السودان: انهيار الكهرباء ورهانات الإعمار الصعب

عاين- 3 نوفمبر 2025

في خضمّ حربٍ دمّرت ملامح الحياة المدنية في العاصمة السودانية، انهارت منظومة الكهرباء في الخرطوم من خدمةٍ أساسية إلى واحدةٍ من أكبر كوارث البنية التحتية. فالمحطات الرئيسة خرجت عن الخدمة، وشبكات النقل والتوزيع تآكلت تحت القصف والنهب، فيما تعيش الأحياء في ظلامٍ متواصل يهدد عمل المستشفيات ومحطات المياه والاتصالات.

 وبين محاولات إنعاشٍ حكومية محدودة، ووعودٍ بإحياء التعاون الروسي في مجالات الطاقة النووية والمتجددة، يبحث السودانيون عن بدائل مؤقتة — من ألواحٍ شمسية صغيرة ومولداتٍ مجتمعية — في معركة يومية مع العجز الكهربائي الذي صار رمزًا لانهيار الدولة.

تُظهر شهادات مسؤولي قطاع الكهرباء وخبراء الاقتصاد والطاقة حجم الدمار الهائل الذي أصاب الشبكة القومية للكهرباء ومحطات التوليد في الخرطوم ومناطق أخرى، إلى جانب الخسائر المالية التي تُقدَّر بمليارات الدولارات. وفيما تُشير إفادات مهندسين إلى أن بعض المحطات يمكن إنعاشها جزئيًا دون إعادة بناء كاملة، يرى اقتصاديون أن إعادة التأهيل الشامل تتطلب تمويلًا خارجيًا غير متاح في ظل الحرب. كما تكشف إفادات أخرى عن تحوّل متزايد نحو حلولٍ بديلة، أبرزها الطاقة الشمسية والمبادرات الأهلية الصغيرة، في ظل غياب خطة واضحة لدمج هذه الجهود ضمن المنظومة الوطنية مستقبلاً.

تقديرات أولية: خسائر القطاع تجاوزت خمسة مليارات دولار

مصدر بالشركة السودانية للكهرباء

وقال مصدر مسؤول بالشركة السودانية لتوزيع الكهرباء المحدودة، إنّ التقديرات الأولية تشير إلى أن خسائر القطاع تجاوزت خمسة مليارات دولار. وأوضح في حديث لـ(عاين) أنّ محطة توليد بحري الحرارية، التي تبلغ طاقتها (380) ميقاواط، إلى جانب المحطات الغازية (150) ميقاواط، تعرّضتا لأضرار كبيرة. فقد تم انتزاع معظم الكوابل، وتفريغ كميات كبيرة من وقود الفيرنس من التنوكة الرئيسة، ما أدى إلى انتشار الوقود في معظم مساحة المحطة لفترة طويلة. كما تعرّض مولد الوحدة الخامسة بالمحطة، بطاقة (100) ميقاواط، لتدمير كامل في الملفات بهدف الحصول على النحاس. وبذلك، أصبحت محطة بحري الحرارية خارج الخدمة تمامًا، في حين تضرّرت محطة قري وتعرّضت لأضرار واسعة أيضًا.

وأضاف المصدر: أنّ” محطات التوليد الواقعة خارج الشبكة القومية، في ولايتي كردفان ودارفور، أصيبت بأضرار جسيمة. فقد دُمّرت محطتا توليد الفاشر وزالنجي كليًّا، بينما تعذّر الوصول إلى محطات كادوقلي والنهود والجنينة ونيالا بسبب الظروف الأمنية المعروفة، ما يجعل تقدير حجم الأضرار فيها أمرًا صعبًا”.

وأشار إلى أنّ المحطات التحويلية لم تسلم بدورها من التخريب، حيث تم تفريغ زيوت بعض المحولات الكهربائية الكبيرة مرتفعة الثمن، وهي من نوع الضغط العالي وتحتوي على كميات كبيرة من الزيوت المخصصة للعزل والتبريد.

كما لحقت أضرار جسيمة بمكونات هذه المحطات، خاصة محطة المقرن المجاورة لشركة زين، ومحطة المرخيات التي تربط مروي بالشبكة القومية، إضافة إلى محطات الكباشي ومارنجان وعدد من المحطات الأخرى، وفقا لذات المصدر.

وأوضح أنّ شبكات نقل الكهرباء تضرّرت بشكل واسع، وتعرّضت شبكات التوزيع، المنوط بها توصيل الكهرباء مباشرة للمستهلكين، لأضرار بالغة. فقد أتلفت كميات كبيرة من أسلاك التوصيل وأعمدة الكهرباء ومكونات محطات التوزيع، لا سيما في ولاية الخرطوم، كما تم فقدان أكثر من ستة آلاف محول كهربائي معظمها داخل الولاية.

وأضاف أنّ مباني رئاسة شركات الكهرباء نفسها — سواء في التوليد الحراري أو المائي أو النقل أو التوزيع — لم تسلم من الدمار. فقد تم حرق هذه المباني التاريخية وانتزاع جميع كوابل الكهرباء منها، إضافة إلى نهب المئات من السيارات التابعة للقطاع.

في ظل الانهيار شبه الكامل لمنظومة الكهرباء بالعاصمة، تتكشف صورة الدمار الذي أصاب البنية التحتية للطاقة في الخرطوم، وما خلّفته الحرب من عطب واسع طال المحطات وخطوط النقل والمولدات، وسط تساؤلات حول مدى إمكانية إعادة تشغيل الشبكة جزئيًا أو إنقاذ ما تبقّى منها.

ويقول الخبير في شؤون الطاقة والاقتصاد، أحمد بن عمر: إنّ “الحرب خلّفت أضرارًا واسعة واسعة في البنية التحتية المدنية بالخرطوم، شملت محطات توليد فرعية ومحطات تحويل    (Substations) وأبراج وخطوط نقل ومولدات حرارية ومخازن وقود، إلى جانب نهب معدات حساسة، ما أدى إلى تدمير شامل وخسائر كبيرة في مرافق حيوية”.

ويوضح في مقابلة مع (عاين) أن إمكانية إعادة تشغيل شبكة الكهرباء جزئيًا قائمة لكنها محدودة ومشروطة، إذ يمكن تأهيل بعض الحلقات المحلية والمحطات التي لم تتعرض لدمار شامل، شريطة توفير قطع الغيار والمحولات والخبرات الفنية والوقود اللازم. أما استعادة تغطية موثوقة على مستوى المدينة أو الولاية فتتطلب إصلاح خطوط النقل الرئيسية واستبدال المحطات المدمرة.

ويرى بن عمر، أن تشغيلًا جزئيًا للخدمات الأساسية – مثل المستشفيات ومحطات المياه ومرافق الإيواء – يمكن تحقيقه خلال أشهر في نطاقات محددة، بينما تحتاج استعادة شبكة مستقرة على نطاق واسع إلى جهود وموارد مالية ضخمة على مدى أطول.

تقييم الأضرار

ويقدّر بن عمر أن كلفة إعادة إعمار البنى التحتية الوطنية بعد الحرب تتراوح بين عشرات ومئات المليارات من الدولارات، مشيرًا إلى أن السودان يحتاج إلى تمويل ضخم لإعادة الإعمار عمومًا، ما يجعل وضع تقديرات دقيقة لقطاع الكهرباء رهينًا بتقييم تفصيلي للأضرار. وتشير التقديرات العامة إلى أن تكلفة إعادة تأهيل قطاع الكهرباء القومي – بما يشمل شبكات النقل والتوليد والتحكم – تقع على نطاق عدة مليارات من الدولارات على الأقل، وقد ترتفع إلى عشرات المليارات إذا شملت بناء محطات جديدة وتوسعات شبكية.

ويطرح بن عمر، مجموعة من الخيارات الواقعية للتمويل، من بينها القروض والمنح متعددة الأطراف من البنك الدولي وصناديق التنمية الإقليمية والاتحاد الأوروبي وصناديق عربية، على أن تكون مشروطة بالإصلاحات والشفافية، إلى جانب شراكات ثنائية مع دول ومؤسسات صديقة مثل روسيا أو دول الخليج لتمويل مشاريع محددة في قطاع الطاقة.

كما يشير إلى إمكانية الدخول في مشروعات شراكة مع القطاع الخاص عبر الاستثمار في محطات غازية وحقول شمسية وشبكات صغيرة من خلال عقود شراء طاقة طويلة الأمد، إضافة إلى طرح سندات تمويلية مثل سندات المهجرين أو الشتات بدعم من ضمانات دولية، بجانب الاستفادة من المساعدات الإنسانية وبرامج الطوارئ لإصلاح المحطات الحرجة.

ويعتبر أن حلول الطاقة الشمسية المنزلية وشبكات التوليد الصغيرة ومولدات الديزل المجتمعية أثبتت فعاليتها في سد احتياجات الطوارئ وتحسين الوصول المحلي للكهرباء، مؤكدًا أنها تمثل حلولًا أسرع وأنسب في ظل غياب شبكة مركزية مستقرة، كما تقلل الاعتماد على الوقود المستورد عند دمجها مع أنظمة تخزين مناسبة. ويرى أن مشاريع الطاقة المجتمعية الصغيرة، مثل المحطات الشمسية المحلية، يمكن أن توفر طاقة حرجة بتكلفة رأسمالية معقولة مقارنة بإعادة بناء شبكة النقل القومية. أما دمجها في المنظومة الوطنية فهو ممكن ومرغوب، لكنه يتطلب إطارًا تنظيميًا واضحًا يشمل تراخيص للميكروغريد وإشرافًا على المعايير الفنية ونظام تعرفة موحدًا أو دعم عبور، مع إمكانية ربط الشبكات المحلية بالشبكة القومية عند استعادتها. ويشير إلى أن بعض مؤسسات التنمية الإقليمية تعمل بالفعل على نماذج يمكن تبنيها في السودان، غير أن غياب التنظيم يجعل هذه المبادرات متناثرة وغير قابلة للتوسع المنهجي.

تنفيذ محطة نووية يستغرق وقتًا طويلاً قد يمتد إلى عقدين

 خبير في شؤون الطاقة والاقتصاد

وفي ما يتعلق بالمشاريع النووية المعلنة مع روسيا، يرى بن عمر أنها تبقى بعيدة المدى في الوقت الراهن، موضحًا أن ما جرى حتى الآن لا يتعدى إعلانات واتفاقيات إطار تتعلق بدراسات أو مشاريع مستقبلية، بينما يتطلب تنفيذ محطة نووية زمنًا طويلاً قد يمتد إلى عقدين، وبنية تحتية متقدمة، وقدرات تنظيمية عالية، وكلفة رأسمالية ضخمة.

ويشدد على أن وجود اتفاق إطار لا يعني الجاهزية الفعلية للتنفيذ أو التمويل، معتبرًا أن المحطات النووية خيار استراتيجي بعيد الأمد لا يمثل حلًا عاجلًا لأزمة الطاقة الحالية. ويضيف: «أنا أستبعد هذا الخيار تمامًا في الظروف الراهنة، فالمتطلبات الأمنية والتنظيمية والتمويلية تجعل المضي في مشروع نووي خلال حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي مخاطرة عالية». ويرى مع ذلك أن الخيار النووي يظل محتملًا على المدى المتوسط إلى الطويل، بشرط تحقق الاستقرار السياسي وتوافر القدرة التنظيمية وضمان التمويل.

خطوات عاجلة

ويخلص بن عمر، إلى أن النهوض بقطاع الكهرباء خلال المرحلة الانتقالية يتطلب خطوات عاجلة تشمل إجراء تقييم فني ومالي سريع ومُحكم لحصر الأضرار في المنشآت الرئيسية وتقدير الكلفة والمدة اللازمة، باعتبار ذلك شرطًا لتقديم طلبات التمويل. كما يدعو إلى تأمين القطع الحرجة وقطع الغيار لإعادة تشغيل خطوط تغذية المستشفيات ومحطات المياه، وحماية البنية التحتية من النهب، وتنشيط الطاقة المجتمعية عبر دعم مشاريع شمسية محلية، وإعادة تشغيل الوحدات الحرارية المتاحة كحل مؤقت لتلبية الطلب. ويشدد كذلك على ضرورة إصلاح سياسات التعرفة لضمان استدامة الخدمة، وحشد التمويل المختلط بالتعاون مع مؤسسات دولية ومستثمرين وفق نموذج الشراكة، مع تعزيز الحوكمة والشفافية من خلال آلية رقابة محلية ودولية على مشاريع الإعمار. ويؤكد أن وضع خطة طويلة المدى للطاقة خلال عامين أمر ضروري لتوازن بين التوليد المائي والحراري وتسريع مشاريع الطاقة المتجددة، إلى جانب التنسيق بين الجهود الإنسانية والتنموية لضمان أثر مباشر على الخدمات الحيوية ودعم عودة النازحين إلى المدن.

تدمير ممنهج

وسط انهيار البنية التحتية في السودان وتفاقم أزمة الخدمات الأساسية، يبرز قطاع الكهرباء كواحد من أكثر القطاعات تضررًا بشكل مباشر، مع آثار فورية على حياة المواطنين وقدرتهم على التكيف مع الظروف الراهنة. يقول الخبير والمحلل الاقتصادي، محمد الناير لـ(عاين): إن “قطاع الكهرباء في السودان، وخاصة في الخرطوم، تعرض لتدمير واسع وممنهج من قبل قوات الدعم السريع، شمل المحولات، والكيبلات، ومحطات التوليد، مما ألحق خسائر فادحة بالبنية التحتية الكهربائية”.

ويشير إلى أن حجم الأضرار كبير جدًا، لكن السلطات الرسمية لم تحصر بعد التكلفة الفعلية للخسائر، مشيرًا إلى ضرورة تشكيل لجان فنية متخصصة تعمل على تقييم الوضع بدقة لتحديد حجم الدمار في الشبكة القومية للكهرباء. وأضاف: أن “الدولة بدأت بعض المعالجات الأولية رغم غياب الإحصاءات الدقيقة، حيث شرعت في استقدام عدد كبير من المحولات بغرض تحسين مستوى الإمداد الكهربائي في المناطق المتضررة”.

وأشار الناير إلى أن الحرب دفعت المواطنين والشركات والمؤسسات التجارية إلى البحث عن بدائل، أبرزها التحول نحو الطاقة الشمسية، وهو خيار كان مطروحًا حتى قبل الحرب لمعالجة عجز الإنتاج الكهربائي الذي كان يقدر بنحو 1000 ميغاواط، إذ بلغ الإنتاج نحو 4000 ميغاواط مقابل استهلاك يقارب 5000 ميغاواط في أوقات الذروة.

وبيّن الناير، أن دعم التمويل الأصغر لمشروعات الطاقة الشمسية المنزلية يمكن أن يسهم في تقليص العجز القائم بطريقة فعالة وبتكلفة ميسّرة، معتبرًا أن الاستثمار في محطة توليد بقدرة ألف ميغاواط يتطلب نحو مليار إلى ملياري دولار، بينما يمكن توجيه هذا التمويل لمبادرات طاقة لامركزية عبر الطاقة الشمسية.

وفي جانب آخر، اعتبر الناير أن الاتفاقية الموقعة مع روسيا في مجال التعاون الاقتصادي والطاقة تمثل خطوة مهمة، نظرًا لخبرة موسكو الطويلة في مجالات الطاقة النووية والاستخدام السلمي لها لتوليد الكهرباء، مشيرًا إلى أن الطاقة النووية توفر كهرباء رخيصة نسبيًا بعد تجاوز التكلفة الرأسمالية الأولية.

وأضاف: أن “التعاون مع روسيا ينبغي أن يتوسع ليشمل دولاً صديقة مثل تركيا، الصين، السعودية، قطر والكويت، للمساعدة في إعادة إعمار قطاع الكهرباء وبقية البنى التحتية.”

وينوه الناير، إلى أن السودان لا يمكنه التعويل كثيرًا على المجتمع الدولي في إعادة الإعمار نظرًا للتجارب السابقة غير المشجعة، مؤكدًا أن البلاد بحاجة إلى الاعتماد على مواردها الذاتية وشراكاتها الثنائية مع الدول الصديقة لدعم جهود إعادة التأهيل والإعمار الشامل.

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *