مراسل لـ(عاين) يعايش الحرب لعام كامل ويكتب من جنوب الخرطوم:  (1 – 2)

عاين– 23 أبريل 2024

قتل ونهب وإذلال واحتجاز تعسفي، ونقص في الغذاء والخدمات، مع انقلاب كامل في نمط الحياة، هي محصلة قاسية لفترة عام قضاها سكان في الخرطوم تحت القصف، وهم يكافحون لكسب معركة البقاء وسط تلك الظروف الصعبة، والتداعيات المرعبة لحرب الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، والتي خلفت واقعاً تراجيدياً يروي فصوله مراسل لـ(عاين)، عايش هذه الأحداث عن قرب.

لم يكن البقاء وسط القتال في الخرطوم قراراً اختيارياً، لكن بعض السكان وجدوا أنفسهم مضطرين للعيش في منازلهم تحت كل هذه الظروف نسبة لعدم مقدرتهم على تكاليف السفر إلى الولايات الآمنة، بعد أن التهمت نيران الحرب كل مصالحهم وتوقفت أعمالهم، بينما نهبت ما بحوزتهم من مقتنيات وممتلكات ربما كانت تمنحهم فرصة للنجاة.

كانت الأنباء الواردة من الولايات الآمنة، والتي مفادها ارتفاع أسعار إيجارات المنازل والشقق السكنية وغلاء المعيشة، أحد الأسباب التي دفعت بعض سكان الخرطوم إلى تعديل رأيهم بالمغادرة وتفضيل البقاء في منازلهم.

إلى جانب ذلك كان السواد الأعظم من مواطني العاصمة الخرطوم يظن أن الحرب ستنهي غضون أيام معدودة، ويعود الأمن والاستقرار، فلم يفكروا في النزوح للوهلة الأولى، فانعدمت فرص المغادرة مع تطاول أمد الحرب وتصاعد وتيرة العنف وما انضوى عليها من تهديد أمني واسع، مما دفعهم للاستسلام والعيش في منازلهم في ظل أوضاع إنسانية قاسية.

مراسل لـ(عاين) يعايش الحرب لعام كامل ويكتب من جنوب الخرطوم: (1 – 2)

كيف يعيشون؟

رغم الكلفة العالية للنزوح، غادر الغالبية وتبقى القليل من السكان قليلي الحيلة عالقين في منطقة الحرب في الخرطوم، إحدى مدن العاصمة السودانية الثلاث، فكان لزاماً عليهم ابتكار سبل جديدة للحياة تماشياً مع تلك الأوضاع الاستثنائية، ومع أن الأمن يشكل الهاجس الأكبر لهم، كانت الأولية هي تشكيل فرق من الشباب لحراسة المنازل والممتلكات.

فرق شبابية سلمية تجتهد في مساعدة السكان في توفير قدر معقول من الحماية في ظل انتشار المجموعات المسلحة خاصة منسوبي قوات الدعم السريع وما يحملونه معهم من تهديد.

أما الواقع المعيشي المؤلم دفع السكان العالقين إلى ابتكار أساليب تكافلية، فلجأوا إلى العيش المشترك، إذ يتجمع الرجال في الحي السكني تحت ظلال الأشجار والنساء داخل المنازل، ويقومون بطهي ما يملكونه من طعام في الساحات، ويتناوله بشكل جماعي، وهو أسلوب جديد للحياة يتبعه المتواجدون كلهم في العاصمة السودانية حالياَ خاصة منطقة جنوب الخرطوم.

وخصص المواطنون أماكن معلومة في الحي السكني لتناول الطعام، فيأتي ميسورو الحال بما يملكونه من مخزون غذائي ليتشاركوه مع آخرين ليس بحوزتهم شيء، ويكون ذلك خلال وجبتين في اليوم بدلاً عن ثلاث، نظراً لضيق الوضع، وهو واقع أعاد اللحمة الاجتماعية بين السكان الذين أصبحوا في مستوى طبقي متساوٍ، فالجميع تعطلت أعمالهم، وفقدوا امتيازاتهم المعيشية.

وقد فقد جميع السكان العالقين رفاهية اختيار الأكل، فأصبح طعامهم اليومي يصنع من العدس والأرز اللذين صارا سيدا موائد الحرب في منطقة جنوب الخرطوم، لكن ربما يفقدون هذين السلعتين بعد تصاعد مضطرد في أسعارهما، فارتفع سعر كيلو العدس من 1000 جنيه سوداني إلى 2500 جنيه، كما تشهد بقية السلع غلاء مماثلاً، إذ قفز سعر جوال دقيق القمح خلال فترة وجيزة من 25 ألف جنيه إلى 35 ألف جنيه.

وتغيرت طبيعة الأسواق المحلية في جنوب الخرطوم، إذ غادر التجار الأصلين بسبب الصراع المسلح، بينما أتى آخرون جدد مرتبطين بقوات الدعم السريع، وفتحوا المحال التجارية المغلقة والاستحواذ على البضائع التي بداخلها وبالتالي تشغيلها، كما تُتَدَاوَل المقتنيات المسروقة بكثافة، ويعرضونها بقابل زهيد مقارنة بسعرها الحقيقي في ما يعرف بأسواق “دقلو”.

مراسل لـ(عاين) يعايش الحرب لعام كامل ويكتب من جنوب الخرطوم: (1 – 2)
مركبة عسكرية في الخرطوم

مصالح بديلة

توقفت وراتب شريحة الموظفين العالقين في مناطق الحرب لم يتقاضوا مستحقاتهم المالية طوال الفترة التي أعقبت الحرب، فكان لزاماً عليهم البحث عن مصادر كسب مالي جديدة وسط أنقاض الحرب، فلجأ البعض لعمل كمائن لصناعة الفحم من الحطب، آخرين وجدوا طريقاً إلى الأعمال البسيطة في الأسواق مثل جر الدرداقات ومتاجر صغيرة وجزارات وغيرها، لكن اللصوص ينبهون كسبهم في أغلب الأحيان.

وبفكرة ملهمة لجأ بعض العالقين إلى زراعة مساحات محدودة بداخل منازلهم أو بالقرب منها بالخضروات، مثل البامية والأسود، والرجلة، والجرجير، وغيرها، لسد احتياجاتهم منهم وبيع جزء منها لكسب مبالغ نقدية من أجل شراء متبقي السلع المطلوبة للاستهلاك.

ومع حلول عيد الفطر المبارك الماضي، أجتر أصحاب المهن الحرفية مثل النقاشة ومصانع الحلويات، أعمالهم التي توقفت بشكل قسري، حيث كان العيد بمناسبة موسم تنتعش فيه هذه الأعمال، ويكسب ممتهنيها مبالغ طائلة، ورغم حسرتهم وحزنهم، لكنهم يأملون توقف الحرب خلال الفترة القليلة القادمة، ويعودون إلى معانقة منهن مجدداً.

ولم يعد أمام السكان العالقين وسط الحرب سوى انتظار مساعدات نقدية تصلهم عبر التطبيقات المصرفية مثل “بنكك” من أقاربهم ومعارفهم بالمناطق الآمنة وخارج السودان، في ظل إغلاق كامل للمصارف، وبعد انقطاع خدمة الاتصالات والإنترنت في شهر فبراير الماضي تفاقم معاناة المواطنين في أماكن النزاع بالخرطوم.

وفي وقت لاحق أدخل منسوبون لقوات الدعم السريع أجهزة الإنترنت الفضائي “استارلنك” إلى المناطق، وأتاح الخدمة للمواطنين من خلال محال تجارية في الأسواق، لكن بمقابل غالي الثمن يصل 3 آلاف جنيه سوداني للساعة الواحدة، مبالغ طائلة تفوق مقدرة السكان هناك، لأن جميعهم عاطلون عن العمل، وليس لهم مصادر دخل مالي.

وينضوي على خدمات الإنترنت والتحويلات المالية التي يقدمها عناصر قوات الدعم السريع، استغلال واسع للمواطنين، إذ يأخذون عمولات كبيرة وغير مستحقة تصل تتراوح بين 10 – 20 بالمئة من قيمة المبالغ المرسلة نظير تسليمها نقداً للشخص المرسلة إليه، ويرفض بعض المواطنين التعامل بهذه الطريقة في استلام الأموال لاعتقادهم بوجود حرمة فيها، ويتخللها تعامل ربوي يتعارض مع دينهم الإسلامي، فيظلون تحت المعاناة.

ورغم الخصومات غير المستحقة ربما يخسر الشخص مبالغ إضافية من الأموال المرسلة إليه نسبة لانتشار واسع للعملات المزيفة في العاصمة الخرطوم خاصة من فئة الـ1000 جنيه، فهناك أحد المواطنين وجد 50 ألف جنيه مزيفة وسط المبلغ المرسل إليه والبالغ قدره 230 الف جنيه، ولم يتمكن من إعادته إلى صاحب المتجر الذي سلمه إليه، نظراً لأنه شخص مسلح، وينتمي إلى الدعم السريع، وربما يضربه بالرصاص.

مراسل لـ(عاين) يعايش الحرب لعام كامل ويكتب من جنوب الخرطوم: (1 – 2)

تحرك جماعي

ويصاحب كل ذلك المخاطر الأمنية في طريق الذهاب إلى السوق، خاصة إذا كان الشخص يحمل مبالغ نقدية، فهو يكون عرضة لمسلحي قوات الدعم السريع لاستهدافه ونهبه تحت تهديد السلاح، وتوجد عناصر تتبع الأشخاص في السوق عقب تسلمهم تحويلات مالية ونهبهم، في واقع قاس يعترض له العالقون.

ونتيجة لتلك المخاطر يذهب السكان العالقون في منطقة جنوب الخرطوم إلى الأسواق على هيئة مجموعات وسير على الأقدام نسبة لشح وسائل النقل، وهم يسعون بالتحرك الجماعي تقليل فرص التعرض لعمليات النهب الواسعة المنتشرة في المنطقة، وأيضاً تجنب الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري، وهي انتهاكات موجودة بكثافة.

ولغياب المواصلات كذلك عادت الدرجات الهوائية لتصبح وسيلة رئيسية يستغلها السكان العالقون في تنقلهم إلى الأسواق الأماكن المجاورة وحتى المناطق البعيدة مثل ضاحيتي الكلاكلة والصحافة جنوبي الخرطوم، فقد عمل البعض صناديق على تلك الدرجات لحمل السلع المختلفة.

أيضاً تبقت حافلات صغيرة وسيارات مهترئة نجت من عمليات النهب الواسعة التي مارسها عناصر قوات الدعم السريع، يستغلها السكان المنكوبون في مناطق الصراع بالخرطوم.

مراسل لـ(عاين) يعايش الحرب لعام كامل ويكتب من جنوب الخرطوم: (1 – 2)

ضياع الأطفال

لم ينج الأطفال في الخرطوم من التأثيرات الواسعة للوضع المضطرب، فكانوا الأكثر تضرراً من غيرهم في مناطق الحرب، فتنوعت مآسيهم بين النفسية والجسدية، فأصبحوا عرضة للأمراض المتصلة بسوء التغذية نسبة لعدم حصولهم على النظام الغذائي المطلوب، في حين يجتهد البعض في مبادرات لتخفيف تلك التأثيرات.

ومن بين المبادرات في جنوب الخرطوم هي بدء دورات تعليمية للحفاظ على الجو الأكاديمي للأطفال ومساعدتهم على العودة السلسلة إلى قاعات الدراسة بعد توقف الحرب، لكن تلك المساعي اصطدمت بالعديد من العقبات منها عدم توفر الوسائل التعليمية بالشكل الكافي، والنقص الحاد في المعلمين والذين اضطر معظمهم للنزوح هرباً من نيران الحرب.

تستمر المساعي في تخفيف آثار الحرب عن الأطفال في منطقة الحرب من خلال خلق برامج رياضية من تمارين ومباريات في كرة القدم على نحو دائم، فكان لها الفضل في شغل الصغار عن التفكير في مجريات القتال، وما يصاحبها من أصوات مرعبة للقصف المدفعي وبالطائرات.

وانتشرت ثقافية الحرب وسط الأطفال، وصاروا يميزون أصوات الأسلحة المختلفة، بما في ذلك سلاح الجو، فتجدهم يسمون الطائرات بطرازها لحظة تحليقها من فوقهم.

نواصل ..