الفاشر.. مدينة يخنقها حصار الدعم السريع والآلاف يستغيثون

عاين- 9 مايو 2024

تتجه الأوضاع في العاصمة التاريخية لإقليم دارفور الفاشر، نحو كارثة إنسانية شاملة بعد أكثر من شهر على ما يشبه الحصار الكامل الذي تفرضه عليها قوات الدعم السريع، في محاولة للسيطرة عليها، مما يضع حياة نحو مليون مدني في خطر ومصير مجهول، في ظل شح الغذاء والعلاج واضطراب الحالة الأمنية.

وتتزايد المخاوف من انتقال المعارك العسكرية إلى وسط الفاشر في ظل تحشيد عسكري واسع من قبل قوات الدعم السريع حول المدينة، بينما يستعد الجيش بتحالف مع حركات مسلحة للدفاع عن المدينة والحفاظ على سيطرته عليها، فهي الوحيدة التي تبقت له في إقليم دارفور غربي البلاد، إذ سيطر الدعم السريع على الـ4 ولايات الأخرى.

سيدات في مدينة الفاشر بولاية شمال دافور- مايو 2024

وإلى جانب مواطني المدينة، تأوي الفاشر حوالي نصف مليون نازح يقيمون في أربعة معسكرات إيواء، وهي زمزم، أبو شوك، نيفاشا، أبوجا، إذ يوجَد فيها نازحون منذ اندلاع الحرب في الإقليم في العام 2003م، بينما لجأ إليها نازحون جراء القتال الحالي عقب سيطرة قوات الدعم السريع على مناطقهم، وأصبحت الفاشر بمثابة الملاذ الأخير الذي لجأوا إليه.

ويعرب محمد عبد الحفيظ وهو من سكان الفاشر عن خوفهم الشديد جراء الأوضاع المضطربة، حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية بصورة جنونية نتيجة إغلاق طريق الفاشر – مليط الذي كانت تعتمد عليه المدينة في وصول البضائع والسلع، كما تعطلت كافة الأعمال والمصالح نتيجة تدهور الوضع الأمني، فقد حدث انقسام كبير في المدينة، فلا يستطيع منسوبو المجموعات الإفريقية الذهاب إلى الاتجاه الشرقي من الفاشر، بينما لم تتمكن المكونات العربية من الذهاب غرباً، فهناك استهداف متبادل.

ويقول محمد لـ(عاين): “نواجه مشاكل في العلاج وحتى الوصول إلى مياه الشرب صار غير ممكن، فغالبية محطات المياه الجوفية تعمل بالوقود والذي أصبح غالي الثمن، حيث وصل سعر برميل المياه إلى 5 آلاف جنيه، وهو مبلغ يفوق مقدرة المواطنين المتأثرين بالحرب”.

قطع الشريان

وشهد الاتجاه الشمالي من الفاشر معارك ضارية بين الجيش وحلفائه من الحركات المسلحة مع قوات الدعم السريع انتهت بسيطرة الأخير على الطريق الذي يربط المدينة مع مليط وهو خط إمداد رئيسي للمواد الغذائية والوقود، كما يفرض الدعم السريع سيطرته على المدخل الشرقي والجنوبي للفاشر.

تدفع حالة الانقسام الحاد في الفاشر على أساس أثني والولاء لأحد أطراف النزاع، المواطنين إلى رحلات فرار داخلية من الأحياء الشرقية والشمالية إلى الأحياء الجنوبية والمخيمات.

وتدفع وضعية الانقسام الحاد في الفاشر  وتقسيم السكان على أساس أثني والولاء لأحد أطراف النزاع، المواطنين إلى رحلات فرار داخلية من الأحياء الشرقية والشمالية والبلدات المجاورة إلى الأحياء الجنوبية والمخيمات من المدينة بغرض الاحتماء بالمكونات القبلية والعرقية، لكن طريق الفرار محفوف بالمخاطر، وقد يكلف الحياة، وفق شاهد من (عاين).

صورة حديثة من سوق الفاشر – مايو 2024

ويقول مسؤول سابق في العون الإنساني بولاية شمال دارفور إن “أعمال العنف التي شهدتها الولاية مؤخراً أدت إلى تفاقم الاحتياجات الإنسانية الحرجة في إقليم دارفور بأكمله، لجهة أن شمال دارفور تمثل معبراً لدخول الشاحنات التجارية القادمة من الولاية الشمالية، والمواد الغذائية والبترولية من دولة ليبيا”.

الأوضاع باتت أكثر تعقيداً من أي وقت مضى خاصة للنازحين، إلى جانب مئات الآلاف من النازحين الجدد الذين لجأوا إلى المدينة.

مسؤول حكومي سابق

ويضيف المسؤول الحكومي السابق لـ(عاين) بعد طلب حجب اسمه، أن “الأوضاع باتت أكثر تعقيداً من أي وقت مضى خاصة للنازحين في مخيمات أبوجا، وزمزم، أبوشوك ونيفاشا، إلى جانب مئات الآلاف من النازحين الجدد الذين لجأوا إلى المدينة من قرى ومدن دارفور الأخرى، وأصبح الحصول على المواد الغذائية في صعوبة بالغة، في حين لا يستطيعون مغادرة الفاشر نتيجة الوضع الأمني”.

وفي ظل معطيات أمنية بالغة السوء، خاض المواطن زكريا أحمد مغامرة كبير للخروج بأسرته من أحياء شرق مدينة الفاشر التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، إلى منطقة كبكابية، فدفع الثمن غالياً بعد أن تعرض للنهب والتعذيب، وكاد أن يخسر حياته، بحسب ما رواه بأسى لـ(عاين).

وقال زكريا إن بعض المواطنين الذين سعوا للفرار من مدينة الفاشر قُتِلُوا في بوابة المدينة الشمالية خلال شهر أبريل الماضي، بعد أن اُتُّهِمُوا بالانتماء إلى الحركات المسلحة، مع ذلك يغامر السكان بالخروج؛ لأن البقاء أصبح شبه مستحيل بسبب صعوبة الحصول على الغذاء وارتفاع أسعار المواد الغذائية الناتجة عن الندرة وتوقف الشاحنات التجارية لأكثر من شهر.

مليون في خطر

وتؤوي مدينة “الفاشر” العاصمة التاريخية لإقليم دارفور أكثر من مليون مدني، معظمهم من النازحين وضحايا حرب دارفور، باتوا محاصرين لا يستطيعون مغادرة المدينة إلى المناطق الآمنة، أو الحصول على الغذاء؛ بسبب غلق الطرق ومنع شاحنات المواد الغذائية والبترولية من الدخول الولاية من قبل قوات الدعم السريع.

توقفت حركة شاحنات البضائع القادمة إلى الفاشر عبر طريق الإنقاذ الغربي وطريق مليط والمالحة بعد سيطرة الدعم السريع على المنطقة.

وتوقفت حركة شاحنات البضائع القادمة عبر طريق الإنقاذ الغربي وطريق مليط والمالحة التي تأتي من مدينة الكُفرة الليبية، منذ سيطرة قوات الدعم السريع على تلك المناطق في الخامس من أبريل الماضي، كما نزح سكان أحياء وسط وشرق الفاشر إلى الكومة والمالحة وأم كدادة، بعد تزايد الغارات الجوية من طيران الجيش على المنطقة.

وقاد الحصار إلى تصاعد كبير في أسعار مجمل السلع الاستهلاكية والوقود وسط مخاطر أمنية تعترض التجار، وبحسب محمد أبكر علي وهو تاجر بيع إجمالي في مدينة الفاشر، فقد ارتفع سعر جالون البنزين سعة 4 لترات لأول مرة منذ اندلاع الحرب إلى (50) ألف جنيه سوداني بدلاً (15) ألف جنيه، كان عليها قبل أسبوع فرض الحصار، وذلك نتيجة إلى خطورة الأوضاع وعمليات النهب ومصادرة الشاحنات من قبل عناصر الدعم السريع في الطرق خارج المدينة.

صورة حديثة من سوق الفاشر – مايو 2024

ووفق أبكر الذي تحدث لـ(عاين) ارتفعت أسعار الدقيق زنة (25) كيلو من (30) ألف جنيه إلى (45) ألف جنيه، وجوال السكر ارتفع إلى (120) ألف جنيه عوضا عن 100، بينما تضاعفت أسعار الأرز والمكرونة، الزيت والعدس.

توقف المشافي

ولم تكن الأوضاع الصحية بأحسن حالاً، إذ تواجه تدهوراً مريعاً، ووفق لجنة الطواري الصحية في ولاية شمال دارفور، فإن إن الوضع الصحي كان متأزماً قبل التطورات الأمنية الأخيرة، وازداد سوءاً بعد خروج مستشفيات كبيرة ومراكز عامة عن الخدمة شمال وشرق المدينة، ويعمل مركز جنوب الفاشر في وضع ضاغط؛ بسبب الطوارئ والإصابات وسط شح الأدوية وانعدام الوقود.

“شح الأدوية يواجه مستشفى الفاشر المدينة، والأدوية الموجودة لا تغطي 3% من الحاجة الفعلية للمدينة”.

طبيب بمستشفى الفاشر

وقال الطبيب خالد أبكر وهو أحد الأطباء المتطوعين في مستشفى جنوب الفاشر لـ(عاين) إن “شح الأدوية أكبر التحديات التي تواجه استمرار الخدمة في ظل الأوضاع الإنسانية المعقدة بالمدينة، وأن الأدوية الموجودة لا تغطي 3% من حاجة الفعلية للمدينة، خاصة أدوية الطوارئ والأدوية المنقذة للحياة، فهناك عشرات المرضى يموتون كل يوم بسبب انعدم الخدمات العلاجية”.

ووفقاً لمسح طبي ميداني أجرته منطقة “أطباء بلا حدود” تزامن مع فترة حصار الفاشر، فإن معدلات وفيات الأطفال في مخيمات النازحين الناتجة عن السوء التغذية الحاد بلغت نحو 30% من الأطفال يعانون سوء التغذية الحاد – وثمانية في المائة يعانون سوء التغذية الحاد الوخيم في مخيم زمزم جنوبي الفاشر.

ويوجد 33 بالمئة من النساء الحوامل يعانين سوء التغذية الحاد، مما يشير إلى وجود حالة طوارئ واسعة النطاق تهدد الحياة النازحين، بحسب المسح نفسه.

وتنسحب الأوضاع الصحية المتردية في معسكر زمزم على بقية المخيمات الأخرى داخل مدينة الفاشر نتيجة لتوقف حصص الغذاء والدواء وشتى المساعدات الإنسانية التي كان يقدمها برنامج الغذاء العالمي منذ اندلاع الحرب الحالية.

إجبار النازحين

ويتخوف النازحون خاصة في مخيم “أبو شوك” من انتقال المعارك إلى داخل المخيم الذي يقع ضمن واجهات المعارك شمال المدينة، خاصة بعد تعرض المعسكر أكثر من مرة إلى سقوط قذائف مدفعية خلال تبادل إطلاق النار بين أطراف الحرب في عاصمة ولاية شمال دارفور.

“نتعرض لضغوط هائلة للانضمام للمقاومة الشعبية والقتال بجانب الجيش والحركات المسلحة”

 قيادي بمخيم أبوشوك للنازحين

ويكشف أحد القيادات في معسكر أبو شوك الذي يضم آلاف النازحين لـ(عاين) وطلب حجب اسمه، عن تعرضهم إلى ضغوط واسعة من أجل حمل السلاح والانخراط في المقاومة الشعبية، والمشاركة في القتال إلى جانب الجيش والحركات المسلحة المتحالفة معه، وهو سلوك مرفوض بالنسبة لهم، فلا ينبغي إقحام المدنيين والفارين في الحرب، حسب وصفه.

ونبه إلى عدم قدرة النازحين على مغادرة المخيم أو المشاركة في القتال لأي سبب، لجهة أنه لا يوجد لديهم أي وجهات يذهبون إليها بعد حرق قراهم في نتيجة للحرب التي شهدتها دارفور خلال العشرين عام الماضية، وتابع “عمليات الحشد والحشد المضاد تنذر بكارثة إنسانية تنسحب على المدنيين كلهم في الإقليم”.

وكان حاكم إقليم دارفور وقائد حركة جيش تحرير السودان، المتحالف مع الجيش مني أركو مناوي دعا النازحين في وقت سابق إلى ضرورة حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم وحماية مدينة الفاشر.

من جهتها، أكدت لجنة طواري في ولاية شمال دارفور لـ(عاين) انخراط مئات النازحين خاصة من مخيم “زمزم” في صفوف المقاومة الشعبية، وأنشؤوا نقاطاً عسكرية بالطرق والمداخل الجنوبية المؤدية للمعسكر.

سيناريوهات مرعبة

ويبدي المجتمع الدولي والإقليمي مخاوفه من تصاعد وتيرة العنف في مدينة الفاشر نتيجة لأهميتها الاستراتيجية؛ ونظراً لأنها صارت الملاذ الآمن الأخير لمواطني الإقليم، كما جرت دعوات واسعة إلى قوات الدعم السريع للتوقف عن محاصرة المدينة أو مهاجمتها نسبة لما يسببه من كارثة إنسانية وإغراق دارفور في دوامة الفوضى.

ازمة مياه في مخيمات اللاجئين السودانيين ادري – تشاد

ويقول الصحفي المختص في شؤون دارفور محمد صالح البشر في مقابلة مع (عاين) إن الفاشر تعيش تحت وضع حصار كبير من الاتجاهات كلهن مع حشد قوات الدعم السريع آلاف المقاتلين من المناطق الأخرى، وتبدو مصممة على السيطرة عليها، ومن المرجح أن سقوط الفرقة 16 التابعة للجيش بات وشيكا.

ويضيف “هناك سيناريوهان متوقعين حال سقوط الفرقة، الأول تحول الفاشر إلى ساحة حرب أهلية شاملة؛ لأن المدينة حدث بها انقسام مجتمعي، فالجيش والحركات الذين يسيطرون على الجزء الغربي من الفاشر يستهدفون أي شخص ينتمي إلى القبائل العربية بتهمة الانتماء إلى الدعم السريع، بينما يقوم الدعم السريع الموجود شرق المدينة باستهداف منسوبي المكونات غير العربية بتهمة الانتماء إلى الجيش والحركات؛ مما يقود لقتال أهلي.

أما السيناريو الثاني بحسب صالح أن تعمل حركات دارفور التي قوامها قبائل غير عربية ولديها تحالف مع الدعم السريع، على احتواء الأوضاع وتمنع انزلاق مدينة الفاشر في أتون الحرب الأهلية، وذلك رهين بمدى قدرة تلك الحركات التأثير في أهلها ومنسوبي قبائلها.