الذهب.. مُموّل حرب السودان في أتون الصراع مع الإمارات

عاين–  27 أغسطس 2025

منحى جديد يتخذه الصراع بين الحكومة التي يقودها الجيش من بورتسودان، ودولة الإمارات، بعدما تحولت من خلافات دبلوماسية متواصلة لأكثر من عامين، إلى حرب اقتصادية، وذلك في أعقاب قرار اتخذته أبو ظبي يقضي بوقف استقبال رحلات الطيران القادمة من السودان مباشرة، مما كان له مردود مباشر على صادر الذهب السوداني، الذي يمثل المورد الأساسي لتمويل الحرب في البلاد.

هذا التحول الذي جاء بعد سلسلة مواجهات بين بورتسودان وأبو ظبي وحرب إعلامية ودبلوماسية، وقانونية وصلت إلى المحاكم الدولية، أحدث ربكة في سوق الذهب في السودان، إذ تمثل الإمارات الوجهة الرئيسية لصادر الذهب السوداني، نظراً لسهولة وصوله مباشرة عبر رحلات الطيران، والحصول على عائداته بشكل فوري، كما أن بورصة دبي لا تسأل التجار عن مصدر الذهب بخلاف الأسواق الأخرى، وفق تجار ومتعاملين.

وتوترت العلاقات بين السودان والإمارات منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، حيث يتهم الجيش أبو ظبي بدعم وتمويل قوات الدعم السريع، الأمر الذي تنفيه بشدة. ورفعت حكومة بورتسودان دعوى قضائية ضد الإمارات لدى محكمة العدل الدولية، لكن تم شطبها في مايو الماضي، لعدم اختصاص المحكمة، لتتطور هذه الخلافات إلى حرب اقتصادية مست الذهب، أهم مورد في السودان.

وفي 6 أغسطس الحالي، قررت الإمارات وقف الرحلات الجوية من وإلى بورتسودان، الأمر الذي أدى إلى توقف صادر الذهب بشكل تلقائي، إذ كانت عمليات تصدير هذا المعدن تتم عبر نقله في حقائب يدوية في رحلات الطيران العادية مباشرة إلى الإمارات، وفق مصادر حكومية. وأكد وزير المعادن السابق محمد بشير أبو نمو في تصريحات هذا الشهر أن 95 بالمئة من الذهب المنتج في السودان يذهب ويباع في دبي.

ارتباك بالسوق

وقال تاجر ذهب في بورتسودان لـ(عاين): إن قرار الإمارات تسبب في ربكة كبيرة في سوق الذهب بالسودان، ومخاوف وسط التجار بعد ما ضاقت خيارات التصدير وهو ما قد يترتب عليه خسائر مالية، وكذلك نتيجة للقرار ارتفعت عمليات تهريب الذهب، وهو ما قد يقلص قدرة الدولة للسيطرة والاستفادة من عائدات هذا المورد الهام.

أسعار الذهب ارتفعت في الأسواق المحلية بعد قرار الإمارات وصعد سعر الجرام من 290 الف جنيه إلى 303 الف جنيه في بورتسودان

تاجر ذهب

وأضاف التاجر الذي طلب عدم الكشف عن هويته: أن “أسعار الذهب ارتفعت في الأسواق المحلية بعد قرار الإمارات في مفارقة كبيرة، حيث صعد سعر الجرام من 290 الف جنيه إلى 303 الف جنيه في بورتسودان، ربما سعت السلطات الحكومية إلى وضع أسعار محلية تشجيعية لمحاصرة أنشطة التهريب، وقد يكون الارتفاع مرتبطاً بالتراجع الأخير في قيمة العملة الوطنية مقابل النقد الحر”.

ويشير التاجر، إلى فتح نوافذ تصدير جديدة من بينها سلطنة عمان والقاهرة، لكن هذه الأسواق تستقبل كميات محدودة من الذهب، كما توجد تعقيدات كبيرة تتعلق بالحصول الفوري على العائدات، بخلاف سوق دبي في دولة الإمارات.

تقطير الذهب من التربة في عملية “المخلفات” أو “الكارتة” في ولاية نهر النيل (عاين)

ومن سوق منجم الخناق شمالي السودان، يكشف تاجر ذهب لـ(عاين) عن ارتفاع سعر جرام الذهب من 287 الف جنيه إلى 302 خلال الأسبوع الجاري، لافتاً إلى أن عمليات شراء الذهب تستمر بشكل عادي دون أي تغيرات، حيث يشتري بنك السودان المركزي كل الكميات المنتجة من هذا المعدن فورا.

تستمر عمليات إنتاج وتداول الذهب محلياً، لكن يظل التصدير عاملاً أساسياً للاستفادة من عائدات هذا المعدن الذي يمثل مورداً أساسياً في اقتصاد الحرب في السودان، وتمويل الأعمال القتالية للجيش، ومع صعوبة الوصول إلى السوق الرئيسية في دبي، لم يحقق السودان العائدات السابقة، وربما يحتفظ بالذهب في البنك المركزي، لكنه يحتاج إلى الأموال لتسيير دولاب الدولة، وفق تاجر من بورتسودان.

ولا توجد أرقام واضحة تحدد نسبة مساهمة عائدات صادر الذهب في الميزانية العامة بالسودان، لكن المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية الحكومية، قال في فبراير الماضي إن “إنتاج الذهب في السودان ارتفع من 42 طناً إلى 64 طناً، وحقق عائدات 1.9 مليار دولار خلال العام 2024، في ظل الحرب، وذلك بفضل رعاية الدولة وتذليل كافة الصعوبات والمهددات الأمنية لقطاع التعدين بالبلاد”. لكن وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم، ذكر في تصريحات لرويترز في يناير الماضي، إن بلاده أنتجت 64 طنا من الذهب في العام 2024، لكنها صدرت رسمياً 31 طنا.

تمويل الحرب

ويقول وزير الاستثمار سابقا ورئيس حزب الأمة مبارك الفاضل في تصريح سابق لـ(عاين): “إنتاج الذهب في المناطق الخاضعة إلى سيطرة الجيش يقدر بـ60 طناً في العام، بعائد مالي يصل إلى 6 مليارات دولار أمريكي، وجميع هذه المبالغ تذهب لتمويل الحرب ومشتريات السلاح، وهذا أحد أهم حوافز الجيش السوداني للتمسك باستمرار الحرب ومنع وقفها، حتى يستفيد من الفساد في هذه الأموال التي لا تخضع لأي رقابة، فقط تدار بواسطة قائد الجيش ومحافظ البنك المركزي”.

ويشير إلى أن كل هذه الكميات من الذهب كانت تذهب إلى الإمارات كوجهة مفضلة عن الأسواق الأخرى مثل لندن وسنغافورة التي تضع اشتراطات للبيع من بينها ضرورة إثبات وتوضيح مصدر الذهب، كذلك توجد صعوبة في تحويل ونقل الأموال إلى السودان. ونتيجة لذلك يفضل السودانيون بما في ذلك سلطة الجيش، البيع في دبي؛ لأنها سوق حر.

ويضيف الفاضل “في دبي يحصلون على أموال الذهب نقدا والتصرف فيها بطرق مختلفة، مثل فتح اعتمادات بنود سكر أو مواد بترولية. على سبيل المثال يفتحون خطاب اعتماداً عن طريق بنك النيلين أبو ظبي لشراء سكر، لكن في حقيقة الأمر تكون مشتريات سلاح. كما أن وسطاء “سماسرة” روس لا يقبلون التحويلات البنكية، ويفضلون استلام عائدات مبيعات السلاح نقداً في دبي. وبناء على هذه الأسباب تعتبر دبي السوق الأمثل للجيش والمهربين من السودان لبيع الذهب”.

ويؤكد الخبير الاقتصادي معتصم الأقرع في مقابلة مع (عاين): أن “الذهب يُعد المصدر الأول للعملات الصعبة بعد تحويلات المغتربين، وبند مهم في الميزانية لتمويل أنشطة الدولة والحرب المفروضة عليها، مما يجعل قرار وقف الرحلات الجوية إلى الإمارات ما سيترتب عليه من إعاقة وصول الذهب إلى وجهته الأساسية دبي، ذو تأثير كبير لا يستهان به، خاصة على قيمة العملة الوطنية”.

أسواق بديلة

لكن الطلب العالي على الذهب في الأسواق العالمية نتيجة اعتماد بعض الدول عليه لبناء الاحتياطات في المصارف المركزية بدلاً عن الدولار الأمريكي كما كان في السابق، مما يفتح الباب أمام الذهب السوداني للوصول إلى أسواق أخرى غير الإمارات، فهو مفضل للكثير من الجهات، وفق الأقرع.

خلال المدى القريب سيؤثر وقف صادر الذهب على الحكومة السودانية، وستصيبها هزة كبيرة، لكن مع مرور الوقت ستظهر أسواق بديلة

خبير اقتصاد

ويقول: “خلال المدى القريب سيؤثر وقف صادر الذهب على الحكومة السودانية، وستصيبها هزة كبيرة، لكن مع مرور الوقت ستظهر أسواق بديلة، ربما تكون الصين، روسيا، البحرين، تركيا، السعودية، فهذا مورد يوفر أرباحاً كبيرة والجميع سيسعى إليه لتحقيق الفائدة، غير أن ذلك بحاجة إلى فترة زمنية بغرض إنشاء معامل للذهب ومعالجته، وبناء شبكات تجارية ومالية، وتسويقية”.

من جهته، قلل الخبير الاقتصادي د. محمد الناير من تأثير وقف صادر الذهب إلى الإمارات، وقال لـ(عاين): إن “الذهب عليه طلب عال في كل العالم، وسيسعى السودان إلى إيجاد أسواق بديلة مثل السعودية، الهند، روسيا، الصين، تركيا، كما أن الحكومة السودانية حال تمكنت من إيجاد بدائل لعائدات صادر أخرى، يمكن الاحتفاظ بالذهب لدى البنك المركزي، خلال هذه الفترة ليشكل صمام أمام لاستقرار سعر صرف العملة الوطنية”.

الصورة لسوق الذهب بمدينة أبوحمد في ولاية نهر النيل

ويشير إلى أن مساهمة الذهب كنسبة في الموازنة العامة ليست كبيرة، لكنه يساهم بشكل أكبر في عائد الصادرات، وسيستمر تصديره إلى أسواق بديلة ولن يتوقف.

وخلال شهر أغسطس الحالي تراجعت قيمة العملة الوطنية إلى مستوى قياسي، حيث وصل سعر الدولار الأمريكي الواحد إلى 3300 جنيه سوداني، وتبع ذلك ارتفاع في مجمل أسعار السلع الاستهلاكية في البلاد.

ويرى الناير أن التراجع الأخير في قيمة العملة الوطنية ليس له علاقة بوقف صادر الذهب إلى الإمارات، بل هو نتاج طبيعي لوضع دولة تعيش تحت وطأة الحرب، ومعالجته تتطلب جهداً وخططاً قوية من الفريق الاقتصادي في الحكومة، وربما يكون تغيير العملة بشكل كامل وحذف بعض الأصفار مدخلاً لحل مشكلة تدهور الجنيه.

وقف الحرب

وفي المجمل، فإن وقف صادرات الذهب إلى الإمارات سيلقي بتأثيرات اقتصادية واسعة، ولو على المدى القريب، خاصة في ما يتعلق بتمويل العمليات القتالية للجيش السوداني، وهو ما يطرح تساؤلاً بشأن إمكانية أن يشكل مدخلاً لوقف الحرب المستمرة في البلاد.

وأعقبت العلاقة بين حكومة بورتسودان والإمارات، لقاء جمع قائد الجيش عبد الفتاح البرهان مع مستشار الرئيس الأمريكي مسعد بولس في سويسرا وبحثا وقف الحرب. وبعد ذلك أحال البرهان كبار الضباط المحسوبين على الحركة الإسلامية إلى التقاعد، كما أعفى النائب العام عمر طيفور ومساعديه المحسوب على النظام السابق من منصبه، في خطوات متسارعة فسرها البعض بأنها تصب في اتجاه السلام، حيث يُتهم الإسلاميون بعرقلة التفاوض.

لكن المحلل السياسي عروة الصادق، يرى أن تجفيف مورد الذهب الرسمي يضعف قدرة الجيش على تمويل الحرب، لكنه لا يوقفها بالكامل، والسبب أن اقتصاد الحرب في السودان متشعب والذهب مورد للطرفين، الجيش والدعم السريع على حد سواء، والدعم السريع يسيطر على مناجم كبيرة في دارفور وكردفان، ويصدر كميات معتبرة عبر مسارات مختلفة.

ويقول الصادق لـ(عاين): “هناك تجارب سابقة أوضحت أن اقتصاديات التهريب تتكيف بسرعة، وإذا أُغلق مسار دبي المباشر، تظهر مسارات بديلة: مصر، تركيا، قطر، وربما عبر واجهات أفريقية، وما لم يكن هناك تنسيق إقليمي ودولي لإغلاق هذه المنافذ مجتمعة عبر آليات تتبع المنشأ، سيظل الذهب يجد طريقه للأسواق العالمية”.

ويضيف “أثر وقف الصادر للإمارات سيكون اضعاف تمويل الحرب ورفع كلفته، لكنه لن يوقفها، فوقف الحرب يحتاج إلى حزمة أوسع: ضغط منظم على قنوات التهريب، عقوبات تتبع منشأ الذهب، وأدوات سياسية وعسكرية متوازية لفرض مسار تفاوضي قوي موضوعي حاسم وعادل. بدون ذلك يصبح ما حدث مجرد تعديل في مسارات الاقتصاد الحربي لا أكثر”.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *