بعد عام ونصف من الحرب.. مراسل لـ(عاين) يكتب من جنوب الخرطوم

عام ونصف من بداية الحرب في السودان، كانت كفيلة بتحويل حياة ملايين المدنيين العالقين في مدن العاصمة الثلاثة، الخرطوم، والخرطوم بحري، وأم درمان إلى جحيم، وأحالت نيران المتحاربين بعض البنى التحتية المهمة إلى رماد، وتركتها أثرا بعد عين.مراسل لشبكة (عاين) ينقل مشاهد من الحياة في منطقة جنوب الخرطوم.

عاين- 16 أكتوبر 2024

تأثرت حركة المواطنين وتنقلهم: قلت وسائل المواصلات العامة بصورة ملحوظة، أما المركبات الخاصة فلا أحد من المدنيين يمكنه السير بمركبة فغالبية السيارات التي تخص المواطنين نُهِبَت، والسيارات الخاصة المستخدمة في الشوارع يقودها منسوبون للدعم السريع، وتعود ملكيتها لمواطنين بعد عمليات النهب الواسعة التي طالتها.

ونتيجة اختلاف مناطق السيطرة الموزعة بين القوات المسلحة والدعم السريع في ولاية الخرطوم فلا توجد خطوط نقل كما كان معتاداً في فترة ما قبل الحرب، وتغيرت حركة السير نفسها، ومثال لذلك إذا أراد مواطن ما التنقل من جنوب الخرطوم إلى أمدرمان بعد توقف الخط المباشر من جنوب الخرطوم إلى أمدرمان، أو من جنوب الخرطوم إلى السوق العربي بالخرطوم، ومنه إلى أمدرمان فعليه التوجه من منطقة الكلاكلة اللفة إلى المثلث بجبل أولياء، وهذا يكلفه مبلغ (١٥) ألف جنيه، ومن المثلث إلى سوق ليبيا بأمدرمان بتكلفة تبلغ (٨_١٠) آلاف جنيه، ومن سوق ليبيا إلى (أستوب قندهار) بمبلغ (٥٠٠) جنيه عبر (الكارو) أو (١٠٠٠) جنيه ب(الركشة) ومن هناك إلى القمائر بمبلغ (١٠٠٠) جنيه عبر (الركشة) أو (٥٠٠) جنيه ب(الكارو) ومن القمائر إلى منطقة (سوق الحر) بمبلغ (٤_٦) آلاف جنيه، ومن (سوق الحر) إلى صابرين بمبلغ (٣) آلاف جنيه، ومنها إلى الثورة بمبلغ (٥٠٠) جنيه.

وحسب متابعات (عاين) فإنه بعد تجميع تلك المبالغ وإضافة مبالغ أخرى يتم سدادها كرسوم عبور تُفْرَض في بعض (ارتكازات الدعم السريع) تكون تكلفة النقل من جنوب الخرطوم إلى الثورة ذهاباً فقط قد بلغت نحو (٤٠) ألف جنيه للشخص الواحد.

وهناك خط آخر من سوق ليبيا بأمدرمان إلى منطقة (الصينية بالسوق المركزي) جنوب الخرطوم، ويمر هذا الخط عبر المثلث جبل أولياء والاحتياطي المركزي والكلاكلة شرق، وتبلغ قيمة التذكرة للشخص الواحد (١٥) ألف جنيه.

خدمات المياه والكهرباء:

وفي جنوب الخرطوم عاودت أزمة انقطاع الكهرباء وتبعاً لها غابت خدمة الإمداد المائي، حيث ينقطع التيار الكهربائي لمدة (٢٤) ساعة وعند عودته يتمتع السكان بخدمته لحوالي (٨) ساعات، لكنها قد تنقص كثيراً في بعض الأحيان، وعاد مشهد البحث عن المياه، وحملها في براميل صغيرة تسع نحو (٣) جركانات عبر (دراداقات)، كما عادت عربات (الكارو) العاملة في بيع المياه للعمل من جديد، ووصل سعر (جوز إمكانات) المياه (٥٠٠) جنيه.

الأمن:

ويتزايد الخطر على السكان بارتكاب انتهاكات في مواجهتهم من قبل مسلحين يتبعون للدعم السريع وسط غياب تام لما يسمى بلجنة مكافحة الظواهر السالبة أو القوة الخاصة التي أعلن مؤخراً عن تشكيلها لحماية المدنيين وهي لا أثر لها، فما تزال مناطق سيطرة الدعم السريع في جنوب الخرطوم تشهد اقتحام المنازل من قبل المسلحين ونهب الممتلكات وتسبيب الأذى لساكنيها، وتشمل عمليات النهب المواد التموينية، كما تجري عمليات نهب في وضح النهار داخل الأسواق دون تدخل لقوات حماية الأسواق، وفي الشوارع التي تشهد مطاردات لمرتادي الأسواق حتى مناطق سكنهم ونهبهم.

وأصبحت حياة المدنيين وسلامتهم مهددة، ومن الوارد تعرضهم لهجوم من مسلح أو مسلحين في أية لحظة، وهو ما جعل عدداً من السكان يلجأون لتفعيل نظام الحماية المجتمعية بإقامة دوريات للحراسة الليلية في الشوارع للوقاية من خطر التهجم عليهم داخل منازلهم.

توقف المدارس:

وكما هو معلوم، فإن الدراسة قد توقفت بعد الحرب، وهناك محاولات في مناطق النزاع جنوب الخرطوم بفتح مدارس، ورغم رغبة التلاميذ في الالتحاق بها، إلا أن الملاحظ أنه لا يوجد استقرار، فتكثر حركة تنقل التلاميذ من مدرسة إلى أخرى وسط نقص كبير في أعداد المعلمين المؤهلين فغالبية المعلمات والمعلمين نزحوا داخلياً، أو لجأوا خارج البلاد بعد الحرب، ليُسْتَعَان بمعلمات ومعلمين غير مؤهلين للقيام بعملية التدريس.

عالم العطالة:

أما الموظفون، فقد توقفت دواوين الحكومة والشركات الخاصة والمصانع، وتحولت أعداد ضخمة إلى عالم العطالة، ويقضي غالبيتهم وقتهم بالوُجود أمام المنازل تحت ظلال الأشجار، خاصة في أوقات انقطاع التيار الكهربائي.

وتعتبر النساء هن الأكثر ضرراً لاضطرار الكثيرات منهن للبقاء داخل المنازل في أوقات انقطاع الكهرباء حيث تقل ظلال الأشجار التي تأويهن فالكثير من المتاح منها يتواجد فيها الرجال، وكذلك لانشغالهن بالأعمال المنزلية المتعلقة بإعداد الطعام أو رعاية الأطفال وغيرها.

ارتفاع الأسعار:

ومع العطالة وانعدام الدخول تتزايد المعاناة من ارتفاع الأسعار، خاصة السلع الاستهلاكية الأساسية، وزاد سعر ربع الدقيق الجاهز إلى ما بين (٢٢- ٢٤) ألف جنيه، وكيلو السكر إلى (٧) آلاف جنيه، وربع البصل إلى (١٢) ألف جنيه، وعزا مواطنون وتجار تلك الزيادات إلى إغلاق الطريق بين سنار والنيل الأبيض الذي تصل عبره البضائع إلى مناطق جنوب الخرطوم، واعتباراً من يوم الأربعاء الماضي بدأت أسعار العديد من السلع في الانخفاض حيث انخفض سعر كيلو السكر إلى (٤٨٠٠) جنيه، وربع القمح (الحب) إلى (١٦) ألف جنيه بدلاً عن (١٨) ألف جنيه، وطحنه بمبلغ (٢٠٠٠) جنيه وبذلك يكلف ربع الدقيق (١٨) ألف جنيه، ووصل سعر ربع البصل إلى (١٠) آلاف جنيه، وعزا مواطنون وتجار ذلك الانخفاض إلى فتح الطريق بين سنار والنيل الأبيض.

تأثيرات الخريف:

ونتيجة لخلو أغلب المنازل من ساكنيها تعرضت العديد منها للمخاطر في الخريف الماضي حيث سقطت بعض الأبنية داخلها، مثل حوائط الأسوار، وكذلك تأثرت بعض المؤسسات مثل المدارس التي شهدت سقوط بعض المباني فيها.

وتأثرت الكثير من المنازل والمدارس بالمياه نتيجة سرقة خزانات المياه (الصهاريج) حيث تأثرت تبعاً لذلك شبكات المياه، وتركت المواسير مفتوحة؛ مما أدى إلى طفح كبير للمياه؛ مما أدى إلى تأثر المباني فيها.

انتشار الأمراض:

وفي فصل الخريف الماضي زادت المعاناة مع انتشار البعوض وبقاء برك المياه وانعدام جهود مكافحة البعوض لغياب المؤسسات، وفي شهري أغسطس وسبتمبر الماضيين بلغت التأثيرات قمتها حيث لا يكاد منزل يخلو من مصاب أو مصابين بالملاريا وبعض المنازل أصيب كامل أفرادها في وقت متزامن أو تباعا، ونُوِّم أعداد من المرضى في الشوارع تحت ظلال الأشجار التي علقت (الضربات) في أفرعها، وذلك لانقطاع الكهرباء عن المنازل وارتفاع درجات الحرارة داخلها.

 ويأتي هذا الوضع في ظل انعدام الدواء وغلاء سعره إن وجد بصعوبة، وبلغ سعر حبوب الملاريا (٦) آلاف جنيه، بالإضافة إلى ندرة المؤسسات الطبية وتراجع قدرات العاملة للحد الذي هدد استمرارها نتيجة النهب والتعدي على كوادرها، وشملت موجة انتشار الملاريا الكوادر الطبية، فتجد بعضهم يتلقون العلاج في ذات الوقت الذي يؤدون فيه واجبهم في التطبيب. كما شهدت فترة الخريف انتشار أمراض الكوليرا والإسهالات والدسنتاريا.

وانتشرت تلك الأمراض في ظل ضعف الغذاء وغلاء أسعاره، فيغيب عن الوجبات التنوع الغذائي حيث لا خضروات ولا فواكه، بالإضافة إلى عدم التمكن من إعداد (العصائر) لضيق الحال، وتبقى لكثير من الأسر خيار واحد فقط وهو تلقي وجباتها من المطابخ الجماعية (التكايا) التي تنحصر وجباتها في الغالب في (العدس، البليلة العدسية، الأرز، والفول)، وبلغ الحال ببعض الأسر لتقديم العدس لأفرادها كشراب، وليس الأكل نتيجة انعدام المال الكافي لشراء الخبز أو الدقيق لإعداد (الكسرة).

آمال وقف الحرب:

وينتظر مواطنو مناطق الحرب بجنوب الخرطوم، وقف الحرب التي أثرت في حياتهم بشكل كبير، واضطرتهم إلى النزوح واللجوء، وتشتتت الأسر فبعض أفرادها خارج السودان، أو في الولايات خارج الخرطوم، ويزداد منظر الأحياء سوءاً بسبب خلو أغلب المنازل من السكان الذين هجروها، وأصبحت مصدراً للنهب من قبل مسلحين يتبعون للدعم السريع، أو من قبل مجموعات نسائية تنشط في عمليات النهب، ويُتَوَجَّه بالمنهوبات إلى أسواق (دقلو) التي لا تزال تستقبل المنهوبات بكل أنواعها من ملابس بما فيها القديمة، والأدوات والأجهزة الكهربائية والأثاثات المنزلية.

وبالإضافة إلى تعرض المنازل التي هجرها أصحابها، فإن كثيراً من المنازل تم السكن فيها من قبل منسوبين للدعم السريع أحضروا أسرهم للإقامة فيها.

ونتيجة ازدياد المعاناة يوماً بعد يوم على المدنيين في هذه الحرب سواء من اضطروا إلى اللجوء خارج السودان أو النزوح داخلياً، أو من بقوا في مناطقهم، تبقى الأنظار معلقة على وقف الحرب بشكل فوري لوضع حد لمعاناتهم، فهل تبذل الجهود الداخلية والخارجية لتحقيق ذلك الهدف أم يطول أمد الحرب وبالتالي مضاعفة الأعباء على عاتق المدنيين الذين أنهكتهم الحرب وطاردتهم ويلاتها وظروفها بالغة القسوة؟!.