جنوب كردفان … حصيلة صادمة لحرب تدور على ثلاث جبهات
عاين- 5 مارس 2024
بعد 8 أشهر، وتحت نيران معارك من ثلاث جبهات، يعيش سكان ولاية جنوب كردفان وضعًا أشبه بالحصار؛ بسبب الحرب التي يقودها الجيش ضد قوات الدعم السريع، والحركة الشعبية شمال – بقيادة عبد العزيز الحلو من جهة، ولاحقاً جرت معارك بين الحركة، والدعم السريع من جهة أخرى، وهو ما قاد إلى أوضاع كارثية في المنطقة تجلت في نقص الغذاء وانعدام الأدوية المنقذة للحياة- حسب ما نقله سكان ونشطاء لـ(عاين).
ويزداد تدهور الوضع الإنساني مع تصاعد الهجمات العسكرية على المناطق المأهولة بالسكان، وسط تقارير مروعة بوقوع انتهاكات واسعة في حق المدنيين في ولاية جنوب كردفان، تمثلت في القتل والنهب والاعتقال التعسفي والتضييق على المدافعين عن حقوق الإنسان وإغلاق المسارات الإنسانية لوصول المساعدات، وسط نداءات لتدخل دولي عاجل للتحقيق في تلك الجرائم وإنقاذ السكان.
واتهمت 11 منظمة مجتمع مدني سودانية في تقرير سلمته للمفوضية السامية لحقوق الإنسان في جنيف مؤخراً، قوات الدعم السريع بقتل أكثر من 76 مدنياً بينهم العديد من النساء والأطفال خلال مجزرة وقعت في الفترة الزمنية من 9 – 12 فبراير الماضي، في قرى هبيلا والمناطق المحيطة بالقرب من مدينة الدلنج، كما تم اختطاف 16 امرأة وفتاة، وأُطْلِق سراح 6 من المختطفين في النهاية، وافدن – وفق التقرير بأنهن تعرضن للعنف الجنسي والاغتصاب في أثناء وجودهن في الاحتجاز، وما يزال العشرات من الرجال والشباب في عداد المفقودين.
وتشير هذه المنظمات في تقريرها الذي اطلعت عليه (عاين) إلى أن “هذه الوحشية جاءت نتيجة لمحاولة قوات الدعم السريع السيطرة مدينة الدلنج في ديسمبر الماضي، حيث هاجموا عدة قرى للانتقام من المدنيين في المنطقة نتيجة اتهامهم بدعم الجيش السوداني، مما أدى إلى تشريد ونزوح أكثر من 40 ألف شخص، وحرق 5 قرى منها، زلطايا وتغول وواتا”.
اعتقالات عشوائية
ويكشف التقرير كذلك عن أوضاع إنسانية كارثية يعيشها السكان والنازحون في جنوب كردفان، بعد منع وصول المساعدات، وفشل موسم الحصاد الزراعي، مما جعل شبح الجوع يلوح في الأفق بالمنطقة، كما أدى عدم الوصول إلى الخدمات الصحية الأساسية إلى مقتل مدنيين مصابين في تلك الهجمات، وهو واقع دفع تلك المنظمات للمطالبة بوقف الأعمال العدائية والهجمات على المرافق الطبية، وأيضا دعوة المجتمع الدولي لدعم تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية وتوسيع نطاقها لتشمل كافة مناطق النزاع بعد حرب أبريل 2023م.
وفي المقابل يواجه المواطنون في العاصمة كادوقلي حملة اعتقالات تقودها الاستخبارات العسكرية التابعة للجيش السوداني بحق الفاعلين في منظمات المجتمع المدني والعمل الطوعي، وبحسب مصادر ذات صلة تحدثت مع (عاين) فإن والي ولاية جنوب كردفان محمد إبراهيم عبد الكريم وجه الأجهزة الأمنية بتوقيف أي شخص ينتقد سياساته في إدارة الشأن العام في الولاية.
وبحسب المصادر، فإنه خلال شهر فبراير الماضي أُصْدِرت أوامر قبض في حق 91 شخصاً من الفاعلين في منظمات المجتمع المدني وأطباء نتيجة اعتراضهم على تدهور الأوضاع الإنسانية في الولاية، والدور السلبي لحكومة ولاية جنوب كردفان في مواجهتها. وتقول “يُعْتَقَل المدنيون عن طريق الاستخبارات العسكرية، لكن يُحْجَزُون في حراسات الشرطة بعد تدوين بلاغات كيدية بتهم ارتكاب جرائم ضد الدولة وتقويض النظام الدستوري، وبالتالي يفرج عنهم بكتابة تعهدات شخصية، وهناك أفراد تعرضوا للتعذيب الشديد خلال فترة احتجازهم”.
ويقول الصحفي والناشط الحقوقي المطلع على ملف ولاية جنوب كردفان عثمان نواي، إن “سكان جنوب كردفان يعيشون وضع شيء للغاية ومجاعة حقيقة مع غياب كامل للمنظمات والجهات الرسمية عن تقديم المساعدات، كما أن فشل الموسم الزراعي جعل المجتمعات المضيفة للنازحين عاجزة عن تقديم أي نوع من العون والتكافل الاجتماعي وهو أمر قاس في ظل إغلاق الطرق المؤدية إلى الإقليم”.
وينبه نواي في مقابلة مع (عاين) إلى أن هبيلة تعد منطقة استراتيجية وَحَسّاسَةٌ، وهي مكتظة بالسكان لكونها سهلاً زراعياً اشتهر بمشاريع الزراعة المطرية الآلية، لكن من المؤسف يعاني مواطني هذه المنطقة الغنية من المجاعة الآن، ولا توجد أي مساعدات أو تدخلات إنسانية دولية أو محلية، أو من الدولة.
ويضيف “مع استمرار هجمات الدعم السريع على المدنيين وعدم دخول المساعدات العاجلة، فإن الوضع يمضي يتحول بسرعة إلى كارثة إنسانية لا تقل سواء عن ما حدث في مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور مؤخراً، حيث أصبحت مناطق واسعة في جبال النوبة مهددة وعشرات الآلاف من المدنيين في خطر مواصلة القتال في المنطقة”.
وضع كارثي
من جهتها، تقول رحاب محمد وهي مواطنة من كادوقلي إن “الأوضاع الإنسانية وصلت إلى مستوى كارثي في كل ربوع ولاية جنوب كردفان، وتستوجب التدخل العاجل من المنظمات التطوعية وإلا سيموت المواطنون بالجوع والمرض”.
وتشير رحاب في مقابلة مع (عاين) إلى أن “آلاف الأشخاص نزحوا قبل أشهر من منازلهم في شرق مدينة كادوقلي إلى غربها؛ بسبب المعارك وقتها، إذ يقيمون في مدارس البان جديد وحجر النار، الرديف، والثانوية بنات، تحت أوضاع إنسانية سيئة، وليس هناك ما يقدم لهم العون الكافي باستثناء مجهود يقوم به متطوعون لتوفير بعض الوجبات”.
وتعيش ولاية جنوب كردفان وضع أشبه بالحصار الكامل، إذ تعتمد على منفذ واحد فقط لدخول البضائع في اتجاهها الجنوبي من منطقة سوق النعام على الحدود مع دولة جنوب السودان، الشيء الذي قاد إلى غلاء طاحن في أسعار السلع الغذائية بما في ذلك الذرة، كما تشهد المنطقة ندرة في بعض المواد الغذائية.
ويكشف خالد سليمان، وهو تاجر مواد تموينية في مدينة كادوقلي خلال مقابلة مع (عاين) عن ارتفاع سعر السلع الغذائية الرئيسية غضون الـ5 أشهر الماضية بنسبة تجاوزت 150 بالمئة نتيجة؛ لأن البضائع أصبحت تأتي فقط من سوق النعام على الحدود مع دولة جنوب السودان، حيث يترتب على ذلك ارتفاع تكاليف الترحيل وصعوبة وصول السلع.
ويقول سليمان إن “سعر جوال الذرة ارتفع إلى 110 آلاف جنيه سوداني، وقفز سعر جوال البصل إلى 150 ألف جنيه بعد أن كان في حدود 15 ألف جنيه قبل ارتفاع وتيرة المعارك العسكرية في ولاية جنوب كردفان، كما ارتفع سعر جركانة الزيت سعة 30 رطلاً إلى 60 ألف جنيه، وكان سعرها 25 ألف جنيه قبل نحو 5 أشهر من الآن، وبلغ سعر جوال السكر زنة 50 كيلوغراماً إلى 108 آلاف جنيه، في حين كان سعره هناك في حدود 50 ألف جنيه حتى شهر أكتوبر الماضي”.
ويشير خالد، إلى أن الغلاء الشديد في أسعار السلع قاد إلى كساد كبير في السوق بعد إحجام السكان عن شراء العديد من المنتجات؛ بسبب أوضاعهم المالية الصعبة، حيث فقد معظم السكان مصادر دخلهم المالي، وحسب علمه لم يتقاض موظفو الخدمة العامة في ولاية جنوب كردفان أي رواتب طوال الفترة أعقبت اندلاع الحرب، بالإضافة إلى شح كبير في السيولة النقدية نتيجة إغلاق المصارف.
وبدأ قتال ضاري على ثلاث جبهات في ولاية جنوب كردفان منتصف شهر يوليو الماضي، بين الجيش السوداني قوات الدعم السريع من جهة، والجيش مع الحركة الشعبية – شمال قيادة عبد العزيز الحلو من ناحية أخرى، ولكن بعد توغل قوات الدعم السريع في جنوب كردفان واستيلائه على مدينة هبيلا حدثا ما يشبه التحالف الخفي بين الجيش والحركة الشعبية – شمال وقاتلا سويا في صد الدعم السريع ومنعه من السيطرة على مدينة الدلنج.
وتسببت الأعمال العسكرية في فشل الموسم الزراعي الصيفي الذي يعتمد عليه غالبية سكان ولاية جنوب كردفان في معاشهم، وفي السابق كان إنتاج الذرة من المشاريع الزراعية في محلية هبيلا يكفي لحاجة المواطنين المحليين؛ وبالتالي تصدير الفائض إلى بقية ولايات السودان، الشيء الذي قاد إلى ضائقة معيشية كبيرة في المنطقة.
الغذاء والأدوية
ويروي مصطفى إبراهيم وهو مواطن من كادوقلي، الواقع الذي يعيشونه بعد أشهر من الحرب، إذ بات شبح الجوع يهدد غالبية السكان الذين عجزوا عن شراء أبسط المواد الغذائية بما في ذلك الذرة المحلية التي ارتفعت أسعارها بشكل غير مسبوق، وسط شح في السيولة النقدية في المنطقة وتوقف مصادر الكسب المالي.
ويقول إبراهيم في مقابلة مع (عاين) إن “الوضع الإنساني في ولاية جنوب كردفان وصل إلى مرحلة كارثية، فنحن نواجه المعاناة لوحدتنا، فليس هناك أي تدخل من المنظمات الطوعية، فالمسارات جميعها مغلقة باستثناء منفذ واحد من وإلى منطقة سوق النعام على حدود دولة جنوب السودان، وندعو الجهات الخيرية للتدخل بغرض إنقاذ حياتنا”.
ولم تتوقف الأزمة عند نقص الغذاء، لكنها تمتد إلى ترد مريع في الخدمة الصحية، حيث تشهد المراكز العلاجية في مدن ولاية جنوب كردفان بما في ذلك العاصمة كادوقلي ومدن جنوب كردفان الأخرى، انعدام تام للأدوية المنقذة للحياة، فقد أصبح الموت مصيراً حتمي للمرضى خاصة الذين يعانون أمراضاً مزمنة مثل السكري وضغط الدم وغيرها، وذلك وفق ما نقله مصدر طبي لـ(عاين).
ويكشف المصدر الطبي، عن توقف كامل لمركز غسيل الكلى في مدينة كادوقلي، كما أُغْلِق بنك الدم الوحيد في المدينة، وليس هناك أي بدائل لإنقاذ المرضى، فهناك مصابون بحاجة إلى عمليات نقل دم وآخرين ينتظرون جلسات الغسيل الكلوي بلا جدوى، بينما ظل مستشفى الأطفال يعمل حتى الآن، ولكن إمكانياته متواضعة في ظل نقص الأدوية.
ويقول: “ليس هناك أي مخزون دوائي في ولاية جنوب كردفان، وحتى الكميات المحدودة المتوفرة انتهت صلاحيتها، حيث لم يتسن دخول أي أدوية طوال الفترة التي أعقبت الحرب”.
وفقاً لتقارير منظمات مدنية، فأن مناطق سيطرة الحركة الشعبية لتحرير السودان- بقيادة عبد العزيز الحلو هى الأخرى واقعة تحت تأثير اضطرابات الحرب لاسيما التأثيرات على الوضع الإنساني، لجهة اغلاق معظم الأسواق الحدودية وعدم وصول المواد الغذائية من المناطق الشمالية مع مواجهة النازحين في تلك المناطق تحديات في المتطلبات الغذائية، وعدم تمكن كثيرون الاكتفاء الذاتي من محاصيلهم الزراعية.