حرب أخرى على حدود السودان
17 أغسطس 2021
مأسأة إنسانية خلفتها أحداث منطقة المقينص الحدودية بولاية النيل الابيض مع جنوب السودان التي إندلعت في المنطقة الأسبوع الماضي وأدت لمقتل سبعة أشخاص بينهم طفلين، كما أدت الإشتباكات المسلحة بين فصيلين عسكريين من المعارضة الجنوب سودانية، لنزوح الآلاف من الجانبين السوداني والجنوب سوداني.
وفي السابع من أغسطس الماضي إندلع صراع في منطقة المقينص الحدودية بين مجموعتين متمردتين يتبعان لقبيلتي الشلك والنوير اللتان يتيمان في المنطقة، بسبب الخلافات السياسية، وإشتمل الصراع بينهما على إستخدام الأسلحة الثقيلة مثل البنادق والدبابات.
وتقع منطقة المقينص في أقصى جنوب ولاية النيل الأبيض على بعد نحو 146 كيلو متر من مدينة ربك العاصمة الولائية.وتعتبر المنطقة مثلثاً جغرافياً تشترك فيه الولاية مع جنوب السودان مع ولاية أعالي النيل الجنوب سودانية، التي تضعها ضمن حدود مقاطعة “مانج” كما تشترك فيه مع ولاية جنوب كردفات السودانية. ويُقدر عدد سكان منطقة المقينص بنحو 50 ألف نسمة، يمثل السودانيين الجنوبيين منها 40% فيما يمثل السودانيين الشماليين 60% من عدد السكان.
وفي سبتمبر 2018 وقع فرقاء جنوب السودان إتفاق السلام النهائي بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا، ليؤدي فيما بعد التأخير في تنفيذه لنشوء العديد من التعقيدات بينها التأخر في تنفيذ الترتيبات الأمنية المدرج في الإتفاقية التي نصت على دمج العسكريين مع الجيش الجنوب سوداني الجديد.
الأوضاع الإنسانية:
“كنت شاهدا على اطلاق النار الكثيف في البلدة، والقصف تم من الاسلحة الثقيلة ما اجبر المواطنين على مغادرة منازلهم”.. شاهد
يقول علي أبو القاسم، وهو أحد مواطني المقينص لـ(عاين) ويضيف، ” لن يغادر ذاكرتي مشهد إمرأتين إحتميتا بقطية في الخلاء وهما ينجبان طفليهما دون وجود مساعدة طبية”.
أدت الأوضاع الصعبة التي شهدتها المقينص إلى وقوع سبعة وفيات بينهم شيخ كبير في السن وفتاة بالإضافة لخمسة أطفال بينهم توأم توفيا بمدينة كوستي الواقعة في ولاية النيل الأبيض، لأسرة نزحت جراء الأحداث التي وقعت هناك.
كما تسببت الأحداث في هلع ووذعر بالغين مما تسبب في موجة نزوح كبيرة لمناطق مثل جنوب كردفان والعكف والراوات وغيرها، كما إتجه البعض إلى المناطق الواقعة حول منطقة المقينص، وإتجه البعض الآخر إلى مدينة كوستي، كما أن بعض اللاجئيين الجنوب سودانيين إتجهوا ناحية معسكرات اللجوء الواقعة في المنطقة الشرقية للمقينص.
وعلى الرغم من الازمة الانسانية في المنطقة، إلا ان تدخل المنظمات العاملة في الحقل الإنساني لا يزال بطيئاً لأسباب تتصل بضرورة إعداد التجهيزات اللازمة قبل الوصول للمنطقة وتقديم العون الإنساني. يقول مفوض العون الإنساني بولاية النيل الأبيض ، منصور على عبيد لـ(عاين)، ويشير إلى أن المواطنين غير مطمئنين لذا فهم لا يرغبون في العودة، مما يلقي على عاتق مفوضية العون الإنساني وبقية المنظمات عبئاً كبيراً.
ويؤكد عبيد أن الموقف الإنساني في المنطقة يعتبر في غاية الحرج، وتسيطر على المواطنين حالة من الإرهاق، كما أن فصل الخريف الممطر في المنطقة يزيد من الصعوبات التي يواجهونها. وينادي مفوض العون الإنساني بولاية النيل الأبيض بضرورة التدخل السياسي من قبل الحكومة بالخرطوم العاصمة لمعالجة وضعية القوات الجنوب سودانية بمنطقة المقينص، كما دعا لضرورة معالجة المشكلات الحدودية مع الجارة جنوب السودان.
الأشخاص المعرضون للخطر من ذوي الاحتياجات الخاصة من دولتي جنوب السودان والسودان يُقدر عددهم بحوالي 1200 فرداً عالقون في المقينص- تقرير رسمي
وقال تقرير التقييم السريع المُعد بواسطة مفوضية المساعدات الأنسانية بالنيل الأبيض ووزارة الصحة بالولاية ومفوضية الأمم المتحدة السامية لشوؤن اللاجئين وبرنامج الأغذية العالمي واليونيسف ومنظمة الصحة العالمية والخطة الدولية وصندق الأمم المتحدة للسكان في الحادي عشر من أغسطس الجاري، المتعلق بأحداث المقينص والذي اطلعت عليه (عاين)، إن جميع سكان المقينص فروا إلى مواقع مختلفة باستخدام عدة وسائل بما في ذلك المشي والجرارات والشاحنات وعربات الحمير والخيول والسيارات الصغيرة.
وأشار التقرير إلى أن هناك العديد من الأشخاص المعرضون للخطر من ذوي الاحتياجات الخاصة من دولتي جنوب السودان والسودان يُقدر عددهم بحوالي 1200 فرداً عالقون في المقينص بسبب نقص القدرات المالية لدفع تكاليف نقلهم لمناطق آمنة أخرى.على سبيل المثال فإن تكلفة النقل من المقينص إلى كوستي هي 2000 جنيه سوداني للفرد.
وبحسب التقرير فإن السكان النازحين الذين تم تقييمهم في ” العكف” و “الراوات” قالوا أنهم لن يعودوا للمقينص بسبب المستوى العالي من التهديدات الأمنية، بسبب وجود مجموعة الشلك المتمردة التي يقودها القائد ” أولنج” والتي لا تزال في المنطقة مما يهدد حياتهم. كما أشار التقرير لوجود إنتشار كافٍ لقوات الأمن السودانية لحماية السكان المدنيين المتبقين وممتلكاتهم. وأوضح التقرير أن سوق المقينص مغلق تقريباً مع قدرة محدودة على توفير السلع والمواد لإبقاء الناس على قيد الحياة، مما زاد من العامل المُلح للفرار من المنطقة. كما أشار التقرير لنقص المياه للسكان النازحين في مناطق مختلفة، موضحاً إعتمادهم على مياه الأمطار أو الجداول الراكدة.
مستشفى المقينص مُغلق تقريباً، بسبب فرار جميع العاملين في المجال الطبي مع عائلاتهم بما في ذلك الأطباء الأربعة والتسعة قابلات، مع بقاء مساعد طبي واحد لا يمكنه تقديم المساعدة للأشخاص المتبقين- تقرير رسمي
نقص صحي
وبالنسبة لمستشفى المقينص يشير التقرير إلى أنه مُغلق تقريباً، بسبب فرار جميع العاملين في المجال الطبي مع عائلاتهم بما في ذلك الأطباء الأربعة والتسعة قابلات، مع بقاء مساعد طبي واحد لا يمكنه تقديم المساعدة للأشخاص المتبقين، كما يفتقر المستشفى إلى توفر الأدوية والمختبرات، وعلى سبيل المثال ففي العاشر من أغسطس والحادي عشر من أغسطس سجلت المساعدة الطبية أكثر من 500 حالة إسهال و10 حالات من لدغات الثعابين ولدغات العقارب مع عدم وجود اللقاحات المناسبة.
وخلص التقرير إلى ضرورة التوفير العاجل للمواد بشكل رئيسي (الناموسيات والأغطية البلاستيكية، أطقم المطبخ والبطانيات وحصائر النوم، كما أكد التقرير على ضرورة التوفير العاجل لمواد المأوى المحلية الطارئة لبناء ملاجئ موقتة، حيث يقيم المواطنون حالياً تحت الأشجار المعرضة لظروف بيئية قاسية، مع ضرورة توفير طاقة الطبخ.
في جانب الحماية فيقول التقرير إن النازحين الذين وصولوا تم استضافتهم في 5 مناطق إقامة، ففي منطقة “الراوات” أُستضيفوا بمدرسة إبتدائية للبنات وأخرى إبتدائية للبنين ومركز بيطري و وحدة إدارية بالإضافة إلى مدرسة ثانوية، كما أن بعضهم أستضيف في منازل المجتمع، أما في “العكف” فإن بعض النازحين أُستضيفوا في منازل المجتمع، والبعض الآخر في مدرستها الابتدائية. كما أوضح التقرير إن النساء والفتيات يُشكلن أكثر من 60% من النازحين داخلياً وتم تصنيفهم بإعتبارهم أكثر الفئات ضعفاً.
طبيعة الصراع:
ويعود الصراع في نتيجة تفاعلات توقيع إتفاقات السلام بين الفرقاء السياسيين بدولة جنوب السودان” وفقا للخبير والمتخصص في التفاوض وإدارة الأزمات، أمين اسماعيل مجذوب لـ(عاين)، والذي يشير الى ان السبب يعود كذلك لتولي رياك مشار لمنصب نائب الرئيس عقب إتفاق تقسيم السلطة بعد التوقيع النهائي على إتفاق السلام وإنفراده بالمناصب السياسية لمقربين منه وإهماله تطبيق إتفاق الترتيبات الأمنية الأمر الذي أثر على وضعية هذه القوات التي لا تتوفر إحتياجاتها اللوجستة والإقتصادية مشيراً إلى أن ذلك دفع بالمرشح السابق لولاية أعالي النيل جونسون أولانج لقيادة تمرد بمشاركة سايمون قارويج الذي يعد رئيس أركان الجيش الشعبي التابع لحركة مشار.
وأكد مجذوب على أن التمرد أدى لوقوع إشتباكات ضد قوات رياك مشار أسفرت عن مقتل 30 فرداً من قواته. كما أدت لوقوع إشتباكات بين هذه القوات المتمردة وبين الجيش الجنوب سوداني التابعة لسلفاكير، راح ضحيتها نحو 13 إلى 18 فرد من الجانبين.
سلام هش:
وأوضح مجذوب أن هذه الاشتباكات يؤكد على أن إتفاق السلام في جنوب السودان لا يزال هشاً مما سيؤثر على منطقة المقينص الحدودية التابعة للسودان الشمالي، معتبراً أن وجود هذه القوات بهذه الوضعية كفيل بجعلها منطقة للصراع القابل للإنتقال للحدود السودانية بإعتبار أن بعض هذه الفصائل العسكرية الجنوب سودانية يمكنها الدخول للمنطقة وجعلها قاعدة للتحرك وتنفيذ عملياتها داخل جنوب السودان، كما سيؤدي إندلاع الإشتباكات إلى لجوء عدد كبير من المواطنين الجنوب سودانيين للسودان لأن أغلبهم من القبائل الموالية لقوات رياك مشار بإعتبار أن قبيلتي النوير والشلك هما الأثنيتين المنتشرتين في هذه المناطق.
وإعتبر المجذوب إن إستمرار الصراع هناك سيؤدي إلى إنتشار تجارة السلاح مرة أخرى، كما سيؤدي إستمرار الأحداث إلى تعطل الاتفاقيات التسعة المُوقعة بين السودان وجنوب السودان، خاصة أنه لم يتم تنفيذ الجزء الأكبر منها خاصة بما في ذلك المناطق المُتنازع عليها.
وفي 27 سبتمبر من العام 2012 وقع السودان مع دولة جنوب السودان تسعة إتفاقات للتعاون المشترك في العاصمة الإثيوبية اديس أبابا. ونصت الاتفاقيات على إقتطاع منطقة حدودية بمسافة 10 كيلومترات على طرفي الحدود، سميت المنطقة “المنزوعة السلاح، تضمنت التعاون في مجالات الأمن والنفط والمسائل الإقتصادية والترتيبات المالية الانتقالية بين البلدلين ورسوم العبور وتصدير نفط جنوب السودان عبر الأراضي السودانية إضافة للتجارة بين البلدين”
السودان يترقب
ويتوقع المجذوب تأثر السودان بهذه الصراعات حالة تصاعدها، مشيراً إلى أن السودان إذا لم يتدخل سياسياً سيجد نفسه جزءاً من الصراع، خاصة بعدما إتهمت الحكومة الجنوب سودانية السودان بدعم أحد الطرفين الذين قادا أحداث المقينص الأخيرة، ويرى المجذوب ضرورة قيام السودان بدور الوسيط عن طريق تقديم مبادرة تهدف لإنهاء الصراع على وجه السرعة، مشيراً إلى ضرورة دعم الحكومة السودانية للسلام في جنوب السودان، خاصة أن إتفاق السلام أسند لها بعض المهام مثل تأهيل الجيش الجنوب سوداني، وإستخراج النفط الجنوب سوداني والمساعدة في دعم إقتصاد جنوب السودان.
ومنذ إنفصال جنوب السودان عن السودان في العام 2011 يتنازع البلدان حول “دبة الفخار” و”كافي كنجي” و “كاكا التجارية” و” حفرة النحاس” ومنطقة المقينص نفسها. “وبالنسبة لمنطقة المقينص فهي تضم قبائل تعتبر متعايشة على طرفي الحدود وهي منطقة تداخل بين الرعاة والمزارعين، فالقبائل في فصل الخريف تتجه شمالاً وفي فصل الصيف تتجه جنوباً والحركة بينها طبيعية”، يقول المجذوب ويضيف” ليس من المتوقع أن تؤدي الإشتباكات لصراعات عسكرية في المستقبل بين البلدين مثل ما حدث في منطقة أخرى من السودان مثل الفشقة لإختلاف طبيعة الصراع.