سنار .. سلطنة تهزم البنادق وتحاصرها الأزمات
عاين – 16 يونيو 2025م
خرجت ولاية سنار السودانية، من معارك ضارية استمرت لنحو عام كامل بين الجيش وقوات الدعم السريع، بعدما تمكن الجيش والحركات والكتائب المتحالفة معه من استعادة السيطرة عليها بشكل كامل، مما أدى إلى إسكات أصوات البنادق في كل مدنها، لكنها دخلت في أزمات معيشية حادة تهدد سكانها إلى حد كبير.
وتشهد مدن سنار المختلفة غلاء طاحن في أسعار مجمل السلع الاستهلاكية، وتدهور في خدمات الرعاية الطبية، والكهرباء، مع نقص في المياه الصالحة للشرب، وذلك نتيجة للدمار الذي أحدثته الحرب على البنية التحية والمرافق الخدمية المختلفة، إلى جانب فشل الموسم الزراعي في الولاية التي تضم مشاريع كبرى، وفق ما نقله متطوعون وسكان لـ(عاين).
ولم تتوقف المعاناة عند الغلاء وصعوبة المعيشية في سنار بعد استعادة الجيش السيطرة على سنار، لكنها امتدت إلى مضايقات واستهداف من القوات المسلحة والكتائب المسلحة التابعة لها، للناشطين والمتطوعين بتهمة التعاون مع قوات الدعم السريع، وجرى تداول مقاطع مصورة لعدة مدنيين اُعْتُقِلُوا في مدينة الدندر.
وسنار التي تقع في الجزء الجنوبي الشرقي من السودان، هي العاصمة التاريخية للسلطنة الزرقاء، كما كانت محطة انطلاق للدولة الإسلامية الموحدة الأولى، وهي غنية بتراثها وآثارها ومعالمها التاريخية، واُخْتِيرَت عاصمة للثقافة الإسلامية في العام 2017م، كما تمتاز بموقع استراتيجي، إذ تمثل حلقة وصل مهمة بين شرق السودان وغربه.
ولم تشهد ولاية سنار التي يضم ضريح رجل الدين الأشهر في السودان الشيخ فرح ود تكتوك، أي صراع مسلح منذ استقلال السودان في خمسينيات القرن الماضي، وظلت مساحة آمنة حتى ديسمبر من العام 2023م الذي شهد سقوط ود مدني في يد قوات الدعم السريع وانتقال الحرب سريعاً إليها، وسيطر الدعم السريع على عاصمتها سنجة، ومدن كبرى مثل الدندر والسوكي وأبو حجار، مما أدى إلى نزوح الآلاف من سكانها إلى ولايات البلاد الشرقية.
صدمة العودة
وبعد معارك ضارية تمكن الجيش والفصائل المسلحة المساندة له من استعادة السيطرة على ولاية سنار، وتمكن معظم السكان من العودة إلى منازلهم، لكنهم اصطدموا بواقع معيشي بالغ السوء، تنعدم فيه أبسط مقومات الحياة، مع نهب كامل للمنازل والمحال التجارية في الأسواق، في واقع تستحيل معه الحياة.
وتقع سنار على مساحة تقدر بنحو 40 الف و680 متراً مربعاً، بما يعادل 2.7 بالمئة من مساحة السودان، بتعداد سكاني نحو 1.4 مليون نسمة، كما تضم مشاريع زراعية كبرى مثل مشروع السوكي وكساب وكناف أبو نعامة، والتي كانت تساهم بإنتاجها على المستوى القومي، لكنها فشلت لموسمين زراعيين سابقين بسبب الحرب، وتعرضت لتدمير وإتلاف.
ويشير الخبير العسكري خالد محمد عبيد الله في حديثه لـ(عاين) إلى أن قوات الدعم السريع توغلت في ولاية سنار في السابق ضمن خطة لعزل غرب السودان عن الموانئ الشرقية في البحر الأحمر، حتى يتسنى لهم قطع خطوط الإمداد عن قوات الجيش في ولاية النيل الأبيض وغيرها، وذلك نظرا لموقعها الاستراتيجي، خاصة عند منطقة جبل مويا.
وشدد عبيد الله أن قوات الدعم السريع سعت كذلك من خلال السيطرة على مدينة سنجة عاصمة ولاية سنار إلى الوصول إلى الحدود مع دولتي جنوب السودان وإثيوبيا بغرض فتح خط إمداد خارجي، لكن القوات المسلحة والأجهزة المساندة تمكنت من إحباط هذا المخطط، واستعادت السيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجية.
سكتت أصوات البنادق في ولاية سنار بعدما دمرت الحرب كل سبل وكسب العيش، لتضع السكان العائدين إلى منازلهم أمام حيرة كبيرة في ظل أزمات طاحنة، لكن لم يكن من خيار غير الاستسلام لهذا الواقع المؤلم، بحسب ما يقوله محمد صديق وهو مواطن مدينة الدندر لـ(عاين).
ويضيف “لقد دمرت الحرب كل شيء تقريباً. نهبت قوات الدعم السريع الآليات الزراعية في منطقة الدندر، وحولت مستشفيات المدينة إلى ثكنات عسكرية بعدما نهبت كل الأجهزة والمعدات الطبية، فتوقف المستشفى الرئيسي، وتأثرت الزراعة التي تمثل المورد الأساسي لكل السكان في ولاية سنار”.
صعوبة العيش
من جهته، يقول أحمد يوسف وهو أحد مواطني سنجة عاصمة ولاية سنار إن الحياة في مدينته بدأت تعود تدريجياً، بعد عودة عدد كبير من النازحين إلى منازلهم، لكن المعيشة صعبة للغاية، فهناك غلاء وندرة في بعض السلع الغذائية الأساسية.
ويضيف يوسف في حديثه لـ(عاين) “كل فئات المجتمع في سنجة، سواء كانوا مواطنين عاديين أو تجار أو مزارعين، تضرروا بشكل كبير من هذه الحرب، لذلك فإن جميعهم يواجهون صعوبات بالغة في توفير الاحتياجات المعيشية الأساسية، وسط تردي في الخدمات العلاجية، حيث بدأ المستشفى الرئيسي يستعيد عافيته، ويستقبل بعض الحالات المرضية مع فتح بعض العيادات الخاصة، فما تزال المعاناة حاضرة”.
ولم تكن خدمة الكهرباء ومياه الشرب بأحسن حال، فهي الأخرى تشهد أزمة حادة، حيث تعرضت خطوط الإمداد الكهربائي والمائي إلى الإتلاف جراء الحرب، وتجتهد الفرق الفنية حالياً في إصلاح الأعطال، كما تأثر إمداد المياه بغياب التيار الكهربائي، لكن بعض المحطات تعمل بنظام الطاقة الشمسية وهي الآن تعمل على تخفيف وطأة المعاناة، بحسب ما يرويه المواطن أحمد يوسف.
ومن مدينة الدندر الواقعة شرق ولاية سنار ينقل المواطن محمد صديق لـ(عاين) واقعاً مماثلاً في المأساة يعيشه سكان هذه المدينة، بعدما ما عادوا إلى منازلهم من رحلات نزوح أشد قسوة، فقد ارتفعت أسعار السلع الغذائية بشكل جنوبي، نتيجة تداعيات تغيير بعض الفئات النقدية من العملة السودانية، وفرض جبايات من قبل الجيش تصل 200 الف جنيه على كل شاحنة بضائع – حسب رواية هذا المواطن.
وشدد أن مواطني الدندر يضطرون إلى السفر إلى القضارف من أجل استبدال الأوراق النقدية بأخرى جديدة بناء على توجيهات بنك السودان المركزي، وذلك نسبة لعدم افتتاح فروع المصارف في المدينة حتى الآن، وهو ما زاد المعاناة الإنسانية في المنطقة.
وتشهد الدندر انقطاعاً شبه كامل لمياه الشرب باستثناء بعض الأحياء السكنية تقطع بالقرب من الآبار، فتُمَدّ بالمياه مرتين في الأسبوع، بينما تنقطع بالكامل، وتجري جهود شعبية، ومن بعض المنظمات الأهلية لإصلاح الإتلاف في الشبكة الداخلية، ومن المتوقع عودة التيار الكهربائي في القريب العاجل، كما تعاني المدينة من تدري في الخدمات الطبية نتيجة دمار المشافي، وفق محمد صديق.
جوعى بالسوكي
ولم تكن مدينة السوكي بأحسن حالاً، فهي تشهد أوضاع إنسانية سيئة مع صعوبة حصول سكانها على الاحتياجات المعيشية، وباتوا على حافة الجوع، بعدما كانت أحد سلال الغذاء في السودان كونها تضم مشروعاً زراعياً ضخماً، بحسب ما قاله أحمد بشارة وهو أحد مواطنيها لـ(عاين).
ويقول “سكان محلية السوكي يعتمدون بشكل أساسي على الزراعة، ولكن بسبب الصراعات التي شهدتها المنطقة، لم يقم أحد بزراعة الأراضي، مما أدى إلى ارتفاع جنوني في أسعار الذرة، حيث وصل سعر الشوال الواحد إلى 120 ألف جنيه سوداني، ومع ذلك فهي سلعة غير متوفرة أصلاً في الأسواق”.
ويضيف “تشهد المدينة ارتفاعاً في مجمل أسعار السلع الغذائية حيث استغل التجار الوضع الهش في المنطقة، وتوقف الأعمال والإنتاج، مما فاقم الأزمة المعيشية، كما تعاني المنطقة تردي في الخدمات العلاجية”.
وتابع “تشهد السوكي كذلك انقطاع في مياه الشرب، ويضطر السكان إلى قطع مسافات بعيدة لجلب المياه الصالحة للشرب، كما يلجأ البعض للشرب من المياه الراكدة والآبار مع الحيوانات والدواب مما يهدد صحتهم، كما ينقطع التيار الكهربائي، وعاد المواطنون للإضاءة التقليدية بالشموع والفوانيس البلدية”.
ويعد قطاع الزراعة من أهم ركائز الاقتصاد في ولاية سنار، وقد ساهم في ازدهاره وفرة الموارد الطبيعية مثل المياه والأراضي الخصبة، إذ تضم مساحات شاسعة من الأراضي الصالحة للزراعة تشكل نحو 62% من إجمالي مساحة ولاية سنار، و3% من إجمالي الأراضي الزراعية الصالحة في السودان، كما تضم سنار 80 بالمئة من إجمالي المساحات الغابية في البلاد، فضلاً عن ثروة حيوانية، ومناطق صناعية.
تأثر المشاريع
ويقول رئيس مبادرة تأهيل مشروع السوكي الزراعي، المهندس عمر هاشم في مقابلة مع (عاين) “إن تأثرت جميع المشاريع الزراعية في سنار بالحرب، وفشل الموسم السابق بسبب اجتياح قوات الدعم السريع للمنطقة، وازداد الوضع سواء في مشروع السوكي الذي يعاني حتى قبل اندلاع الحرب خاصة فيما يتعلق بنظام الري”.
وكشف عن تضرر المضخات الرئيسية، ولم يتم صيانتها بعد، كما انقطع التيار الكهربائي في مشروع السوكي، مما يكون له تداعيات كارثية على المشروع خلال المواسم الزراعية المقبلة، ويستوجب الإسراع في تأهيله.
ويضيف “نتيجة لتوقف مشروع السوكي الزراعي يعاني حوالي 12500 مزارع و700 ألف نسمة يعيشون في 136 قرية من توقف الزراعة، إذ يعتمدون عليها بشكل أساسي في معيشتهم. هذا التوقف أثر بشكل كبير على حياتهم المعيشية، ليس فقط المزارعين، بل أيضاً التجار والصناعيون وجميع أفراد المجتمع في سنار”.
من جهته، قال المهندس الزراعي محمد عثمان لـ(عاين) إن ولاية سنار تعاني أوضاع معيشية صعبة للغاية جراء الصراع المسلح وما صاحبه من عمليات نزوح واسعة وتوقف للعملية الزراعية والإنتاجية التي تمثل أساسا لحياة السكان في المنطقة.
وشدد أن الحرب رغم توقفها في ولاية سنار، إلا أنها ما تزال تواصل شل الحياة العامة للمواطنين هناك، فالجميع يعتمدون على التجارة والصناعة والرعي والزراعة، التي تتطلب مجهودات كبيرة من أجل إعادتها إلى سابق عهدها.