الحرب، والضائقة المعيشية التي أصبحت آخذة في التصاعد خاصةً على الذين يَجنون رزقهم بالعمل اليومي في ظل استمرار الحرب. ويتخوف من تطاول أمد هذه الحرب وابتعاده لزمان عن دياره.
ويبقى النزوح خياراً ليس بالسهل، إذا يتحتَّم على الإنسان في مثل هذه الظروف اتخاذ قرار النزوح والمفارقة بأسرع وقت، فيتخلى بذلك عن أرضه التي بها منشأة وعمله وعلاقاته الاجتماعية، ليحظى فقط بفرصة للنجاة من ويلات الحرب.
والعاصمة الخرطوم التي لم تشهد منذ عهد الدولة المهدية حرباً بين جيشين، أحالها هذا الصراع الأخير إلى مدينة أشباح، حيث باتت تخفت من قلبها رويداً رويداً نبضات الحياة، وسكانها الذين حقبوا حقائبهم و يمموا وجوههم قِبَل المدن الآمنة يتضاعف في قلبهم حزن دفين، وحسرات كبرى، لكن عزاؤهم في النزوح البقاء آمنين على قيد الحياة.