حصار الجوع يحكم قبضته على الآلاف بكادوقلي والدلنج
عاين- 4 أغسطس 2025
في قلب كارثة إنسانية، يعيش آلاف المواطنين في مدينتي الدلنج وكادوقلي في ولاية جنوب كردفان. إذ بات معظمهم في مواجهة الجوع إثر ندرة وغلاء في الحبوب ومجمل المواد الغذائية، وذلك نتيجة تسبب المعارك العسكرية في قطع طرق الإمداد ووقف الحركة التجارية، وأصبحت المدينتان تحت وضع أشبه بالحصار الكامل.
تسبب الجوع في ظهور حالات سوء تغذية وسط الأطفال وتدهور صحة الأمهات وكبار السن في ولاية جنوب كردفان
متطوع
وتشهد المدينين شحاً في الذرة وهي الغذاء الرئيسي للسكان هناك، إلى جانب انعدام دقيق القمح، مما أدى إلى ظهور حالات سوء تغذية وسط الأطفال، وتدهور في صحة الأمهات وكبار السن، وفي مقابل ذلك يوجد ضعف في الرعاية الطبية ونقص حاد في الأدوية، مما وضع المواطنين أمام خطر الجوع والمرض، وفق متطوع تحدث مع (عاين).
وفي أبريل الماضي، قطعت قوات الدعم السريع، طريق رئيسي يغذي جنوب كردفان بالسلع والمواد الغذائية من سوق النعام على الحدود مع دولة جنوب كردفان، وذلك بعد أن سيطرت على ملتقى أم عدارة الاستراتيجي الواقع شرق جنوب ولاية غرب كردفان، وضيقت الخناق أكثر في يوليو المنصرم، بسيطرتها على منطقة الدشول التي تضم ملتقى يربط مدينة الدلنج مع ولاية غرب كردفان.
أما الشريان الرئيسي المغذي لمدينتي الدلنج وكادوقلي هو طريق الأسفلت الذي يربطهما مع مدينة الأبيض بولاية شمال كردفان، قيدت قوات الدعم السريع الحركة عبره، بعد المعارك الضارية التي خاضتها مع الجيش في الدبيبات الحمادي خلال أبريل ومايو الماضيين، وأصبحت لا تسمح بعبور شاحنات البضائع إلى ولاية جنوب كردفان.
وكانت كادوقلي والدلنج تحصل على قليل من السلع الغذائية عبر طرق برية وعرة من محليات ولاية جنوب كردفان الشرقية، المربوطة بطرق برية مع مدينة أم روابة وولاية النيل الأبيض، لكن جميع هذه الطرق أُغلقت بشكل كامل بسبب مياه الأمطار، مما أدى إلى انقطاع الإمداد عبرها، وفاقم الأزمة المعيشية.
ندرة وغلاء
وفي 17 يوليو الماضي، تجمع آلاف المواطنين في سوق كادوقلي، ونددوا بانعدام الذرة من المدينة، وجرت أحداث عنف وأعمال نهب، للمحال التجارية ومخازن حبوب تتبع للجيش السوداني، وسط اتهامات لقادة القوات المسلحة باحتكار الذرة وتجويع السكان.
انعدم القمح في الدلنج وكادوقلي وهناك شح في الذرة، بينما ارتفعت أسعار السلع المتوفرة بنسبة 300 بالمئة مقارنة بالعام الماضي
تاجر
ومع التوقف الكامل للإمداد بالسلع الغذائية في يوليو الماضي، تفاقمت الأوضاع الإنسانية في مدينتي كادوقلي والدلنج في ظل غياب تام للتدخلات الإنسانية نتيجة انعدام المسارات الآمنة، فقد ارتفعت أسعار السلع الغذائية بنسبة 300 بالمئة، مقارنة بنفس الفترة الحالية من العام الماضي، بحسب تاجر من كادوقلي تحدث مع (عاين).
ووفق التاجر، بلغ سعر جول الذرة الفيتريتا 750 الف جنيه، وملوة البصل 150 الف جنيه سوداني، وملوة الملح 100 الف جنيه، وملوة اللوبيا 100 الف جنيه، ورطل زيت الطعام 25 الف جنيه، ورطل الشاي 60 الف جنيه، كيلو الأرز 60 الف جنيه، ووصل سعر ملوة السمسم 60 الف جنيه، وكيلو السكر 20 الف جنيه حال الدفع نقداً، و40 الف جنيه للدفع عن طريق التطبيق المصرفي “بنكك”.
ويقول أحمد محمد وهو اسم مستعار لمتطوع من كادوقلي لـ(عاين): “يواجه سكان كادوقلي بما في ذلك آلاف النازحين حالة جوع، وبحسب تقديراتنا فإن 90 بالمئة من الأسر تعاني جوعاً شديداً، فقد بلغت الأسعار معدلات قياسية ومبالغ لا يستطيع المواطنون توفيرها، كما توجد ملامح ندرة لكافة السلع، وربما لا يتوفر أي شيء يُشْتَرَى”.
تحرك عاجل
ويشير إلى أن كادوقلي والدلنج لم تدخلهما أي بضائع طوال شهرين ماضيين، نتيجة قطع الطرق من القوات العسكرية المتحاربة، كما أغلقت الأمطار المنافذ من المحليات الشرقية لولاية جنوب كردفان، مما يتطلب تحركاً عاجلاً من المنظمات الإنسانية والضغط على أطراف الصراع لفتح المسارات ودخول الإغاثة.

لا يقل الوضع الصحي في ولاية جنوب كردفان خطراً عن الأزمة الغذائية، المستشفيات والمراكز الصحية في كادوقلي والدلنج تعاني نقصاً حاداً في الأدوية الأساسية كالمضادات الحيوية، وأدوية الأمراض المزمنة مثل السكري والضغط، وعلاجات الملاريا، والأطفال، كما توقفت العديد من المرافق الصحية عن العمل تماماً؛ بسبب نفاد المخزون وعدم وصول أي إمدادات طبية، وفق أحمد.
وتابع: “جميع المستشفيات معطلة أو تعمل بشكل جزئي، ولا توجد تحاليل طبية أو فحوصات دقيقة، وباتت الوفيات الناجمة عن أمراض كان من الممكن علاجها في الظروف العادية، أمراً شائعاً. يعمل الأطباء بأقصى جهدهم، لكنهم لا يملكون الأدوات والموارد اللازمة لإنقاذ الأرواح”.
ولم يختلف الوضع كثيراً في مدينة الدلنج والقرى المحيطة بها، فهي تعيش المأساة نفسها، فالوضع الإنساني بلغ مستوى متأخراً من التدهور، وصار معظم السكان عاجزين عن الوصول إلى الطعام، الغلاء والندرة، وفق ما نقله عضو غرفة طوارئ الدلنج إبراهيم خميس نورين لـ(عاين).
أمل التكايا
ويقول نورين: “ارتفعت معدلات الفقر، ومع إغلاق المسارات والذي تسبب في غلاء طاحن، بات السكان في الدلنج يعتمدون على أقاربهم في الخارج لمساعدتهم من خلال تحويلات مباشرة عبر التطبيقات المصرفية، وآخرين ليس لهم ما يرسل لهم الأموال، فيضطرون للوقوف في صفوف لساعات طويلة للحصول على وجبات مجانية من بعض المطابخ ما زالت تعمل في المدينة بإمكانيات متواضعة في ظل شح التمويل”.
كانت المطابخ المجانية تساعد مئات الأسر في مدينة الدلنج، لكن توقف معظمها بسبب شح التمويل، مما زاد مستوى الجوع
متطوع
ويضيف “هناك نحو 50 مطبخاً مجانياً في مدينة الدلنج، لكنها تعمل بشكل متعثر نسبة لمحدودية التمويل وعدم استمراره، عندما تحصل على تمويل، يُشترط عليك أن تنفقه في عدد محدد من الأيام، وعندما تقارن ذلك بأسعار السوق المتقلبة التي تتغير يوماً بعد يوم، تجد أن الأمر صعب جدا”.

ويقول الناشط المجتمعي في مدينة الدلنج مؤمن إزيرق في حديثه لـ(عاين) إن المطابخ المجانية كانت تُطعم من 150 – 300 أسرة في اليوم، لكنها ظلت عاجزة اليوم نتيجة ارتفاع تكاليف المواد الغذائية، في ظل شح كبير في التمويل، الأمر الذي فاقم من مستوى الجوع في المدينة المحاصرة.
من جهته، يشير الناشط الاجتماعي الصادق عيسى، إلى أن الوضع الذي وصلت إليه ولاية جنوب كردفان حالياً ربما يفوق في التدهور، ما شهدته في كل الحروب السابقة التي عاشتها على مر تاريخها، والسبب الأكبر لهذه الكارثة هو سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة الدبيبات، وقطع طريق الإمداد الرئيسي القادم من الأبيض في ولاية شمال كردفان.
حملات ضغط
وقال عيسى في مقابلة مع (عاين): “الحصار المفروض على ولاية جنوب كردفان أدى إلى انقطاع تام في إمداد المدن الرئيسية بالمواد الغذائية والأدوية، مما وضع حياة ملايين المدنيين أمام خطر كبير، وخلال الفترة الماضية حاول برنامج الغذاء التابع للأمم المتحدة، إيصال مساعدات إلى ولاية جنوب كردفان لكنه فشل، وصادرت القوات الأمنية القافلة الإغاثية التي كان يسيرها، فالدخول إلى هذه الولاية أصبح شبه مستحيل”.
وتوجه بنداء عاجل إلى المجتمع الدولي للتحرك وإنقاذ مواطني ولاية جنوب كردفان، بالضغط على الأطراف المتحاربة لفتح ممرات إنسانية تسهل وصول الغذاء والدواء، فالمدنيون هم من يدفعون ثمن الحصار الذي تفرضه القوات العسكرية.
ومع تصاعد الأزمة الإنسانية، أطلق ناشطون سودانيون حملة، من خلال مبادرة رؤية جيل الشبابية، بغرض تسليط الضوء على الجوع الذي يعيشه السكان في ولاية جنوب كردفان، والضغط على الجهات الإنسانية الفاعلة، بغرض التدخل العاجل وإنقاذ ملايين المدنيين في الولاية المحاصرة، وفق فاعلين في المبادرة.