“قتلوا والدي”.. سودانية تروي آلام مئات المرضى الفارين إلى مصر

19 يونيو 2023

بينما كانت تستعد “ربا أحمد- 27 عاماً” للنوم في مقر إقامة متواضع على الحدود السودانية المصرية في رحلة عبور شاقة مع آلاف السودانيين الفارين من الحرب إلى الأراضي المصرية. شعرت “ربا” أن والدها المريض (76 عاما) يتنفس على نحو مقلق، وبدأت على الفور في البحث عن سيارة تقل والدها إلى العيادة داخل الجانب السوداني من معبر أرقين الحدودي. لكنه وعندما عادت مع عربة النقل وجدت أن والدها فارق الحياة.

“انتهت الحياة التي أعرفها إلى الأبد بعدما توفى والدي في الساعات الأولى من فجر اليوم الأول لشهر يونيو الجاري”. تقول “ربا” في مقابلة مع (عاين) من على الحدود السودانية المصرية.

وتضيف “ربا” وهي تبكي أمام مدخل العيادة الطبية الوحيدة لمعبر ارقين: “والدي كان يعاني من أمراض الشيخوخة وأصيب بمرض الزهايمر قبل بضعة سنوات، لكنه ظل متماسكا، طوال طريق الهرب من حرب العاصمة الخرطوم إلى معبر أرقين الحدودي على الرغم من قسوة الرحلة التي استمرت لثلاثة أيام من مدينة ود مدني وسط البلاد، مروراً بولايات شرق السودان ثم إلى ولاية نهر النيل والولاية الشمالية وصولاً إلى معبر أرقين”.

نحو 12،000 أسرة سودانية تنتظر العبور إلى مصر، ويقيم معظمهم في المعابر ومدينة وادي حلفا في المساجد والمدارس – وفقًا لإحصائية صادرة عن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في 8 يونيو الجاري.

نحو 12،000 أسرة سودانية تنتظر العبور إلى مصر، ويقيم معظمهم في المعابر ومدينة وادي حلفا في المساجد والمدارس – وفقًا لإحصائية صادرة عن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في 8 يونيو الجاري. وبين هؤلاء الآلاف، مئات المرضى وطالبي العلاج علِقوا على معبري أرقين وأشكيت في الطريق إلى مصر عقب اقرار السلطات المصرية إجراءات جديدة بتقييد دخول جميع السودانيين بإستخراج تأشيرة سفر، بما يتضمن الفئات المعفية من الإجراء وفق اتفاقيات بين البلدين (النساء والأطفال ومن هم فوق الخمسين).

“أصبحت بلا عائلة”

“قتلت القرارات المتخبطة للحكومتين المصرية والسودانية والدي”. تقول ربا لـ(عاين)، وتضيف: “أمضيت ثلاثة أيام أمام المعبر بسبب التكدس وبطء الإجراءات، وعندما وصلت إلى الجانب السوداني فوجئت بقرار صدر ودخل حيز التنفيذ في ذات اليوم بمنع الجانب المصري دخول المسافرين السودانيين بوثيقة السفر حوزتي”.

وتتابع: “بقيت ليومين آخرين في المعبر على أمل إعادة العمل بالوثيقة التي امتلكها إلا أن والدي توفي فجر اليوم الثالث.. أنا ابنة وحيدة، تُوفيت والدتي قبل سنوات، واجبرتني الحرب على ترك منزلنا في الخرطوم، والسفر إلى مصر بحثا عن ملاذ آمن وخدمات علاجية مستقرة لوالدي المتوفي.. لكن القرارات المتخبطة جعلتني الآن بلا عائلة..”.

معبر أرقين الحدودي بين السودان ومصر- عاين

بالتزامن مع وفاة والد “ربا” توفيت سيدة خمسينية على بعد خطوات من المعبر المصري، كانت تعاني من مرض الفشل الكلوي، لم تخضع لجلسة غسيل منذ أيام، حاول زوجها في اليوم السابق اختراق الصفوف أمام مدخل المعبر لتوضيح الحالة الصحية لزوجته وضرورة نقلها بشكل عاجل، لكنه فشل بحسب ما رصدت مراسلة (عاين).

في ظل أوضاع بيئية متردية تتراكم بها الأوساخ والمياه الراكدة والأتربة، ظلت “سارة عوض 45 عاما” عالقة لأسبوع أمام المعبر المصري مع طفلتها “ياسمين 8 سنوات” تعاني من تأخر في النمو العقلي ومرض الجلوكوما بعد الإلغاء المفاجئ لوثيقة السفر الاضطرارية، نهاية مايو الماضي.

وتشير عوض في مقابلة مع (عاين)، إلى أن جوازات السفر الخاصة بهم داخل السفارة الهندية المغلقة منذ اندلاع الحرب في السودان 15 أبريل الماضي، وذلك في إطار ترتيبات لعلاج إبنتهم بالهند. القطرات الطبية التي تستخدمها طفلتها نفدت منذ أيام كما أنها انعدمت في السودان بسبب انهيار المنظومة الصحية.

“هنا على الحدود المصرية نجحنا بصعوبة بالغة في التواصل مع الهلال الأحمر المصري، وتم نقلنا إلى الجانب الآخر وإجراء فحوصات أولية لطفلتي لكنهم أخبروني بأن القطرات التي تحتاجها غير موجودة لديهم ليتم إعادتنا إلى الجانب السوداني مرة أخرى”. تقول سارة عوض.

كانت عيون الطفلة مليئة بالدموع، أشارت الوالدة إلى أن الطفلة بهذا الحال بسبب تدهور حالتها لانقطاع العلاج المنعدم في الخرطوم بسبب الأتربة وتلوث المعبر بالقاذورات وانتشار الذباب.

 مرضى في خطر

وفي ظل الإجراءات المصرية المتلاحقة التي حدت بشكل كبير من دخول السودانيين، أصبح مئات السودانين عالقين في المناطق الحدودية بين البلدين، بينهم مرضى وكبار سن يواجهون نقصاً حاداً في مياه الشرب والطعام، فضلا عن أن العديد منهم صرفوا جميع مدخراتهم بسبب تكاليف الرحلة والإقامة المؤقتة ومُكلفة بالمعابر والمدن الحدودية.

وعلى امتداد الجانب السوداني من معبر أرقين تتكدس الباصات السفرية، بينما يفترش المئات الأرض، بعضهم يدفع “1000” جنيه سوداني تكلفة سرير صغير منسوج من الحبال تضاعفت لاحقا.

كبار السن والمرضى يتم نقلهم بعربات تُجر باليد ومخصصة لنقل الأمتعة، بجانب تجمّع آخرين بدا عليهم الإعياء داخل مظلة صغيرة قرب مكاتب الإجراءات.

كبار السن والمرضى يتم نقلهم بعربات تُجر باليد ومخصصة لنقل الأمتعة، بجانب تجمّع آخرين بدا عليهم الإعياء داخل مظلة صغيرة قرب مكاتب الإجراءات بينما تتراكم الأوساخ في كل مكان، ومياه الصرف الصحي حول الحمام الوحيد هناك والمتسخ للغاية ولا يتناسب لاستخدام المرضى وكبار السن. فيما يقضي المسافرين في الصفوف التي كانت تمتد لمسافة طويلة خارج المعبر حاجتهم في العراء.

وفيات 

 توفي عشرة أشخاص، خلال شهر مايو الفائت، أغلبهم من المرضى كبار السن، بعضهم كانت حالته حرجة للغاية لحظة وصولهم معبر أرقين، وآخرين تدهور وضعهم الصحي بسبب السفر الطويل ونقص الطعام والجو الحار في المعبر غير المهيأ لاستقبال الآلاف من المسافرين. وفقاً لما قاله طبيب يعمل في العيادة التي تتبع للجانب السوداني بمعبر أرقين.

ويضيف الطبيب في مقابلة مع (عاين): “إمكانيات العيادة التي أعمل بها محدودة ولا تفى باحتياجات عشرات المرضى العالقين في المعبر”.  

البوابة الرئيسية لمعبر ارقين

وبحسب الطبيب، “لا توجد معايير واضحة لنقل الحالات المستعجلة إلى الجانب المصري، الذي يستقبل المرضى وفق تقديراته الخاصة وليس وفق توصيات يقدمها الجانب السوداني.

مصادر طبية- أكدت لـ(عاين) وفاة ما لا يقل عن 9 من المرضى العالقين داخل المعبر الحدودي الآخر الرابط بين السودان ومصر أشكيت- قسطل. أغلبهم نهاية مايو  الماضي بعد إلغاء التعامل بوثيقة السفر والجوازات الممددة.

فيما تحصي الناشطة السودانية في المجال الإنساني، أميرة مصطفى، وفاة 20 مريضا سودانياً  خلال الأسبوعين الأخيرين من شهر مايو الفائت بعد وصولهم إلى الجانب المصري،8 منهم دفنوا في منطقة “أبو سمبل” المصرية، والآخرين نقلت جثامينهم إلى داخل مدينة أسوان.

وتقول مصطفى في مقابلة مع (عاين): “في الغالب لا يصل إلى الجانب المصري مرضى محولين من الجانب السوداني، معظمهم ينهار وضعه الصحي بسبب الرحلة الطويلة ونقص الغذاء، والبصات السفرية سيئة التهوية خاصة مرضى الضغط والسكري”.

وتشير الناشطة في المجال الانساني، أميرة مصطفى، إلى أنه وخلال عملهم التطوعي بمدينة أسوان جنوب مصر، كانوا يرصدون تحويل ما بين 15 إلى 20 حالة مرضية يوميا، لوافدين من السودان إلى مستشفى أبو سمبل التخصصي حيث يتلقون الرعاية الأولية قبل نقلهم إلى المستشفيات الأخرى، أغلبهم من المصابين بالأمراض المزمنة.

 لكن هذا العدد تراجع مؤخراً بشكل كبير بسبب الإجراءات المصرية التي تصفها بـ “التعسفية” وتقييدها دخول جميع السودانيين بالحصول على تأشيرة سفر من الجانب المصري. بما يتضمن النساء والأطفال والرجال فوق الخمسين والذين كان يسمح لهم بالسفر دون تأشيرة. حيث أصبح المعدل اليومي لدخول البصات السفرية إلى الجانب المصري منذ بداية يونيو، ما بين (0 إلى 2).

حوّلت هذه القرارات وفقاً لـ أميرة، آلاف المسافرين إلى عالقين في المناطق الحدودية السودانية غير المهيأة لاستقبال تلك الأعداد الضخمة ما ينذر بـ(كارثة) حال عدم التدخل العاجل لا سيما  الأوضاع الإنسانية بمدينة حلفا.

وتقول اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان في تقرير لها حول الأوضاع الصحية بمعبري أرقين واشكيت، أن عيادتين تعملان تحت ضغط كبير نسبة للازدحام الناتج عن تعثّر وبطء إجراءات العبور وتستقبل عيادة ارقين حاليا حوالي 70 مريضا يوميا في المتوسط. ومعظم الحالات المرضية، تتراوح بين الجفاف، والإسهالات والنزلات المعوية إلى نوبات الربو الشعبي “الأزمة”، ومؤخرا بدأت حالات الطفح الجلدي في الانتشار.

ويشير التقرير الصادر اليوم الاثنين، واطلعت عليه (عاين)، إلى أنه يتم تحويل الحالات الطارئة شمالاً إلى أسوان (مصر) أو جنوباً إلى مستشفى حلفا ألا أن عربة الإسعاف متعطلة وبالرغم من تواجد الهلال الأحمر في أرقين، لكنه يقدم مساعدات غذائية فقط وليس له دور صحي.

وفي معبر أشكيت تستقبل العيادة الفقيرة ما يقارب الخمسين مريض يومياً موزعين على حالات الإسهال، التسمم الغذائي والجفاف ويتم تحويل من 4-5 حالات مستعجلة إلى مستشفى حلفا ومستشفى أبو سمبل بمصر عن طريق الإسعاف. وفقاً للتقرير.

مبادرات وصدمة

يحاول مبادرون سودانيون في العاصمة المصرية القاهرة تغطية العجز المتعلق بتقديم الخدمات العلاجية للمرضى القادمين من السودان، ويقول الناشط في مجال العمل الإنساني بالقاهرة محمد إبراهيم: “عدد من الأطباء والمتطوعين من البلدين نشطوا في عدة مبادرات تتضمن معاينة مرضى القلب والباطنية والسكري والغدد الصماء والأمراض الجلدية والباطنية والجهاز الهضمي، ويتم تحديد أيام لتقديم المعاينة في عيادات مجانية للسودانيين المتضررين من الحرب”.

تردي بيئي على المعابر السودانية المصرية- عاين

“لا توجد أرقام دقيقة لحصر السودانيين في مصر بما فيهم طالبي العلاج قبل أو بعد الحرب”. تقول الخبيرة في مجال الهجرة، المديرة السابقة بالمنظمة الدولية للهجرة في مصر، أميرة أحمد لـ(عاين). وتشير إلى أن هذا الغياب الاحصائي في أعداد المهاجرين والأجانب لا يقتصر فقط على مصر ولكن عموم المنطقة.

ومع استمرار الحرب في السودان على نحو مروّع ما زال مئات السودانيون يتوافدون إلى إلى المعابر، في ظل أوضاع إنسانية وبيئية كارثية، لإستخراج تأشيرة السفر، وفق القيود الجديدة التي فرضها الجانب المصري بما يتضمن فرض الحصول على موافقة أمنية، يتم بموجبها استكمال إجراءات السفر إلى القاهرة.

سودانية: لسنا بحاجة للبسكويت والماء الذي يتم توزيعه أمام البوابة المصرية.. سيموت المزيد من السودانيين العالقين بسبب الإجراءات العقيمة.

لم تتوقع “ربا أحمد” التي توفي والدها بمعبر أرقين، أن تغلق مصر أبوابها بوجه السودانيين في مثل هذه الظروف. وقالت لـ(عاين):”القاهرة تتحدث عن استقبالها آلاف  الفارين من الحرب، لكننا لا نرى شيئاً.. ندفع جميع الرسوم والتكاليف، ثم يتم إلغاء أوراق رسمية صالحة ومعتمدة من الجانب السوداني بشكل مفاجئ دون مراعاة لكبار السن والمرضى والنساء والأطفال”.

وتضيف: “لسنا بحاجة للبسكويت والماء الذي يتم توزيعه أمام البوابة المصرية.. سيموت المزيد من السودانيين العالقين بسبب الإجراءات العقيمة”.